أنت تقرأ الآن:

الحدود البيلاروسية-البولندية المشتعلة.. كيف تستخدم الدول سلاح اللاجئين لتصفية الحسابات بينها؟

الحدود البيلاروسية-البولندية المشتعلة.. كيف تستخدم الدول سلاح اللاجئين لتصفية الحسابات بينها؟

في شهر مايو للعام الحالي، وفي أثناء رحلتها من العاصمة اليونانية أثينا إلى العاصمة الليتوانية فيلنيوس، أجبرت السلطات البيلاروسية طائرة شركة “ريان إير” على الهبوط في مينسك بعد بلاغ بوجود قنبلة. 

لم يُعثر على القنبلة داخل الطائرة، لكنهم وجدوا بين ركابها الناشط المعارض المطلوب لديهم رومان بروتاسيفيتش. 

اتُّهم الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو باختطاف المعارضين. لم تكن تهمة جديدة على لوكاشينكو بشأن كيفية تعامله مع معارضيه، فقد فرضت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا عقوبات عليه بعدما قمع معارضيه خلال المظاهرات التي اجتاحت بلاده رفضًا لنتيجة انتخابات الرئاسة البيلاروسية لعام 2020 التي أعلن فيها فوزه لفترة ولاية سادسة.

غضب الرئيس البيلاروسي من العقوبات معلنًا التوقف عن منع اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين من الوصول، مبررًا ذلك بأن العقوبات التي أقرَّتها الدول الغربية حرمت حكومته من الأموال اللازمة للحد من تدفقهم إلى حدود دول الاتحاد الأوروبي. منذ تلك اللحظة، تعلن بولندا ولاتفيا وليتوانيا عن ازدياد مستمر في أعداد اللاجئين الذين يحاولون عبور حدودها بتعمّد من بيلاروسيا التي يعد رئيسها المهاجرين واللاجئين بتسهيل دخولهم إلى هذه البلاد.

أيقن الاتحاد الأوروبي أن الرئيس البيلاروسي يدير “حربًا هجينة” باستخدام اللاجئين سلاحًا ضده، متاجرًا بالبشر برعاية الدولة، وأطلقوا على الرئيس البيلاروسي لقب “ديكتاتور أوروبا الأخير”. 

في المقابل تتهم بيلاروسيا دول الاتحاد الأوروبي بانتهاك حقوق الإنسان لأنها تمنع اللاجئين من الدخول إلى بلادها بأمان، وتنتهك بذلك قوانين اللجوء الدولية، حيث يصدهم ما يقرب من 20 ألفًا من قوات الأمن البولندية المنتشرة على طول الحدود، إضافةً إلى الدعم العسكري، ولم يُسمَح لصحفيين أو محامين أو عمال إغاثة أيضًا بالوصول إلى المنطقة الحدودية، ما دفع بعض المنظمات الحقوقية إلى مطالبة المجتمع الدولي بإنهاء الكارثة الإنسانية، خصوصًا مع اقتراب فصل الشتاء بدرجات حرارته المنخفضة، ما يعني مزيدًا من الموتى.

تفاقمت الأزمة في نوفمبر الحالي عندما ازدادت الأعداد بشكل مطرد. فعلى مدار أشهر، وسط الغابات الموحشة والمستنقعات العفنة، مع القليل من الغذاء، وانعدام الرعاية الصحية، داخل خيام ممزقة، ينتظر الآلاف من اللاجئين على الحدود البيلاروسية-البولندية، غالبيهم من العراق وسوريا واليمن وأفغانستان، أملًا في العبور إلى حدود دول الاتحاد الأوروبي. 

الحرب الهجينة والعقوبات الهزيلة 

أعلن الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة على شركات الطيران البيلاروسية والقادة المسؤولين عن تدفق اللاجئين إلى الأراضي البيلاروسية من خلال تسهيل شروط الحصول على التأشيرة، ما وفر طريقًا أكثر أمنًا للوصول إلى حدود الاتحاد الأوروبي، حتى إن فنادق تابعة للحكومة البيلاروسية استقبلت بعضهم عند وصولهم، حيث يتم تزويدهم بتفاصيل كيفية عبور الحدود، مع توزيع أدوات مثل قواطع الأسلاك والفؤوس لتسهيل اختراق الأسوار الحديدية، ثم يتم دفعهم إلى حدود بولندا ولاتفيا وليتوانيا. 

لم تكتف السلطات البيلاروسية بهذه الخطة، بل قررت تدمير السياج باستخدام الليزر والكشافات الساطعة بشكل مؤقت على الحدود بهدف إرباك الجنود البولنديين لتهريب اللاجئين إلى داخل الأراضي البولندية. 

سُمع صوت إطلاق نار من الجانبين، ربما في الهواء، لصد اللاجئين من الجانب البولندي لإبقائهم داخل الأراضي البيلاروسية، وتوجيههم من الجانب البيلاروسي إلى اختراق الحدود البولندية. 

لم تنجح السلطات البيلاروسية في مهمتها، لكنها تحاول مرارًا وتكرارًا علّها تفلح في إحدى المرات. فقد أبلغت الشرطة البولندية عن 223 محاولة عبور الحدود في يوم واحد. هذا الإصرار يدفعنا إلى التساؤل: ماذا تريد بيلاروسيا بالتحديد من الاتحاد الأوروبي؟   

الرئيس البيلاروسي يريد إجبار الاتحاد الأوروبي على الجلوس معه إلى طاولة المفاوضات لرفع العقوبات المفروضة على بلاده، والاعتراف به رئيسًا شرعيًّا للبلاد بعد أن أعيد انتخابه بطريقة غير شرعية في أغسطس من العام الماضى، إذ فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات عليه وعلى ابنه فيكتور لوكاشينكو الذي كان يشغل مستشارًا للأمن القومي، وعلى 179 فردًا ومؤسسة آخرين. 

وحتى قبل إعلان الرئيس البيلاروسي فوزه بالانتخابات الأخيرة، كان دائم الانتقاد لقيم الاتحاد الأوروبي، مرددًا أنه يحميه من تسلل المهاجرين غير الشرعيين وتجار المخدرات إلى حدوده الشرقية، لكنه لم يجد امتنانًا من الاتحاد الأوروبي في مقابل هذه المهمة التي يمكن فهمها أيضًا  في إطار تهديد يمكنه تنفيذه في الوقت المناسب.

بدأت هيبة الرئيس البيلاروسي في التآكل عندما نجحت سفيتلانا تيكانوفسكايا في توحيد الأصوات المعارضة في بلاده، والتخطيط للتغيير الديمقراطي والقضاء على الفساد، ثم تجرأت على منافسته على منصب الرئاسة بعد اعتقال زوجها سيرغي. 

على الرغم من أن بعض استطلاعات الرأي تشير إلى فوز سفيتلانا تيكانوفسكايا بنسبة تقترب من 80% من الأصوات، فإن الرئيس البيلاروسي أعلن فوزه بالانتخابات، وأجبر منافسته على الهروب إلى ليتوانيا، وقمع المظاهرات التي اجتاحت البلاد، واعتقل زعماء المعارضة الآخرين.

لم يجد الرئيس البيلاروسي وقتًا أنسب لتنفيذ تهديده ضد الاتحاد الأوروبي معلنًا الحرب بواسطة لاجئين، مستغلًّا الخلافات الداخلية بين الاتحاد الأوروبي وبولندا.

خلافات الاتحاد الأوروبي وبولندا 

منذ وصول مئات الآلاف من البشر الهاربين من ويلات الحروب على حدود الاتحاد الأوروبي في عام 2015، أضحت قضية اللاجئين الأكثر خلافًا بين دول الاتحاد الأوروبي، وفشلت جميع المحاولات لوضع سياسات مناسبة وقواعد مشتركة تتفق عليها جميع الدول، بسبب تمسك بعض الدول بقوميتها، وعلى رأسها بولندا. فكلما كانت تُناقَش التفاصيل عن عدد الدول التي يجب أن تستقبل هؤلاء اللاجئين، أو المزايا الاجتماعية التي يجب أن تُقدَّم إليهم، كانت تتعمد إفشال أي تقدم في هذه القضية. 

الآن، تطلب بولندا أموالًا من الاتحاد الأوروبي فقط لبناء جدار لحماية حدودها من أزمة اللاجئين التي ساهمت بنفسها في تفاقمها حتى وصلت إلى أبوابها، أو تستنجد بحلف شمال الأطلسي (الناتو) لإرسال قوات عسكرية بحجة أن سلامة أراضيها واستقلالها السياسي وأمنها القومي يتعرض للتهديد.

الحلول التي طرحتها بولندا تبدو في غير محلها. فبناء جدار لحماية حدودها لا ينسجم مع قيم الاتحاد الأوروبي الذي يفخر دائمًا باستقبال كل من يلجأ إليه، ونشر قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أوروبا الشرقية قد يثير غضب روسيا وحلفائها في المنطقة.  

تبالغ بولندا في استنجادها بالاتحاد الأوروبي، وكأن على أبوابها جيوشًا معلنة الحرب، وليس بضعة آلاف من اللاجئين العزل العالقين. 

هذه المبالغة في تفسير الأزمة مريحة لحزب القانون والعدالة اليميني الحاكم في بولندا لأنه يتخذ من الأزمة فرصة لتضامن المواطنين البولنديين معه بسبب تراجع شعبيته من ناحية، ويضع الاتحاد الأوروبي في مأزق على الساحة الدولية من ناحية أخرى، حيث يعترض الحزب على كثير من قيمه ومبادئه. 

إذن، يبدو أن الوقت الذي اختاره الرئيس البيلاروسي استراتيجي لإدارة حربه الهجينة ضد الاتحاد الأوروبي، مستغلًّا المشكلات الداخلية في بولندا، والخلافات بين الحكومة البولندية والاتحاد الأوروبي. 

المشكلات الداخلية في الاتحاد الأوروبي لن تدفعه إلى الاستسلام لابتزاز بيلاروسيا التي قد تتعرض لمزيد من العقوبات. فأزمة اللاجئين العالقين على الحدود الأوروبية ليست بجديدة، خصوصًا أن عدد اللاجئين لا يتعدى بضعة آلاف. 

أسِف الاتحاد الأوروبي على أرواح اللاجئين الذين ماتوا على حدوده الشرقية، حيث يعتبر إنقاذ الأرواح البشرية أولويةً مكتفيًا بالتحقيق لمنع مزيد من الموتى.

وعلى الرغم من قلة عدد اللاجئين، فإن المجتمع الدولي تدخّل سريعًا لحل تلك الأزمة. نشرت أوكرانيا ما يقرب من 8500 جندي إضافي على حدودها مع بيلاروسيا، و15 طائرة هليكوبتر، خوفًا من أن تصبح طرفًا في الأزمة، فهي ليست عضوًا في الاتحاد الأوروبي. 

وصفت ألمانيا المشهد على الحدود البيلاروسية-البولندية بالمروع، متهمةً الرئيس البيلاروسي بأنه يسيء إلى الاتحاد الأوروبي باستخدام اللاجئين لتهديد الاستقرار في الغرب، وفي الوقت نفسه شكرت مجهودات السلطات البولندية على حماية حدود الاتحاد الأوروبي، داعية العالم الديمقراطي إلى المشاركة في تنظيم عمليات الهجرة إلى أوروبا. 

دعت الولايات المتحدة الرئيس البيلاروسي إلى الوقف الفوري لحملته المنظمة في إجبار اللاجئين على التدفق داخل حدود الاتحاد الأوروبي، وأرسلت بريطانيا 10 آلاف من قواتها العسكرية إلى الحدود البولندية بطلب منها للمساعدة في إدارة الأزمة الحالية، إلى ذلك ألغت تركيا والعراق والإمارات وسوريا رحلاتها إلى بيلاروسيا.

روسيا تدخل على الخط

شعر الرئيس البيلاروسي بالإهانة من فرض العزلة الدولية على بلاده، فهدد بقطع إمدادات الغاز الطبيعي الروسي التي تمر من خلال بلاده إلى الدول الأوروبية. 

مع ذلك، أكد بوتين أنه لم يكن على علم بهذا التصريح، وتعهّد بالوفاء بعقود توصيل الغاز. حيث تمثل إمدادات الغاز الروسي ملفًّا حساسًا لدول الاتحاد الأوروبي لأنها تعتمد عليه مصدرًا مهمًّا للطاقة، على الرغم من الارتفاع المطّرد في أسعاره خلال الأسابيع الأخيرة، فلا يوجد حتى الآن بدائل حقيقية له.

يشك قادة الاتحاد الأوروبي في أن فكرة الحرب الهجينة من اقتراح الرئيس الروسي بوتين. فلقد أرسل قاذفتين روسيتين استراتيجيتين قادرتين على حمل رؤوس نووية إلى بيلاروسيا لتنفيذ مهمات دورية في 10 و11 نوفمبر، ثم وصلت قوات مظلات روسية إلى بيلاروسيا في 12 نوفمبر للمشاركة في تدريب عسكري. 

قبلها، تحديدًا في شهر إبريل، أبلغت أوكرانيا شمال حلف الأطلسي (الناتو) بوجود 100 ألف من الجنود الروس على الحدود الروسية-الأوكرانية، ثم سحبت بعضًا من قواتها بعد الانتهاء من التدريبات، ثم أرسلت مرة أخرى القوات ليصل عدد القوات في شهر نوفمبر من العام الجاري إلى 90 ألف جندي. 

وصورت الأقمار الصناعية أن الدبابات والمدفعية الروسية تحركت بشكل ملحوظ بالقرب من الحدود خلال شهر أكتوبر لدرجة أن رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وليام بيرنز، سافر إلى موسكو لتحذير قادة الأمن الروسي من أي تصعيد جديد.    

لا ينكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الرئيس البيلاروسي حليف قوي له، لكنه يرفض اتهام بلاده بتورطها في الأزمة، ويرى أن تصرفات بولندا والاتحاد الأوروبي “خنق” لبيلاروسيا. 

اتُّهم رئيس الوزراء البولندي علانيةً بأن الرئيس الروسي هو العقل المدبر لهذه الأزمة. بعدها بساعات اتصلت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، هاتفيًّا بالرئيس الروسي للمناقشة في أزمة اللاجئين، واقترح عليها اجتماع ممثلي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مع القادة في بيلاروسيا للتوصل إلى الحل. أو يمكن للاتحاد الأوروبي رشوة بولندا كي تستقبل اللاجئين كما اتفقت مع تركيا قبل أعوام تنفيذًا لاقتراح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

هذه هي الخيارات المُثلى من وجهة نظر الرئيس الروسي لمساعدة حليفه الرئيس البيلاروسي للحصول على الشرعية التي يريد إضفاءها على حكمه. ربما اكتفى الاتحاد الأوروبي حتى الوقت الحالي باتهامه بالوحشية أو تلقيبه برئيس عصابة، ما لن يؤثر في سمعته إطلاقًا، بل ربما استمتع بهذا اللقب، وفرض العقوبات في إطاره الحالي لن يؤذيه على الإطلاق، فلم يفرض الاتحاد الأوروبي حظرًا على التصدير مراعاة لمواطني بيلاروسيا. وربما لم يتعلم الاتحاد الأوروبي بعد كل هذه السنين كيفية التعامل مع قضية اللاجئين في إطار حق سيادة الدول الأعضاء في الدفاع عن حدودها مع الحفاظ على احترام حقوق الإنسان بما فيه الحق في طلب اللجوء بموجب القانون الدولي.  

إذا استبعدنا أن يطرح الرئيس البيلاروسي بعض الخيارات الأخرى كأن يعيد إرسال اللاجئين إلى بلادهم الأصلية عن طريق الأمم المتحدة، فليس من المحتمل إجراء محادثات مباشرة بينه وبين الاتحاد الأوروبي قريبًا. وإذا نظرنا إلى الأزمة بكل خيوطها، وعدّدنا الدول المستفيدة من الأزمة سنجد أن بولندا ضمن تلك الدول وليست بيلاروسيا وحدها. بولندا طرحت على الدول الأوروبية حلولًا لا يمكن تطبيقها، ورفضت الحل المنطقي التي اقترحه الاتحاد الأوروبي، وهو الاستعانة بالوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس)، وهي الوكالة المكلفة بمراقبة الحدود في منطقة شنغن الأوروبية، والتنسيق مع حرس الحدود وحرس السواحل في الدول الأعضاء، واستنجدت ببريطانيا التي خرجت من الكتلة الأوروبية. مشاركة الدول الثلاث: روسيا وبولندا وبيلاروسيا، في مشاعر واحدة هي كراهية قيم الاتحاد الأوروبي قد يجعل من احتمالية الاتفاق على خلق أزمة تخرج منها الدول الثلاث منتصرة، ويخرج منها الاتحاد الأوروبي مرتبكًا، مستخدمةً بضعة آلاف من اللاجئين سلاحًا، غير آبهين بأرواحهم. 

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter