أنت تقرأ الآن:

لماذا تصر فنلندا والسويد على الانضمام إلى حلف “الناتو” رغم تهديدات “بوتين”؟

لماذا تصر فنلندا والسويد على الانضمام إلى حلف “الناتو” رغم تهديدات “بوتين”؟

في صباح يوم السبت 14 من شهر مايو العام الحالي، أجرى رئيس جمهورية فنلندا “ساولي نينيستو” مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، انطلاقًا من حرصه على التواصل مع “جاره”، وذلك ليعبر فيها عن قلقه العميق لمعاناة الأوكرانيين من ويلات الحرب، وأبلغه برغبة بلاده الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). 

جاءت هذه المكالمة إثر التحذير الروسي لفنلندا من انضمامها للحلف باعتباره تهديدًا واضحًا للأمن القومي الروسي، إذ يمثل أكبر توسع أمني للحلف منذ عقود، ووُصفت الخطوة بـ”الخاطئة”، ما دام لا يوجد ما يهدد أمنها، لكن الرئيس الفنلندي لم يعتبر مكالمته الهاتفية طلبًا للإذن بخطواته السياسية.

حاول الرئيس الفنلندي أن يجعل حديثه مع نظيره الروسي مباشرًا وهادئًا، خاليًا من أي نبرة تصعيدية أو أي إشارة لخلق توترات، أو حتى أي تلميح لقطع الإمدادات الروسية للكهرباء عن بلاده، لكنه لفت نظر “بوتين” إلى أن من حق أي بلد توطيد أمنه بكل الوسائل المناسبة.

بعد ذلك بيومين، أعلنت السويد قرارها الانضمام إلى حلف “الناتو” استنادًا إلى تقرير أمني تم عرضه على البرلمان السويدي للمناقشة. يقترح الانضمام إلى حلف الناتو كأحد الخيارات السياسية لحماية أمن البلاد في ظل المتغيرات الأمنية الحالية. 

رحب الأمين العام لحلف “الناتو” “ينس ستولتنبرغ” بقرار فنلندا والسويد الانضمام إلى الحلف، ورأى أنه “خطوة تاريخية من حلفاء مقربين في وقت حرج”. وأظهر الرئيس الأمريكي جو بايدن حماسة وتفاؤلًا بشأن انضمام الدولتين إلى “أقوى حلف دفاعي في التاريخ”، والذي ليس من شأنه الهجوم على أي دولة، ثم وعد بتقديم الدعم الكامل والشامل لعضويتيهما، إذ تتمتع الدولتان بخبرة عسكرية كبيرة، وطائرات مقاتلة متطورة، ودفاعات إلكترونية معقدة، ما يخلق عمقًا استراتيجيًّا للحلف في منطقة البلطيق بحرًا وجوًّا وسيبرانيًّا، ويوطد الدفاع الجماعي الأوروبي في منطقة تكاد تسيطر عليها روسيا، ويساعد في تنسيق قرارات الحلف بشكل أسرع. 

وبسبب التهديد الروسي المحتمل الذي قد يقع على فنلندا والسويد، قرر سفراء حلف “الناتو” التصويت المبكر وتسريع تنفيذ قرار الانضمام في غضون أسبوعين فقط، في حين أنه من المعتاد أن يستغرق قرابة عام كامل، إذ يحتاج إلى موافقة جميع أعضاء الحلف الذين يبلغ عددهم 30 عضوًا، ثم التصديق عليها من خلال برلمانات الأعضاء.

بدأ البلدان في تكثيف الزيارات الدبلوماسية إلى الدول الأعضاء في حلف الناتو، مثل الولايات المتحدة وإيطاليا وألمانيا، وذلك أملًا في تسريع إجراءات التصديق على طلب الانضمام، كأفضل وسيلة لضمان الأمن والسلام والاستقرار، باعتباره ردًّا واضحًا على الغزو الروسي لأوكرانيا الذي غيّر المشهد الأمني في القارة الأوروبية.

لكن المفاجأة هي أن السلطات التركية بعد ساعات من إعلان فنلندا والسويد قرارهما الانضمام إلى الحلف، منعت سفراء الحلف من بدء المحادثات بسبب ما اعتبرته “مخاوف أمنية”. 

حاول الأمين العام لحلف “الناتو” تدارك الموقف، واحتواء المخاوف والحساسيات التي أثارتها تركيا، وذلك بالتأكيد على ضرورة اغتنام هذه اللحظة التاريخية عن طريق توسيع الحلف، وضرورة التوصل إلى نتائج سريعة في إطار مراعاة المصالح الأمنية لجميع الأعضاء.

السؤال هنا: ما تلك المخاوف الأمنية التي بسببها تعرقل تركيا طلبات فنلندا والسويد الانضمام لحلف “الناتو”؟ 

تستضيف فنلندا والسويد على أراضيهما أفرادًا لهم صلات بحزب العمال الكردستاني المسلح، والذي يترأسه “فتح الله غولن” المتهم بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016، ورفضت الدولتان تسليم 30 إرهابيًّا للسلطات التركية. 

لم يقف الخلاف بين تركيا من ناحية وفنلندا والسويد من ناحية أخرى عند هذا الحد، بل يرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قرار البلدين حظر تصدير الأسلحة إلى “أنقرة”، والذي صدر عام 2019 بسبب العمليات العسكرية التركية في سوريا، وإمداد قوات الدفاع الشعبي في سوريا، الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني، بالسلاح تهديدًا أمنيًّا مباشرًا لبلاده.

بهذه المبررات تؤكد تركيا أن فنلندا والسويد ليستا من حلفائها، كما اعتبرهما الأمين العام لحلف “الناتو”، لكن في المقابل لم تغلق تركيا باب المفاوضات في وجه رغبة البلدين الانضمام، إذ طلب المتحدث الرسمي باسم الرئيس التركي تعهدًا من البلدين بمزيد من السيطرة على ما اعتبره “أنشطة إرهابية”، مقابل تسهيل طلبيهما.

مع ذلك يشعر البلدان بالتفاؤل تجاه رد فعل تركيا التي من حقها استخدام حق النقض ضد طلبيهما، إذ يعتقد قادتهما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيقدم بعض التنازلات على المستوى الدولي مقابل كسب مزيد من التأييد المحلي، خصوصًا مع اقتراب خوضه الانتخابات الرئاسية في العام المقبل.

على الأرجح أن البلدين على استعداد للتفاوض والمساومة كذلك، حيث أعلن قادتهما النية لتعزيز العلاقات مع تركيا في ملفات تتضمن التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب.

السؤال هنا: لم كل هذا الإصرار في الانضمام إلى حلف “الناتو” رغم التحديات والعقبات التي تعرقل طريق البلدين؟ 

على الرغم من تصريح “بوتين” بأن انضمام فنلندا والسويد إلى حلف “الناتو” ليس تهديدًا في حد ذاته، فإنه أكد أن انتشار أي بنية تحتية عسكرية على أراضيهما سيتم مواجهته بكل حزم.

لطالما حافظت كل من فنلندا والسويد على موقف محايد ومتوازن بين الغرب وروسيا، إذ فضّلت الدولتان البقاء خارج حلف “الناتو” منذ تأسيسه في عام 1949 تجنبًا لأي استفزاز محتمل وغير ضروري لموسكو، وسعت إلى اتباع الدبلوماسية والحوار ونزع السلاح النووي، والقيام بدور الوسيط في النزاعات الدولية. 

يمكن تفسير رغبة الدولتين الإسكندنافيتين الانضمام إلى حلف “الناتو” باعتبارها أكبر انتصار جيوسياسي للغرب بعد غزو روسيا لأوكرانيا. فلم تفكر الدولتان في الإقدام على تلك الخطوة حتى في أكثر اللحظات توترًا خلال الحرب الباردة، على الرغم من قربهما الجغرافي من الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان يطلق عليهما هجمات عسكرية، وكانت النتيجة أن تعرضتا لغزو عسكري سوفييتي شامل. 

في الوقت الحالي يمثل الغزو الروسي لأوكرانيا نقطة تحول في عقلية الدولتين لاعتقادهما أن “بوتين” مستعد للهجوم على أي دولة مستقلة مجاورة. ومن ناحية أخرى تم افتراض أن هجوم روسيا العسكري نابع من هدفها إجبار أوكرانيا على التخلي عن طلبها المحتمل المستقبلي للانضمام إلى حلف “الناتو”، وبالتالي، فإن المشهد الحالي ينبئ بنتيجة عكسية، وهي توسع الحلف ومضاعفة الحدود الجغرافية المباشرة بين روسيا والدول الأعضاء.

خلال الحرب الباردة حذر دبلوماسيون من أن توسع حلف “الناتو” سيتسبب في رد فعل سلبي من الاتحاد السوفييتي السابق، وكان اتجاه الغرب حينها احتواء المرحلة. وبالتالي، فإن مضاعفة الحدود الجغرافية المباشرة في الوقت الحالي يعتبر صفعة شخصية لـ”بوتين” الذي ركز كل جهوده منذ توليه رئاسة روسيا عام 2000 على تقويض التحالف الغربي، ليجد نفسه في النهاية محاصرًا من الغرب.

تفترض القوى الغربية أن “بوتين” أضعف من أن يرد ضد توسع “الناتو”، باعتبار فشله في السيطرة على العاصمة الأوكرانية “كييف” حتى هذه اللحظة، وإخفاقه في بعض العمليات العسكرية خلال الغزو. 

تكمن الإشكالية في هذه الفرضية في أنها لا تضع في الحسبان أن روسيا قوة نووية عظمى، وأن هدوء “بوتين” قد يتم تفسيره في إطار ثقته بإمكانيات بلاده النووية على الساحة العالمية، إذ إن قرارًا محتملًا لنقل صواريخ نووية أو صواريخ باليستية تكتيكية على حدودها مع حلف “الناتو” قد يغير المشهد بحيث يضع القارة الأوروبية على حافة الهاوية.
ربما ينتظر “بوتين” لحظة إزالة غموض الحيادية التي كانت تتبناها الدولتان، واجتماع كل الأسباب التي تبرر انتقامه في المستقبل القريب أو البعيد من خلال إطلاق هجمات إلكترونية محتملة أو إدارة حرب مختلطة تنفذها الوحدات الخاصة وجنود المرتزقة. وما زالت روسيا تمتلك الورقة الرابحة في مجال الطاقة التي لا يمكن إغفالها في صراعها مع الغرب الذي يستمر في محاولاته للبحث عن مصادر أخرى للطاقة بهدف تقليل اعتماده على “العدو” الروسي.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter