أنت تقرأ الآن:

يوم احتل المريخ الأرض – إلى متى سنصدق؟

يوم احتل المريخ الأرض – إلى متى سنصدق؟

إلى أي درجة تصدّق ما تقوله محطتك الإخبارية المفضلة؟ ما درجة ثقتك فيها؟ وإلى أي مدى تقدر على تمييز الأخبار المزيفة والمشكوك فيها من السليمة الموثوقة؟

غزو فضائي

قبل أن تجيب عن هذه الأسئلة بثقة، سنعود إلى 30 أكتوبر 1938، في أمريكا.

في الثامنة مساء على محطة “Columbia Broadcasting System” الإذاعية الأمريكية، أعلن مذيع بدء حفلة موسيقية، لكن بعد دقائق منها، يقطع الموسيقى صوت مذيع أخبار قلق يردد: “أعزائي السادة المشاهدين، نقطع الإرسال لننقل إليكم هذا النبأ العاجل”.

تحدث المذيع عن رصد التلسكوبات أجسامًا غريبة خرجت من كوكب المريخ وتقترب من الأرض بسرعة شديدة، ثم عادت إذاعة الموسيقى.

بعد دقائق، انقطعت الموسيقى مرة أخرى بينما يتحدث مراسل مع شخص وصفه بأنه “بروفيسور في الفلك بإحدى الجامعات الكبرى”. تكلم هذا البروفيسور المزعوم عن الأجسام الغريبة التي دخلت غلاف الأرض الجوي ويبدو أنها ستهبط في ولاية نيوجيرسي، بعدها انتقل الإرسال إلى ما يفترض أنه مكان الهبوط. هناك وصف المذيع شكل الأجسام الغريبة، ثم وصف فتح أبوابها وخروج كائنات خضراء منها ليس لها مثيل على الأرض. حوله اندلعت أصوات طلقات الرصاص والهلع والصراخ، وقال إن الكائنات الخضراء تقترب منه بالأسلحة الليزرية… ثم انقطع الإرسال.

تابع مذيعو الأخبار سرد أحداث غزو سكان المريخ ذوي القوة الخارقة لكوكب الأرض، وتدميرهم الولايات المتحدة وشرطتها وجيشها، بطريقة تشبه نشرات الأخبار العادية، لكن تفاصيلها أغرب من الخيال!

في اليوم التالي، تحدثت الصحف الأمريكية عن حالة ذعر حدثت خلال ساعة إذاعة البرنامج، لكثير من المواطنين الذين لم يسمعوا مقدمة الحلقة التي تذكر أنها عمل خيالي، بل حسبوها، لواقعية تنفيذها، حقيقة.

تلقت أقسام الشرطة في الولايات المتحدة آلاف المكالمات من مواطنين مرعوبين يتساءلون عن حقيقة الغزو الفضائي لدرجة أن رجال الشرطة أنفسهم، في واحدة من المكالمات المسجلة، أجابوا المتصلين بأنهم لا يعرفون شيئًا وينصتون مثلهم إلى الراديو بحثًا عن مزيد من المعلومات!

مرة أخرى

والآن، أتظن أن مثل هذه الخدعة قابلة للتكرار بعدما صارت حديث الإذاعة والصحف إثر تنفيذها الأول؟

الإجابة: نعم

في 12 فبراير 1948، بمدينة كيتو عاصمة الإكوادور. كانت حينها مدينة صغيرة ليس فيها إلا محطة إذاعية واحدة. قرر أصحاب المحطة تنفيذ الخدعة نفسها في مدينتهم على سبيل المزاح، وأجروا تعديلًا على السيناريو الأمريكي الأصلي ليصبح ذا طابع إسباني ملائم، وجاءوا بممثلين ليقلدوا صوت عمدة المدينة وقيادة شرطتها.

النتيجة كانت أكثر كارثية بمراحل من النسخة الأمريكية. فقد خرج الناس من البيوت في هلع، يصرخون في الشوارع باحثين عن طريقة للنجاة، ولجأ منهم الآلاف إلى الكنائس للدعاء والصلاة، ومنهم من جمع ممتلكاته على عجل وبدأ في الهروب من المدينة. اعترف عدد من الأزواج لزوجاتهم بالخيانة، متوقعين موتهم بعد قليل.

وللدفاع عن المدينة، خرجت قوات الشرطة والمطافئ والجيش في الدبابات والشاحنات إلى الجبل، شمال البلاد، بعدما قالت الإذاعة أن المريخيين الخضر قد هبطوا.

عندما بلغ الإعلاميين ما يحدث في الشارع أوقفوا البرنامج فورًا، وأعلنوا أن كل ما سبق كان مزحة لا أساس لها من الصحة، طالبين من الجماهير العودة إلى البيوت. لكن الناس كانوا هائجين بالفعل، وتصريح الإذاعة كان بمنزلة دلو واحد من المياه يحاول إطفاء سعير عارم.

اكتشاف الجماهير أنهم كانوا ضحية خدعة أدى فقط إلى تحويل ذعرهم المشتت إلى غضب موجه نحو محطة الراديو، فاتجهت الحشود الغاضبة نحو مبنى المحطة؛ اقتحموها، حطموا معداتها، وأشعلوا النار فيها! وعندما استغاث الإذاعيون بقوات الأمن لحمايتهم، لم يجدوا من يرد عليهم، فقد كانوا هناك على الجبل الشمالي يبحثون عن الفضائيين.

هرب كثير من الموجودين في مبنى الإذاعة بالقفز من النوافذ، وأصيب منهم كثيرون، ومات ستة.

أما ليوناردو باز، الكاتب الإذاعي مبتكر النسخة الإسبانية، فاستطاع الهروب من المبنى نافيًا نفسه إلى الأبد في فنزويلا، بعد أن فقد في الحريق حبيبته وأحد أبناء أشقائه.

ويلز وويلز

العرض الأمريكي الأصلي مقتبس من رواية “حرب العوالم” لكاتب الخيال العلمي الشهير إتش. جي. ويلز، ومن أعاد كتابتها للراديو وقدمها بهذا الشكل كان الشاب المغمور حينها “أورسون ويلز” الذي سيصبح لاحقًا واحدًا من أهم مخرجي السينما في التاريخ. بعد العرض مباشرة، أكد أورسون الصغير أن تلك كانت مزحة بريئة، ولم نكن نقصد إثارة أي قلق. وفي 1955، بعد أن صار فنانًا كبيرًا شهيرًا بما يكفي ليتحدث دون خوف، علَّق أورسون ويلز على خدعته القديمة قائلًا: “عندما قدمنا العرض الإذاعي، لم نتخيل أن كل هؤلاء الناس سيتحمسون مثلما حدث، حسبنا أن بعض المخابيل ربما ينزعجون قليلًا من هذه الشائعات… أظن أننا استخففنا بهيبة الراديو في ذلك الوقت؛ كل ما كان يقال على الراديو كان يؤخذ كحقيقة فورًا”.

عرض ويلز كان هجومًا مباشرًا على أولئك الذين يصدقون كل ما يسمعون على الراديو، وسيلة الإعلام الأكبر وقتها، دون تفكير أو تروٍّ.

إن كان هذا رأي أورسون ويلز في النصف الأول من القرن العشرين، فماذا كان سيقول إذا رأى ما يحدث في أيامنا هذه؟

كيف كان سيعلق على غرف الأخبار في المواقع الإلكترونية الصفراء التي تسعى لتحقيق أعلى زيارات، فيطلق معلقوها لخيالهم العنان، ويؤلفون المثير من الأخبار بغض النظر عن حقيقتها؟ في أمريكا مثلًا فترة انتخابات 2016، انتشرت كمية هائلة من المواقع المؤيدة لترامب التي تنشر الأخبار الزائفة عنه، عندما تم تتبعها، تبين أنها لم تكن ذات غرض سياسي، بل كان صاحبها ببساطة مراهقًا من بلدة صغيرة في مقدونية، وجد أن تأييد ترامب يحقق “Traffic” عاليًا، فصار يخترع الأخبار ويضعها في إعلانات مدفوعة على شبكات التواصل، لتنهمر عليه عوائد الإعلانات.

كيف كان ليعلق على الشبكات الإخبارية الضخمة التي تُحرِّف الأخبار وتؤلفها، بما يناسب غايات قلة تبغي نشر الفرقة والحروب والقطيعة بين الأشقاء، ما يحقق مكاسب خاصة؟

كيف كان ليعلق على الرسائل التي تعج بها مجلدات “Spam” في صناديق البريد التي لا تزال تخبرك أنك إن لم تشاركها مع عشرة غيرك سيصيبك سوء الحظ، وتحوي صورة ثمرة طماطم معدلة بالفوتوشوب لتحوي في داخلها اسم الله؟

نحن دون شك نعيش في أزهى عصور الإعلام، ولذلك هو أزهى عصور الإعلام الكاذب أيضًا. مثلما توجد ألف طريقة لتقديم الأخبار بنزاهة وسرعة، توجد مليون طريقة لتحريفها وتفكيكها وإعادة ترتيبها لتوصل رسالة أو فكرة بعينها؛ تقودك إلى الهلع وقت الأمان.

في زمن القلاقل والفتنة والحروب، من فضلك، فكر ثم فكر ثم فكر، قبل أن تصدق.

مصادر

https://www.smithsonianmag.com/history/infamous-war-worlds-radio-broadcast-was-magnificent-fluke-180955180/

https://www.history.com/this-day-in-history/welles-scares-nation

https://en.wikipedia.org/wiki/The_War_of_the_Worlds_(1938_radio_drama)#Plot_summary

https://www.wnycstudios.org/podcasts/radiolab/articles/war-worldshttps://www.wired.com/2017/02/veles-macedonia-fake-news/

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter