أنت تقرأ الآن:

من لبنان والعراق وفلسطين: ثلاثة أفلام قصيرة تواجه الحرب بالحب والفن

من لبنان والعراق وفلسطين: ثلاثة أفلام قصيرة تواجه الحرب بالحب والفن

منار خالد

عندما تشتد وطأة الواقع وتصل إلى ذروتها يشعر كل فنان بأن عليه أن يتصدى لها عن طريق الفن، والحرب أكثر الوقائع تأثيرًا في شعوب الأراضي المحتلة، تزيد من وطأة الواقع وقسوته، فيستشعر أصحاب الأرض بأنه لا بد من المقاومة والثورة على مراكز الأوضاع. يثور الفنان على أوضاع مجتمعه بأدواته الفنية لطرح رؤى جديدة مقاومة، محاولًا أن يهدم بعض التراتبيات الاجتماعية التي تكونت إبان الحروب والاحتلال ويقدم بفنه نظرة مختلفة تبني أسسًا ومعايير جديدة.

وفقًا لذلك المنطلق قدمت كل من لبنان وفلسطين والعراق ثلاثة أفلام قصيرة تدور أحداثها حول الحروب وطرق مواجهتها والتصدي لها.. وذهب كل فيلم منهم لتقديم أطروحة جديدة نحو رؤيته لماهية الحروب، حيث اشترك الثلاثة في قضية واحدة هي مواجهة الحرب، لكن كلًّا منها على طريقته الخاصة وبعينه السينمائية.

الفيلم اللبناني “Elle” (هي).. الحرب في عيون الأطفال

طوال مشاهدتي الفيلم اللبناني “هي”، من إخراج وائل عساف، لم أستطع إسكات جملة سعدالله وهو يقول: “إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”. حيث تطرق الفيلم لأزمة الحرب الأهلية في لبنان من وجهة نظر الأطفال، وتدور الأحداث حول طفل يحب ابنة خالته الطفلة يلعبان معًا ويناما بجوار بعضهما كل ليلة. تحلم الطفلة بأن تصبح أميرة عندما تكبر تحمل تاجًا على رأسها كالأميرات، وأن يرسمها ابن خالتها بهذا التاج لتضع الصورة أمامها وتثبت على حلمها.

يتشاركان الحديث عن الأحلام التي لا علاقة لها بالحرب، وكأنها غير موجودة من الأساس، يحقق لها الطفل ذلك المراد، يتخذ كل منهما مصدر أمان من الآخر، فلا يخافان الحرب مقارنةً بالكبار، لكن تبقى للحرب وجهة نظر أخرى تتسبب في أن يفترقا، وتسافر الطفلة إلى كندا، لنجد الطفل مصممًا على عدم حدوث ذلك ومقاومته القدر والحرب، فيذهب إلى دكان مجاور لبيته يرهن عنده “إسكتش الرسومات” الخاص به مقابل أن يشتري لمحبوبته الصغيرة “تاجًا” تضعه على رأسها هدية لذلك الوداع المؤقت. يرهن الطفل حلمه مقابل تحقيق حلمها ليبقي على استمرار الأمل.

لعبت الصورة السينمائية في ذلك الفيلم دورًا مهمًّا في أن تثبت أن الفيلم بأكمله يقدم من وجهة نظر الأطفال لا الكبار، واتبع الفيلم أسلوب سرد الأحداث عن طريق “الفلاش باك” وقيام البطل بدور الراوي لقصته مع محبوبته، حيث إن أسلوب السرد في ذلك الفيلم يعتمد على تسجيل الأحداث التي وقعت في الماضي بلسان الزمن الحاضر، لكن بالماضي كما هو. لذلك، فربما كان صوت الطفل بعد أن أصبح شابًّا في الخلفية يكسر التماهي عند المتلقي ويخرجه من حالة التعايش مع الأطفال الكاملة.

لكن ما أنقذه أنه لم يقدم وجهة نظره كشاب مطلقًا طوال سرده الأحداث. فهو راوٍ عليم بكل ما يقوله، لكنه في الوقت ذاته متمسك بـ”أنا الطفل” الساردة لا “أنا الشاب” التي تعلق على الحدث، أي إنه لم يعتمد على تقديم هِوية جدية لأحداث الماضي، والدليل على ذلك عدم ظهوره في مرحلة الشباب، واهتمام زوايا التصوير بضرورة الاقتراب من عيون الأطفال، ولم يأت مشهد واحد به أي صراخ ولا خوف للأطفال، بخلاف المشهد الوحيد الذي حدثت به غارة، وكان الطفلين في الشارع، والذي تم تقديمه أيضًا وكأنه مغامرة بينهما لا علاقة لها بالحرب وما يعانيه الآخرون.

عملت جميع عناصر الفيلم على إبراز ماهية الأمل الحقيقية، ومنذ اللحظة الأولى، في الفيلم وسرد البطل للأحداث. فبمجرد أن يقوم البطل بذلك، فهذا دليل حتمي على أنه ما زال على قيد الحياة، وكونه يتذكر تلك القصة ويرويها، فهذا يعني أنه ما زال يحلم بالعودة واللقاء، وكونه لم يظهر طوال أحداث الفيلم “شابًّا”، فهذا يؤكد أن حلم الطفولة هو المسيطر، بل المستحوذ على تفكيره. فالطفل ما زال يحيا رغم مرور السنوات، وبذلك بقي الأمل، وما حدث منذ زمن بعيد لم يكن نهاية التاريخ كما قالها ونوس.

الرقصة الأخيرة.. وثائقي يرقص أمام المعتدي

وثَّق المخرج “أحمد السمار” محاولة فتاة في سن المراهقة مواجهة الحرب في بغداد برقصة بالية، تدرس تلك الفتاة في مدرسة باليه تتعلم بحب ذلك الفن، لكن لسوء حظها يتم فصلها من المدرسة، فتقرر حينها أن تذهب إلى قلب ميدان الحرب، وتقدم رقصتها الأخيرة. تواجه المعتدي بسلاحها الأوحد الذي لا تمتلك سواه، وهو “الفن”. 

يرتكز الفيلم في أساسه على قضية مأساوية تتمثل في معاناة العراق بأكملها من وجهة نظر تلك الفتاة الصغيرة، وهو تماس مع الفيلم السابق في نفس الاتجاه، لكن الفارق هنا أن الفيلم الأول لم يقدم أي احتكاك بين الأطفال والحرب، بل قدم الحرب من أعينهم قصة حب عذبة هادئة لا وجود فيها للحرب.

أما “الرقصة الأخيرة”، فأراد أن يشتبك مع الحرب بصورة فعلية، لكن على طريقته الخاصة. ويعد المشهد الأهم على الإطلاق في الفيلم مشهد “رقصة” الفتاة في قلب الميدان، وهي ترتدي حلتها البيضاء للمرة الأولى خارج حدود مدرستها، وتقف في الشارع تؤدي رقصتها الأخيرة.

يمتاز المشهد في تصويره بتعارض الصورة مع الصوت، حيث قدم لقطة عامة للشارع توضح حالة الحرب والدمار من حول الفتاة الراقصة، وفي الوقت ذاته، فهي تحتل النقطة المركزية ومحط الاهتمام في الصورة، لا مهمشة على الإطلاق، وجاءت الخلفية متمثلة في الدخان والخراب، أي جمعت الصورة بين عالمين متناقضين تمامًا، بين الأشد قسوة والأكثر عذوبة في آن واحد، وتمركز الفتاة في نقطة المنتصف جعلها هي المسيطرة على العالم بأكمله في هذه اللحظة.

في الوقت ذاته قدّم شريط الصوت موسيقى عذبة تصلح للرقصة، واقتطع أصوات العامة في الميدان لزيادة التأكيد على سيطرتها من جهة، ومن جهة أخرى ليؤكد أنها موجودة في ذلك العالم جسديًّا، لكن روحها تحلّق برقصتها في مكان أهدأ، وبالتالي ظهر الناتج العام لذلك التعارض ليحقق المعادلة الصعبة في ابتكار طريقة جديدة لمواجهة الحرب برقصة باليه.

“مونولوجات غزة”.. وثائقي يعالج هموم شعب فلسطين بالمسرح

الفيلم الوثائقي “مونولوجات غزة”، من إخراج “يوسف نتيل” و”إيمان عوف”، تتبع رحلة صعود فرقة مسرحية فلسطينية تأسست منذ عشر سنوات، واليوم أصبح أعضاء الفريق شبابًا من الرجال والنساء يسردون أثر انضمامهم للفريق في مواجهتهم الحرب والحياة. في لقاء مع كل منهما داخل الفيلم بمقاطع توثيقية مهمة أعرب كل شخص عن مدى امتنانه للمسرح، حيث كان نظام التدريب بهم يعتمد على أن يكتب كل ممثل مونولوجاته لنفسه، ثم يقدمها تمثيليًّا على خشبة المسرح، وسميت هذه المونولوجات داخل الفريق بـ”مونولوجات غزة”.

ووفقًا لما قالوه عن تجربتهم نجد أن أثر المسرح لم يقف عند حد التمثيل، باعتباره الفن الأوحد الذي يقدم إلى الجمهور بشكل آني وحيّ، ما يُحدث تفاعلًا حميميًّا لم يتحقق في أي فن آخر. عندما يعتلي شخص خشبة مسرح، ويواجه الجمهور ليعبّر عما بداخله من ضجر وحزن، يعبّر عن موقفه من المستعمِر والحرب، فبالتأكيد هو أمر فارق، وهذا بالفعل ما حاول كل من أعضاء الفريق التأكيد عليه في أثناء تصوير المشاهد التوثيقية معهم.

أما عن النقطة الأهم، فهي “المونولوج”. فكتابة الممثل مونولوجه بذاته حالة تنفيسية شديدة الأهمية في حياة كل منهما، إذ يعد المونولوج في فن المسرح إحدى أهم ركائزه التي تتبنى صوت الممثل الداخلي، وتعبر عن مناجاته ليظهرها أمام المتلقي في صورة كلمات. وبذلك، فإن طريقة كتابة المشاعر المكبوتة عن الحياة والحرب وصياغتها في مونولوج وتخطيها حاجز الخوف لتظهر للنور وتلقى على مسامع الجمهور، أمر أشبه بالعلاج لأعضاء الفريق.

من هنا يمكن القول إن محاربة الحرب من وجهة نظر القائمين على تأسيس الفريق كانت عن طريق علاج أعضاء الفريق لأنفسهم وكسر حاجز الخوف وجعلهم قادرين على التواصل مع الآخر. فوفقًا لمبادئ أرسطو في التراجيديا اليونانية القديمة أن التراجيديا تُقدم على المسرح لتُحدث التطهير، وكذلك مونولوجات غزة التي عاونت هؤلاء على إحداث التطهير النفسي لهم أولًا ثم لمتلقيهم ثانيًا.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter