أنت تقرأ الآن:

الصداقة الحذرة.. التقارب الصيني-الروسي في مواجهة الغرب أم في مواجهة إحداهما الأخرى؟

الصداقة الحذرة.. التقارب الصيني-الروسي في مواجهة الغرب أم في مواجهة إحداهما الأخرى؟

في أكتوبر من العام المنصرم، نفّذت السفن الحربية الصينية والروسية تدريبات عسكرية مشتركة غرب المحيط الهادئ قرب اليابان. انتقدت اليابان وحلفاؤها في الغرب هذه التدريبات ووصفوها بالتحركات غير العادية، على الرغم من تأكيد الصين وروسيا حفاظهما على السلام والاستقرار في المنطقة.

بعد هذه الحادثة بأقل من شهر، أرسلت الصين وروسيا قاذفات قنابل (طائرات عسكرية تستهدف إسقاط القنابل على مواقع أرضية أو بحرية ومراكز اقتصادية في أراضي العدو) إلى منطقة الدفاع الجوي اليابانية. وبينما كان وزير الدفاع الياباني “نوبو كيشي” يجدد قلق بلاده بشأن التحركات الصينية-الروسية مؤكدًا الخطورة المتزايدة للوضع الأمني في المنطقة خلال مؤتمر صحفي، كان وزيرا الدفاع الصيني والروسي يحتفلان بالتقارب الأمني خلال عام 2021، ووصفاه بالإنجاز الضخم الذي أثمر توقيع معاهدة جديدة تستمر حتى عام 2025، وتستهدف تعزيز العلاقات العسكرية الدفاعية التي تتعلق بتكثيف المناورات الحربية المشتركة، وتطوير طائرات هليكوبتر عسكرية، ونشر أنظمة الإنذار المبكر من الصواريخ الحربية، وإنشاء محطة أبحاث على سطح القمر. هكذا سمح التحالف لروسيا بإظهار تأثيرها العسكري للمجتمع الدولي، وسمح للصين بالاستفادة من التكنولوجيا العسكرية المتقدمة لروسيا.

لم ينحصر التقارب بين الصديقين في المجال العسكري، بل شمل النواحي الدبلوماسية والسياسة الخارجية مثل ملفات إيران وسوريا وفنزويلا وكوريا الشمالية. أما في التعاون الاقتصادي، فإن الصين أكبر مستورد للأسلحة الروسية، وثاني أكبر مستورد للغاز الروسي، إذ إنها أكبر شريك تجاري في الاستثمار في مشروعات الطاقة، مثل مشروع “يامال” الروسي للغاز الطبيعي المسال في المنطقة القطبية الشمالية التابعة لروسيا، بإنتاج يصل إلى 5.5 ملايين طن من الغاز الطبيعي المسال سنويًّا بقيمة 55 مليار دولار تقريبًا. وهو المشروع الأكبر في تاريخ روسيا، حتى وصلت العلاقة بين الرئيس الصيني “شي جين بينغ” والرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إلى درجة الصداقة، إذ التقيا أكثر من 30 مرة منذ عام 2013. 

ومن خلال التحالف عزز النظامان السياسيان في الصين وروسيا وجودهما واستقرار شرعيتهما. ويبدو الانسجام كذلك بين الشعبين الصيني والروسي، حيث تشير استطلاعات الرأي العام إلى أن معظم أفراد الشعبين لديهم انطباع جيد تجاه أحدهما الآخر.  

معًا في مواجهة الغرب

على الرغم من أن العلاقات الصينية-الروسية كانت تتسم بالحذر المتبادل، خصوصًا بعد صراع على أراض حدودية كاد يفجّر حربًا نووية في الستينيات من القرن الماضي، تسارعت وتيرة التقارب بين البلدين في الوقت الحالي بعد العقوبات التي نفّذها الغرب ضد روسيا إثر ضمها “شبه جزيرة القرم” في عام 2014، فقد توسع الاستثمار الصيني في روسيا لسد الفجوة التكنولوجية في مشروعات الغاز الطبيعي المُسال التي خلّفها انسحاب الشركات الغربية منها.

وتساعد روسيا الصين في تشتيت الانتباه السياسي للولايات المتحدة وحلفائها كي تفسح المجال للصين لتوسع نفوذها الجيواقتصادي في منطقة المحيط الهادئ الهندي التي يصر الغرب على احتواء التأثير الصيني المتنامي فيها.

ربما وطدت المصالح الاقتصادية المشتركة العلاقات بين روسيا والصين، لكنهما اتفقتا كذلك على تحدي الهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية من خلال مواجهة القيم الليبرالية التي يروج لها الغرب، وبالتالي، فإن المصلحة في هذا التحالف معركة أيديولوجية يراد بها تقليص الهيمنة الغربية. لكن التقارب في كل الأحوال زاد من قلق الدول الغربية، حيث أعلنت منظمة “حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، وهي منظمة عسكرية دولية تتفق فيها الدول الأعضاء على الدفاع المتبادل ضد أي هجوم خارجي، أن التحالف الروسي-الصيني هو أكبر تهديد للولايات المتحدة.

لم تعلن روسيا والصين تحالفًا رسميًّا ضد الغرب، لكن منظمة “حلف شمال الأطلسي” تكثف جهودها لمواجهة تحركات روسيا من ناحية، وتتوسع في تحالفاتها مع دول منطقة المحيط الهادئ الهندي للتصدي لنفوذ الصين من ناحية أخرى. 

وعلى الرغم من التقارب بين الصين وروسيا، تفضل روسيا الحفاظ على توازنها الجيوسياسي على مسافة بين القوتين الصينية والأمريكية، أي إنها تتحرك على الساحة الدولية بصفتها لاعبًا منفردًا. ففي ظل التنافس الجيوسياسي الصيني-الأمريكي، إذا اختارت روسيا سيناريو التحالف مع الولايات المتحدة، ستتحول فيه الصين إلى خصم أسوأ بكثير من استمرارها في مواجهة الولايات المتحدة وجميع حلفائها، أما إذا اختارت سيناريو التحالف مع الصين، فإنها ترهن مصيرها بنتيجة التنافس بين الصين والولايات المتحدة. 

لكن كل هذه الحسابات قد تتغير وفقًا لأزمة ما قادمة تدفع روسيا إلى اتخاذ قرار مختلف، على سبيل المثال: إذا أسرعت الولايات المتحدة في تحرك عسكري ضد الصين، فعلى روسيا الاختيار حينها بين الصين والولايات المتحدة. لكن روسيا دائمًا ما تفضل الحفاظ على التوازن الحيوي في تعاملها مع العلاقة العدائية المتنامية بين الصين والولايات المتحدة.

روسيا كطرف ثالث

حينما أعلنت الولايات المتحدة رغبتها في استخدام قواعد عسكرية في آسيا الوسطى، بما فيها القواعد الروسية، عقب انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان في شهر أغسطس من العام الحالي بهدف مراقبة تطورات الأوضاع في المنطقة، رفضت روسيا الأمر لتعزيز وجودها العسكري في آسيا الوسطى، وتطوير التدريبات العسكرية المشتركة مع الصين، وبالتالي، فإن الهدف يصب في إفساح المجال للصين دبلوماسيًّا وعسكريًّا في المنطقة.  

وعندما أعلنت أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في سبتمبر من العام الماضي “الاتفاقية الأمنية المشتركة” (أوكوس) التي تعزز الوجود العسكري الغربي في منطقة المحيط الهادئ، وهي المنطقة التي تعتبرها الصين منطقة مصالحها ونفوذها، أصرت الولايات المتحدة وحلفاؤها على تطوير ونشر غواصات تعمل بالطاقة النووية في بحر الصين الجنوبي بهدف احتواء التأثير الصيني في المنطقة. لكن مع احتمال مرور الغواصات الأسترالية في مياه المحيط الهادئ التابعة لروسيا ودخول القطب الشمالي الروسي، لا يمكن لروسيا تجاهل الاتفاقية التي تستهدف الصين. لذا، فقد أعلن سكرتير مجلس الأمن الروسي “نيكولاي باتروشيف” أن التحالف الغربي ضد بلاده وضد الصين على حد سواء. وذلك على الرغم من أن نفوذ روسيا محدود في المنطقة، إذ تلتزم دائمًا بدور هامشي أو حيادي في الصراعات، خصوصًا إن كانت الصين طرفًا فيها.

حيادية روسيا تُفهم أحيانًا باعتبارها خيانة ودليلًا قاطعًا على اعتماد روسيا المتزايد على الصين كشريك أساسي في اللعبة السياسية، مثل اقتناع الهند في خلافها مع الصين عندما تدهورت العلاقات الصينية-الهندية في عام 2020 بسبب الاشتباك الحدودي في منطقة جبال “هيمالايا”، بينما تسيطر القوات الصينية على أراضٍ في مواقع متعددة على طول الحدود الصينية الهندية، لم تستطع روسيا التحالف مع جانب، إذ تخاطر بعلاقاتها مع الجانب الآخر الآخر، خصوصًا أنها تحتفظ بعلاقات استراتيجية مع الطرفين، واختارت تنظيم لقاءات تشاورية ثلاثية لتسهيل الاجتماعات رفيعة المستوى داخل روسيا. لكن رفض الصين إشراك طرف ثالث قد يُفسر وجهة نظر الصين في نفس إطار فكرة الخيانة الروسية.

حبر على ورق

على مدار العام الماضي، وقّعت الصين وروسيا كثيرًا من الاتفاقيات وأعلنت عن العديد من المشروعات، لكن معظمها لم يترجم على أرض الواقع. وبالتالي يمكن تفسير التحالف أن روسيا تسعى فقط لتنويع علاقاتها الدولية، سواء مع الصين أو الهند أو اليابان أو دول جنوب شرق آسيا سعيًا منها للحفاظ على استقلالية قراراتها السياسية والاقتصادية.

في الوقت الذي يبدو فيه التحالف بين الصين وروسيا قويًّا، تخشى روسيا جانب الصين أكثر من الولايات المتحدة، إذ يزداد النفوذ الاقتصادي للصين داخل روسيا مع ذبول النفوذ الروسي في آسيا الوسطى. 

فليس من السهل تحقيق توازن صحي في العلاقات بين الصين وروسيا، خصوصًا من الناحية الاقتصادية، ويمكن للصين إملاء شروطها على روسيا التي تحتاج بشدة إلى السوق الصينية لبيع مواردها النفطية. وتجد روسيا محاولاتها للتقرب من دول العالم الثالث غير مجدية إذا لم تتوافق مع مصالح الصين. وتضطر روسيا في علاقاتها الدفاعية مع الهند إلى تحمّل قلق الصين، خصوصًا بشأن بيع أسلحتها العسكرية المتقدمة، وعدم التوسع في تعاونها بسبب توتر العلاقات الصينية-الهندية.

في المقابل، تشعر روسيا بالقلق تجاه ازدياد التأثير الصيني في دول الاتحاد السوفييتي السابق التي تعتبرها روسيا منطقة نفوذها. وتتوجس روسيا من خطط الصين في توسيع نفوذها في منطقة القطب الشمالي التي تسيطر عليها روسيا كلاعب أساسي.      

في هذا الإطار، يمكن الاستنتاج أن التحالف الصيني-الروسي ليس قائمًا على الثقة، إذ يخشى بعض القادة الروس في الجيش تنامي قدرات الصين العسكرية على الساحة الدولية للدرجة التي يمكنها منافسة الأسلحة الروسية.

ولم تستطع روسيا مواجهة الصين بشأن انتهاكها لحقوق الملكية الفكرية في عام 2019، وذلك في نسخ محركات طائرات دفاعية وصواريخ الدفاع الجوي لمؤسسة روستيخ، وهي مؤسسة حكومية روسية أسست عام 2007 تتخصص في تصنيع وتصدير المنتجات الصناعية ذات التقنيات العالية والطابعين المدني والعسكري، واكتفت روسيا بمحاولة إيجاد مصالح مشتركة أخرى.

وتنشط الصين في تجنيد جواسيس يحملون الجنسية الروسية، وتتعمد النشر المكثف لمراكز تعليم اللغة الصينية داخل روسيا بهدف الترويج لأفكارها، وتستخدم الطلاب الروس كوسائل للإعلام الصيني، بينما تحارب وصول الإعلام الروسي إلى داخل بلادها. 

في الوقت الحالي، الإنفاق الدفاعي في الجيش الصيني يقدّر بأربعة أضعاف إنفاق روسيا على جيشها، فإذا استمر الحال على هذه الوتيرة، ستتطور قدرات الجيش الصيني بمراحل تتفوق فيها بكثير على الجيش الروسي.  

لا يمكن الاستنتاج أن روسيا أصبحت مجرد تابعة للصين، فهي تمتلك تاريخًا طويلًا من الاستقلالية عن الوصاية الأجنبية، لكن الصين تتخذها شريكًا صامتًا يتجاهل تجاوزاتها في كسر قواعد القانون الدولي خلال رحلتها لقيادة المجتمع الدولي. يمكن تفسير هذه النتيجة بأن الصين ربما ترى في روسيا شريكًا أصغر منها، أو تريد إذلالها بضمها في تحالف تبدو فيه طرفًا مطيعًا انتقامًا منها لأحداث تاريخية تعتبرها مهينة.   

وتطالب بعض الأصوات داخل الحزب الشيوعي-الصيني بعودة الأراضي الصينية التي ضمها الروس لأراضيهم، ومنها مدينة “فلاديفوستوك” التي تقع شرق روسيا حاليًّا، تنفيذًا لمعاهدة وقَّعتها الدولتان ما بين عامي 1858 و1860، خلال الفترة التي يُطلق عليها “قرن الإذلال”، وهي فترة التدخل الروسي وقوى أجنبية أخرى في الصين بين عامي 1839 و1949.

ويبدو أن روسيا لا تشعر بالارتياح لحليفتها، إذ يكثف الجيش الروسي تدريباته العسكرية استعدادًا لصراع محتمل مع الصين. 

وبالتالي، تبدو نقطة عدم الثقة بين الحليفين الصيني والروسي واضحة، وانطلاقًا منها يكثف الغرب جهوده لاستغلال محاولات إقناع الروس بشكل غير مباشر بمخاطر الاعتماد على الحليف الصيني، ليس حرصًا على مصلحتها، بل لتفكيك تحالف يمكنه مجابهة الغرب بكل حزم.

لكن من نفس المنطلق، إن لم تتعزز مكانة روسيا لتصبح بنفس ثقل الصين، فإن أي تغيير سياسي على الساحة الدولية بين الصين والولايات المتحدة، ستقع روسيا رهينة نتائج المواجهات المحتملة بين القوتين العالميتين.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter