أنت تقرأ الآن:

إسرائيل حائرة.. كيف وضعت الحرب الروسية تل أبيب في مفترق طرق؟

إسرائيل حائرة.. كيف وضعت الحرب الروسية تل أبيب في مفترق طرق؟

أماني أبو النجا

على مدار ثماني سنوات ماضية عملت إسرائيل على بناء علاقات متماسكة مع روسيا، لا سيما بعد بسط “موسكو” سيطرتها على سوريا منذ عام 2015، ليلعب الجيش الروسي دورًا محوريًّا على الحدود الشمالية لإسرائيل، وهو نفس المكان الذي يمثل أهمية استراتيجية خاصة لدى الجيش الإسرائيلي أيضًا.

العلاقات “الدافئة” التي حرصت الحكومة الإسرائيلية على إقامتها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ عام 2014، بدأت بزيارة الأخير إلى “تل أبيب”، مستغلةً ميوله للصداقة مع اليهود، ما ينهي عقودًا طويلة من العداء والاضطهاد منذ عهد القياصرة الروس وخلال حكم الاتحاد السوفييتي.
وبحسب محللين، فقد نجحت الحكومة الإسرائيلية في استمالة “بوتين” في عدة مواقف، كان أبرزها ترتيب لقاء بينه وبين معلمته للغة “الألمانية” عندما كان ضابطًا، وهي يهودية مهاجرة إلى إسرائيل. 

لكن محاولات إسرائيل استرضاء “بوتين” لم تكن بسبب تعاطفه مع اليهود فقط، أو حتى نتيجة منح الرئيس الروسي امتيازات للمواطنين الإسرائيليين تتمثل في السفر إلى روسيا دون الحاجة إلى تأشيرة، وهو ما لم تفعله الولايات المتحدة. 

فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لديها مصلحة ملحّة مع “موسكو” تتمثل في تنسيق الجهود والتعاون، وتأمين وجودها العسكري في الجولان لصد أي تهديدات قادمة من سوريا الملتهبة منذ سنوات. ومن أجل ذلك بادر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بنيامين نتنياهو، بزيارة “موسكو” عام 2015، عقب الوجود الروسي في سوريا وتعزيز القدرات الجوية لجيش النظام السوري، حيث تم الاتفاق بالفعل على تنسيق العمل العسكري في سوريا، وإنشاء آلية مشتركة لمنع سوء التفاهم وحل أي نزاع بين الطرفين الإسرائيلي والروسي.

“قوة حائرة” بين حلفائها ومصالحها

وإذا استطاعت الحكومة الإسرائيلية أن تصم آذانها عن ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، بتغيّبها عن التصويت على قرار يدين التصرف الروسي وتخليها للمرة الأولى عن الانضمام إلى حليفتها الأولى أمريكا في التصويت، فإنها لم تتمكن من اتّباع نفس السياسة، لا سيما مع الحرب الشاملة التي تشنها روسيا على أوكرانيا حاليًّا، بل قد تجعل هذه الحرب إسرائيل في مفترق طرق بين مصالحها مع روسيا من جانب، وروابطها مع أوكرانيا من جانب آخر، وحليفتها الأساسية، وهي الولايات المتحدة الأمريكية ثالثًا، إضافةً إلى التصادم مع التيارات الإسرائيلية التي تنادي بضرورة انحياز “تل أبيب” لقيم الديمقراطية الغربية وعدم تجاهل الانتهاكات الناجمة عن غزو دولة مسالمة مقابل الإبقاء على جسرها المدود مع “موسكو”.

وقد بدأت أسباب تلك التوترات في الظهور على السطح، واضعةً العلاقات بين “تل أبيب” و”موسكو” على المحك. فتصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد، والتي أدان فيها الغزو الروسي لأوكرانيا، واصفًا إياه بـ”الانتهاك الخطير للنظام الدولي”، جاءت مختلفةً عن لهجة الحذر التي تبنّتها إسرائيل بقيادة “نفتالي بينيت”، رئيس وزرائها الذي حرص على عدم إدانة روسيا في العلن أو ذكر اسمها في أي جملة انتقاد، الأمر الذي قوبل برد فوري من جانب الخارجية الروسية التي أعلنت بدورها عدم اعترافها بسيادة إسرائيل على “الجولان”، وإدانتها بشكل واضح ومباشر خطط التوسع الاستيطاني خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي. 

ويضع هذا التصعيد السياسي مزيدًا من الضغوط على إسرائيل المجبرة على أخذ موافقة الجانب الروسي أولًا، حتى تستطيع تنفيذ أهدافها الاستراتيجية المتمثلة في ضرب القوات المدعومة من إيران في سوريا، ومنع أنظمة الأسلحة الإيرانية الصنع من الوصول إلى “حزب الله” عبر الأراضي السورية، وهي أهداف كان سلاح الجو الإسرائيلي يحققها بصعوبة قبل نشوب الحرب في أوكرانيا لعدم ارتياح روسيا لتلك الضربات من الأساس، إلا أن العلاقات الجيدة بين “بوتين” و”نتنياهو” كانت تسهل ذلك إلى حد ما.

ومن جهة أوكرانيا تعد إسرائيل من الدول القليلة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع “كييف” و”موسكو” على حد سواء. فصداقة إسرائيل مع أوكرانيا لا تتوقف عند الروابط الاقتصادية والتجارية القوية فحسب، بل إن البلدين مترابطان بشكل وثيق دبلوماسيًّا وثقافيًّا، وهي رابطة تعززها حقيقة أن آلاف اليهود الأوكرانيين هاجروا إلى إسرائيل، وأن أوكرانيا نفسها تعد موطنًا لعدد كبير من اليهود. ومن هنا تجد إسرائيل نفسها في موقف مرتبك نتيجة عدم وقوفها بشكل واضح في صف “كييف”، ما أثار استياء السفارة الأوكرانية في “تل أبيب” بالفعل، وعبَّرت عنه قائلة: “نأمل حقًّا أن يفعلوا شيئًا يشبه حلفاءنا الغربيين”.  

والضغوط من جانب أوكرانيا على إسرائيل قد بدأت قبل الحرب، وذلك عندما طلبت السلطات الأوكرانية من “تل أبيب” دعمها في تعزيز دفاعاتها الجوية وأمنها السيبراني، من خلال الحصول على منظومة الدفاع الجوي الصاروخي “القبة الحديدية”، الأمر الذي رفضته الحكومة الإسرائيلية لتجنب الدخول طرفًا في الصراع الدائر مع روسيا.

انقسام داخلي يعزز حالة الحيرة

وإذا كان تباين موقفي وزير الخارجية ورئيس الوزراء تجاه الأزمة مجرد مناورة سياسية لعدم خسارة أيٍّ من طرفي النزاع، فإن ذلك لا ينفي حقيقة الانقسام الحاد في الداخل الإسرائيلي بين مجموعة تحذر من جر “تل أبيب” للنزاع مع “موسكو” بسبب حرب ليست الأولى طرفًا فيها، وأخرى متمسكة بدعم المعسكر الغربي المحتشد بكل قوته ضد روسيا، إضافةً إلى نظر المسؤولين الإسرائيليين بعين الاعتبار إلى ردود أفعال المواطنين الإسرائيليين الناطقين بالروسية، والذين يشكلون حوالي 12% من ناخبيها.

ولعل تصريحات وزير الخارجية، يائير لابيد، الخارجة عن إطار لغة الحرص الإسرائيلي، مفهومة إذا علمنا أنه يقود حزب “يش عتيد” أو “هناك مستقبل” الذي يمثل الصهيونية العلمانية ذات الميول اليسارية، والتي شكلت إسرائيل منذ تأسيسها حتى سبعينيات القرن الماضي، وهو التيار الذي يقدم إسرائيل كـ”دولة حريصة على التعامل مع أزمات النظام العالمي وانتصاراته، تمامًا مثل أي دولة أخرى”.

أما رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، والذي يقود حزب اليمين، فيمثل الصهيونية الدينية والقومية التي سادت طوال 45 عامًا الماضية، والتي ترى أن دور إسرائيل هو حماية اليهود، قبل أي شيء، ولو على حساب تنفير الحلفاء، الأمر الذي يفسر تصريحات “بينيت” المتكررة، والتي ركّز فيها على تقديم كل أوجه الدعم لليهود في أوكرانيا، وتسهيل هجرتهم إلى إسرائيل، دون التطرق إلى تفاصيل تجعله ينحاز لطرف ضد آخر. بل إنه استبعد إمكانية فرض عقوبات على روسيا، قائلًا: “إسرائيل حريصة على قيمها الديمقراطية، لكن لديها اعتبارات أخرى”. 

وبالرغم من طلب الولايات المتحدة من إسرائيل المشاركة في رعاية قرار لمجلس الأمن يدين الغزو الروسي، فإن الأخيرة امتنعت عن ذلك، بل إن وزارة الخارجية الإسرائيلية قررت تخفيض مستوى تمثيلها الدبلوماسي في النقاش الطارئ الذي أجرته الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الحرب، وذلك خشية أن يقوم السفير الإسرائيلي، جلعاد أردان، العضو البارز في حزب “الليكود” المعارض لحكومة “بينيت” بتوريط إسرائيل في خلاف مع روسيا خلال كلمته.

وفي نفس السياق أيدت “أورنا مزراحي”، نائبة مستشار الأمن القومي لإسرائيل، موقف “تل أبيب”، مؤكدةً ضرورة أن “تسير إسرائيل في الاتجاه الذي يجعل روسيا تغمض عينيها عن الضربات الإسرائيلية في سوريا، والامتناع عن مساعدة أوكرانيا بمنظومة الدفاع الإسرائيلية المتطورة”.

وإذا كان عدد من الساسة والمتخصصين تبنوا موقف الحكومة الإسرائيلية من الحرب الروسية، واضعين مصلحة إسرائيل مع “موسكو” في المقام الأول، فإن هذا الموقف الرمادي لم يلق ترحيبًا لدى بعضهم، وعلى رأسهم “ناتان شارانسكي”، وهو وزير سابق، وترأس الوكالة اليهودية لإسرائيل، والذي انتقد الموقف الرسمي الإسرائيلي بشدة، مؤكدًا أنه “شعر بالحرج الشديد في الأيام الأخيرة من أنه في هذه اللحظة الخطيرة من مستقبل العالم، وفي هذه اللحظة من التجلي الأخلاقي، فإن إسرائيل ليست مستعدة لقول ذلك بوضوح”.

لم يكتف السياسي السابق بهذا الانتقاد، بل ذهب إلى مطالبة إسرائيل بالانضمام إلى سياسة العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا، إضافةً إلى العمل على تزويد أوكرانيا بنظم دفاعية مضادة للصواريخ أثبتت كفاءتها خلال مواجهات إسرائيل مع “حماس” و”حزب الله”، ووافقه في اتجاهه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود أولمرت، الذي أكد أنه “لا ينبغي لإسرائيل أن تتنازل عن معاييرها الأخلاقية خوفًا من إغضاب بوتين”.

صدام مؤجل أم فرصة لتفاهمات جديدة؟

لقد وضعت الحرب الروسية الأوكرانية إسرائيل في اختبار الاختيار الصعب بين حلفائها المتصارعين، وبينها وبين ذاتها، بل أظهرتها في صورة المتخلي عن أقرب أصدقائها في موقف الشدة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، التي لطالما حملت على عاتقها مسألة أمن واستقرار إسرائيل منذ نشأتها، وكذلك الحال بالنسبة إلى دول أوروبا الغربية التي ساندت الدولة اليهودية على امتداد أزماتها. ولذلك، فإن طول أمد الحرب ربما يدفع إسرائيل إلى محاولة تحسين صورتها لدى حلفائها الغربيين، وربما ينعكس ذلك على مصالحها مع روسيا بشيء من التوتر، وقد عبَّر عن ذلك كبير الباحثين بمعهد إسرائيل للأمن القومي “إلداد شافيت” الذي قال إن “الروس ربما يستخدمون الشرق الأوسط كرسالة إلى الولايات المتحدة، لما يمكن أن يفعلوه في أجزاء أخرى من العالم، مثل أن تقوم روسيا بما يتجاوز إعاقة إسرائيل، بتشجيع إيران ووكلائها على العمل ضد القوات الأمريكية في المنطقة وضد إسرائيل كذلك”. 

إن كلمة وزير الخارجية الإسرائيلي التي أدان فيها الهجوم الروسي أثارت قلق مصادر دفاعية إسرائيلية من أن “موسكو” قد ترد بخنق العمليات الإسرائيلية في سوريا. لكن الحكومة الإسرائيلية التي تفكر من منطلق مصلحتها، تدرك جيدًا أن ميزان القوى لم يعد بيد أمريكا وحدها، وأن الأمر يتطلب الإبقاء على علاقتها بروسيا قدر الإمكان. لذلك، فهي ترحب بدور الوسيط بين طرفي النزاع، ربما لتجد مبررًا أمام العالم ونفسها للوقوف على “الحياد”، ومن جهة أخرى، فإن لعب إسرائيل دور الوسيط قد يصنع لها تفاهمات جديدة، ليس مع روسيا فقط، بل مع الولايات المتحدة كطرف يستطيع التواصل المباشر مع روسيا، خصوصًا مع سعي “واشنطن” المستمر إلى حل دبلوماسي ينهي الحرب.

وعلى أي حال، فإن قيام إسرائيل بدور الوسيط أمر محفوف بالمخاطر بالنسبة إليها. فإلى جانب وصف بعضهم لهذا الدور بأنه “غير مريح“، يحذر مسؤولون وكتّاب إسرائيليون من عدم امتلاك إسرائيل الأدوات الدبلوماسية التي تمكّنها من ذلك بشكل صحيح في هذه الأزمة المعقدة، وأن الدول ذات الخبرة الدولية الكبيرة، مثل فرنسا وتركيا، قد فشلا في وقف الصراع. 

وقد عبّر عن ذلك أحد المعلقين الإسرائيليين قائلًا: “من ناحية، رفع (بينيت) مكانته الدولية وفاز بنقاط سياسية داخل إسرائيل، ولكن من ناحية أخرى يخاطر بشكل كبير، ليس فقط بنفسه كسياسي، ولكن بدولة إسرائيل ومكانتها في العالم. لقد دخل رئيس الوزراء في الوحل الأوكراني دون أن يعرف تمامًا مدى عمقه”.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter