أنت تقرأ الآن:

مدن الخليج العملاقة.. تاريخ التخطيط الحضري في المدن العربية

مدن الخليج العملاقة.. تاريخ التخطيط الحضري في المدن العربية

أماكن كثيرة في الخليج العربي أصبحت اليوم مدنًا عملاقة، وتعد مراكز للتجارة والأعمال والسياحة، على الرغم من أن بعضها ربما يكون ذا عمر قصير بدرجة لافتة. وإذا كانت الدول العربية عمومًا تشهد حركة انتقال واسعة للسكان نحو المراكز الحضرية، حيث يعيش أكثر من 58.8% من السكان في الحواضر، فإن الخليج هو صاحب أكبر نصيب من هذا الانتقال، فقد بلغت درجة التحضر في السعودية مثلًا 83.3%، ووصلت في الكويت إلى 100%.

تطورت المدن نفسها بالتوازي مع هذه التحولات الديمغرافية لتصبح أكثر قدرة على استيعاب ساكنيها، إضافةً إلى غيرهم من السائحين والعمال الوافدين، فانتشرت الأنماط المعمارية المميزة للمدن العملاقة، والتي يمكن رؤيتها بوضوح مثلاً في دبي كما في نظائر هذه المدن في العالم، مثل هونغ كونغ أو سياتل. تتميز هذه المدن عمومًا بكثافة سكانية مرتفعة، وتعتمد غالبًا على اقتصاد خدمي، بجانب السياحة.

نعرض هنا ثلاثة نماذج لهذه المدن، ونحكي تطورها منذ بدايتها قديمًا كتجمّع بسيط للسكان، ونموها التدريجي حتى تناطح السحاب كمراكز حضرية عملاقة.

الرياض: من كيلومتر واحد إلى مدينة عملاقة

بدأت الرياض بالتحول إلى مركز حضري منذ القرن التاسع عشر، خصوصًا بعد 1824، عندما جعلها الإمام تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود عاصمة الدولة السعودية الثانية، وقد كانت قبل ذلك تتكون من مجموعة من القرى الصغيرة المتناثرة في منطقة وادي حنيفة. وبطول القرن العشرين، ستشهد المدينة تطورًا مذهلًا، فمن مساحة تقتصر على كيلومتر مربع واحد فقط في 1902، يقطنه 14,000 نسمة، ستتوسع الرياض لتغطي مساحة 1,500 كيلومترًا مربعًا، يعيش عليها نحو 4,300,000 نسمة، بحلول العام 2000.

لكن مم كانت تتكون الرياض القديمة ذات الكيلومتر الواحد؟ كانت المعالم الرئيسية للمدينة هي قصر المصمك وقصر الحكم والمسجد الجامع الذي كان يتصل بقصر الحكم عن طريق جسر، ويحيط بالاثنين مجموعة من المباني الحكومية ومباني الإدارة، ويتوسط المدينة ميدان العدل الذي كان سوقًا كبيرة وملتقًى لاجتماع أهل المدينة ومناسباتهم.

بعد أن اتخذها الملك عبد العزيز آل سعود كرسيًّا لحكمه في 1902، تعرضت المدينة للتجديد، ثم بدأت بالتوسع منذ الثلاثينيات خارج أسوارها، فبني قصر المربع على مسافة 2 كيلومتر شمال المدينة القديمة، ما شجع على تعمير المنطقة الواقعة بينهما، وهي منطقة الفوطة، حيث بنى أبناء الملك عبد العزيز بعض قصورهم هناك.

كان بناء قصر المربع مقدمة للتوسع خارج الأسوار القديمة، إذ شعر المواطنون للمرة الأولى أنهم قادرون على الخروج إلى ما وراء الأسوار، فكانت النتيجة انتشارًا للبناء في جميع الجهات. فبني قصر الناصرية غربًا، واستخدمت فيه الخرسانة المسلحة للمرة الأولى في المدينة، وترتب عليه امتداد المدينة نحو الغرب. كان هذا في الخمسينيات، عندما أنشئ أول المطارات كذلك في الجزء الشمالي، ورُبطت المدينة بالدمام عن طريق القطار.

وبعد أن اعتلى الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود عرش المملكة في 1953، قرر نقل جميع مباني الإدارة والوزارات من مكة إلى الرياض، فعمل على تصميمها المعماري المصري سيد كُريِّم، ونفذتها شركة “المقاولون العرب” في شارع الملك عبد العزيز، والذي يصل المدينة بالمطار. تبع ذلك مشروع إسكان ضخم من أجل الموظفين المنقولين، وكان هذا بداية مشروع «الملاذ» الذي عُرف لاحقًا باسم الرياض الجديدة.

كانت هذه المرة الأولى التي تعرف فيها الرياض «العمارات السكنية» التي تتكون من أكثر من طابق وأكثر من شقة لكل طابق. بعد ذلك قرر الملك سعود بن عبد العزيز إعادة بناء الناصرية وتوسيعها. ومع الزيادة الكبيرة في حجم المدينة زادت الحاجة إلى العمالة، فبدأ التوسع الحضري متبعًا نموذج الرياض الجديدة، أي العمارات السكنية، إضافةً إلى الفيللات للموظفين الأعلى شأنًا.

ومع ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات، شهدت الرياض طفرة هائلة في الإنشاءات طوال الثمانينيات والتسعينيات حتى اليوم، لتصبح ما هي عليه الآن.

مسقط: قصور قديمة وقصور جديدة

احتل البرتغاليون الساحل العماني في 1508 حتى طردهم في 1650، وظلت بعض آثارهم قائمة في مسقط إلى اليوم، في هيئة مجموعة من القلاع على الجبال الساحلية. ومع طرد البرتغاليين، توسع السلطان لمد حكمه على زانزبار والساحل الشرقي لإفريقيا، في وقت كانت عمان فيه أقوى الإمبراطوريات في منطقة الخليج العربي. لكن مع موت السلطان سعيد بن سلطان، بدأ نفوذ عمان في التضاؤل تدريجيًّا، وانفصلت عنها زانزبار في 1960.

ظلت عمان ممزقة حتى 1970، تعاني من الصراعات الداخلية والفقر والأوبئة، فكانت معزولة عن جيرانها، وتزايد تمزقها مع اكتشاف البترول في الستينيات، فانفجر التناحر الداخلي بصورة غير مسبوقة، حتى تولى السلطان قابوس بن سعيد الحكم في 23 يوليو 1970، فوعد ببداية جديدة للسلطنة.

يشبه تخطيط مسقط غيرها من المدن الإسلامية لهذه الفترة، فهي مدينة محاطة بأسوار، يكون الدخول إليها عبر بوابات رئيسية، وقد استخدم في بنائها المواد المعروفة محليًّا، والتي عكست نمط حياة سكانها القائم على التجارة والصيد والزراعة والرعي. بعدما اتخذها السلطان قابوس عاصمةً ستلقى مسقط اهتمامًا خاصًّا، وتتوسع لتتحول إلى إقليم يتجاوز المدينة القديمة، فتصبح المحافظة التي تشمل ولايات مسقط ومطرح والعامرات وبوشر والسيب وقريات.

بدأ السلطان قابوس مشروعات إنشاء واسعة للبنية التحتية. من أوائل هذه المشروعات ميناء السلطان قابوس في مطرح. ولجأت السلطنة إلى استشارة المعماري المصري حسن فتحي الذي قدَّم خطة موسعة للتنمية في عمان.

لجأ السلطان قابوس إلى مجموعة أخرى من الاستشاريين كذلك، منهم جون هاريس الذي قدم خطة خمسية لتنمية المدينة (1967 – 1972) وافق عليها السلطان، وهدفت إلى تحويل مدينة مسقط القديمة إلى مساحة مخصصة حصرًا للمباني الحكومية والسكن الفاخر، وتحويل المحافظة إلى مركز ثقافي، إضافةً إلى اعتبارها مقرًّا للحكومة.

في 1972، أعيد بناء قصر العلم مقرًّا للحكم، وهو القصر الواقع بين قلعتي الميراني والجلالي اللتين بناهما البرتغاليون في القرن السادس عشر. وكانت منطقة روي، كامتداد لمطرح، أول التوسعات الحضرية في 1977. وفي الثمانينيات لجأت الحكومة إلى مجموعة من الاستشاريين لتخطيط مشروعات أخرى وتنفيذها، مثل شاطئ القرم والخوير الجنوبية ومدينة النهضة.

وعبر مزيد من المشروعات التنموية التي استمرت منذ الثمانينيات حتى اليوم، استطاعت مسقط أن تحافظ على موقعها محورًا للاقتصاد والأعمال والسياحة في سلطنة عمان.

المنامة: كيف مهَّد تأميم الأراضي للتنمية؟

قبل نشأة مدينتي المنامة والمحرق في 1783 تقريبًا، كان سكان البحرين موزعين في 50 تجمعًا سكنيًّا تقريبًا، معظمها قرى صغيرة وكفور بموازاة الساحل، إذ كان الاقتصاد يعتمد على الزراعة وصيد الأسماك حتى اكتشاف البترول. تطورت المنامة القديمة وفق هذه الاحتياجات، ليعكس تخطيطها تأثير النمو التدريجي لنظام الري وتقسيم الأرض للزراعة، وتوجد المراكز الحضرية المبكرة حول عيون الماء، كعين مبارك وعين علي وعين مقبل.

استمرت هذه المرحلة حتى أواخر القرن التاسع عشر، مع امتداد النفوذ البريطاني في البحرين، والتدخل المتزايد للبريطانيين في السياسة الداخلية البحرينية. وبسبب موقعها الاستراتيجي وتهديد القوى الاستعمارية الأخرى، حاول البريطانيون أن يجعلوا من المنامة ميناء لهم في المنطقة، تُخطط على هيئته مزيد من المدن في الخليج العربي. صاحب تلك الإنشاءات ذلك التحول الذي حدث للاقتصاد عقب اكتشاف البترول في 1931.

بدأت الحكومة البريطانية عملية استرداد واسعة للأراضي التي كانت تحت الملكية الخاصة، إما لأنها احتاجت إلى هذه الأراضي من أجل مشروعات أو إنشاءات، وإما لأسباب صحية تتعلق بسرعة انتشار الأوبئة في البحرين بسبب الرطوبة العالية والحرارة، ما دفع السلطة إلى محاولة السيطرة على المساحات العامة. مع الاسترداد الواسع للأراضي تشكَّل خط بين المدينة والساحل، وأصبح ما يُعرف اليوم باسم “شارع الحكومة”، لتتلاحق الإنشاءات على جانبيه بعد ذلك.

كذلك، فإن المناطق الحضرية الحالية، مثل الحورة والماحوز والقضيبية، تدين بوجودها إلى عملية استرداد الأراضي نفسها التي أجرتها السلطة البريطانية. وفي الفترة نفسها، أنشئت منطقة “باب البحرين” مكانًا مخصصًا للإدارة السياسية.

بعد استقلال البحرين في 1971، استمرت الحكومة الوطنية في تطوير المدينة، فأنشأت منطقة للوزارات والسفارات في الشمال الشرقي لباب البحرين، وهي المنطقة نفسها التي ستشيد فيها أولى الفنادق الفاخرة، مثل شيراتون وديبلومات وكراون بلازا، عندما كانت السياحة تظهر قطاعًا قويًّا من قطاعات الاقتصاد البحريني.

تشكِّل المنامة القديمة الآن 10% فقط من المساحة الحالية للمدينة، ما يشير إلى حجم التوسع الذي تعرضت له المدينة، والذي استمر حتى اليوم بمشروعات أكبر حجمًا، مثل ميناء البحرين المالي، أو مركز التجارة العالمي، حيث تتابع البحرين نمط التطور المعتمد على المشروعات فائقة الضخامة، والذي أصبح معتمدًا الآن في مدن الخليج.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter