أنت تقرأ الآن:

الملعب الوطني بـ”سانتياغو”.. شاهد عيان على ديكتاتورية “بينوشيه” ونهايتها

الملعب الوطني بـ”سانتياغو”.. شاهد عيان على ديكتاتورية “بينوشيه” ونهايتها

محمد سلطان

في ظهيرة حارة في الأيام الأولى لشتاء عام 1973 وقف الحكم النمساوي “إريخ لينماير” ليعلن انطلاق مباراة العودة في الملحق النهائي المؤهل لكأس العالم بين صاحبة الأرض تشيلي ومنتخب الاتحاد السوفييتي، على الملعب الوطني بالعاصمة “سانتياغو”.

كانت المباراة ستحدد مصير المتأهل للمونديال بعد نهاية مباراة الذهاب بالتعادل السلبي. فريق تشيلي يقف في منتصف ملعبه، الجماهير الحاضرة في الملعب ترفع علم الوطن، حكم المباراة ينظر إلى ساعته. لكن هناك شيئًا واحدًا يمنع إقامة المباراة، وهو عدم حضور المنافس السوفييتي إلى أرض الملعب، فلاعبو تشيلي يقفون بقمصانهم الحمراء أمام منتصف ملعب خالٍ من اللاعبين.

الحرب الباردة بين المعسكر الشيوعي في “موسكو” ومعسكر الرأسمالية في “واشنطن” كانت مسيطرة على المشهد الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فصول كثيرة من الصراع في مواقع مختلفة، وكانت “سانتياغو” واحدة من أكثر بؤر الصراع اشتعالًا.

فكيف كان هذا الملعب شاهدًا على تاريخ الحرب الباردة والتحولات السياسية في تشيلي؟

اغتيال الديمقراطية

لم تكن أمريكا راضية عن سيطرة الشيوعيين على مقاليد الحكم في تشيلي. فدعم مستشارها للأمن القومي “هنري كيسنجر” تحركات الجيش للسيطرة على مقاليد الحكم، بعد أن اعتبر وصول “أليندي” للحكم انتصارًا للمعسكر الشرقي. 

بلغت تحركات الجيش ذروتها في يوم 11 سبتمبر عام 1973، حين نزلت قوات “بينوشيه” إلى الشوارع متجهةً نحو قصر الحكم في تشيلي. 

وقف رئيس تشيلي المنتخب “سلفادور الليندي” ليلقي نظرة أخيرة على مقتنياته قبل أن يختار منها بندقية كلاشينكوف أهداها إليه زعيم كوبا “فيديل كاسترو”، ويطلق منها رصاصة تودي بحياته، وتضع نهاية للديمقراطية التي استمرت ثلاث سنوات، سيطر فيها الحزب الشيوعي على البلاد. 

بعد دقائق احتلت قوات الجنرال “أوغستو بينوشيه” قصر الحكم في “سانتياغو” ليجدوا جثة “الليندي” وبجواره سلاحه بعد أن رفض كل عروض الخروج الآمن من قوات الجيش. 

وجّه “الليندي” آخر حديث إلى شعبه عبر الإذاعة صباح يوم مصرعه، ذكر فيه كلماته الخالدة: “تحيا تشيلي.. يحيا الشعب.. تحيا الطبقة العاملة”.

المرحلة الأخيرة من تصفيات كأس العالم

خلال الأيام الأولى لسيطرة رجال “بينوشيه” على الحكم كان منتخب تشيلي يستعد لمواجهة المرحلة الفاصلة من تصفيات كأس العالم 1974 أمام الاتحاد السوفييتي، حيث اقتضى قانون التصفيات أن يتواجه فريقان من أوروبا وأمريكا الجنوبية على مقعد مؤهل للمونديال. 

صعدت تشيلي إلى هذه المرحلة بعد 3 مواجهات صعبة أمام بيرو، وكانت جماهير تشيلي تحلم بوصول فريقها إلى المونديال بعد الغياب عن كأس العالم 1970 التي أقيمت في المكسيك، لكن الصراع السياسي في البلاد شغل لاعبي تشيلي وشغل جماهيرهم. 

كان اللاعبون على موعد مع إقلاع طائرتهم إلى “موسكو” ليلة الحادي عشر من سبتمبر، لكن أحداث الصباح جعلتهم يبقون خائفين في منازلهم في انتظار ما سيحدث.

بعد أيام طلب اتحاد الكرة من اللاعبين التجمع للسفر لمواجهة الذهاب في “موسكو” في رحلة صعبة وطويلة في الظروف العادية، فما بالك بلاعبين خائفين على أرواحهم حتى من التحرك في شوارع “سانتياغو” حتى يصلوا إلى مقر التجمع في ظل انتشار قوات الجيش. 

معظم هؤلاء اللاعبين كانوا مؤيدين للرئيس المخلوع، تجمعوا في منزل قائد الفريق “شاماكو فالديز”، وتحركوا معًا نحو مقر التجمع في شوارع العاصمة التي تنتشر فيها قوات الجيش ويسمع في أزقتها أصوات إطلاق النار.

“أنا شاماكو فالديز، قائد منتخب تشيلي لكرة القدم، وهؤلاء لاعبو المنتخب”.. كان هذا رد قائد المنتخب التشيلي على تجمعات الأمن التي أوقفتهم مرات عدة خلال رحلتهم نحو مقر تجمع المنتخب. ما زال بعض لاعبي المنتخب يحتفظون بحقائبهم وملابسهم التي ارتدوها في تلك الليلة، حيث كانت بطاقة عبورهم من بطش تجمعات الأمن. 

تجمع المنتخب التشيلي في لحظة استثنائية من تاريخ البلاد، ثم انطلقوا إلى موسكو أرض الموقعة الأولى من موقعتين سيتأهل الفائز بهما ليمثل بلاده في كأس العالم.

رحلة إلى معقل الشيوعية

مطار صغير بعيدًا عن العاصمة أقلعت منه أول طائرة تغادر سماء تشيلي منذ انتحار “الليندي”. طائرة تحمل 27 فردًا من أفراد المنتخب تركوا خلفهم زوجاتهم وأطفالهم وآباءهم وأمهاتهم ووطنًا يترنح إلى مصير غير معلوم. 

أقلعت الطائرة في رحلة طويلة إلى غرب أوروبا، حيث استقرت في سويسرا لمواجهة ودية مع فريق “نيوشاتل”، نجحوا فيها في تحقيق الفوز بهدف نظيف. وكان من المفترض أن تستمر رحلتهم إلى “ميلانو” لمواجهة عملاقها “إنتر ميلان”، لكن الفريق الإيطالي ألغى المواجهة لأسباب سياسية لتنطلق رحلة الفريق إلى “موسكو”.

هناك واجه الوفد التشيلي كل سبل التعنت، فهم الآن يمثلون إحدى الدول المعادية للشيوعية، بعد أن كانت تشيلي قبل أقل من 15 يومًا أبرز حلفاء الاتحاد السوفييتي في أمريكا الجنوبية. بكل تأكيد كان اللاعبون ليحظوا بنوع آخر من الاستقبال إذا أقيمت المباراة قبل أحداث 11 سبتمبر.

لم تذع المباراة التي أقيمت أمام حشد زاد على 60 ألفًا، وصمد فيها التشيليون أمام خطورة أصحاب الأرض، ليؤمّنوا تعادلًا سلبيًّا جعل الصحافة في تشيلي تكتب في اليوم التالي: “الاتحاد السوفييتي لم ينجح في هزيمتنا حتى في كرة القدم”.

عادت طائرة المنتخب التشيلي إلى سانتياغو بعد نتيجة رائعة منحتهم الأفضلية قبل لقاء العودة الذي سيستضيفه معقل كرة القدم في البلاد، الملعب الوطني. لكن حين عادوا وجدوا أن الملعب الذي شهد نجاحات كرة القدم التشيلية أصبح مسرحًا آخر لديكتاتورية “بينوشيه” التي بدأت خطواتها الأولى بوحشية غير مسبوقة.

ملعب كرة قدم أم سجن حربي؟

حضر وفد من الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) إلى العاصمة “سانتياغو” بعد أن طالب مسؤولو كرة القدم في “موسكو” نقل المباراة بعيدًا عن تشيلي بسبب ما تنقله الأخبار عن وقائع التعذيب والقتل في شوارع ومنازل العاصمة. لكن وفد “فيفا” عاد بتقرير أن سانتياغو آمنة لاستضافة المباراة، وهو ما كان عكس الواقع، حيث إن “سانتياغو” لم تكن فقط غير آمنة، بل إن ملعب المباراة نفسه كان تحول إلى معسكر لاعتقال وتعذيب المعارضين.

مع الأيام الأولى لسقوط الديمقراطية تحول الملعب إلى معسكر من معسكرات الاعتقال والتعذيب المنتشرة في العاصمة. تشير التقارير إلى أن أكثر من 80 معارضًا لقوا حتفهم بعد التعذيب داخل الملعب. 

استمرت عمليات التعذيب بشكل يومي إلى أن اقتربت زيارة وفد “فيفا”، فتم نقل كل المعتقلين إلى غرف الملابس وتحت المدرجات حتى لا يراهم مسؤولو الاتحاد الدولي والإعلاميون. كانوا يريدون الهتاف: “نحن هنا”، لكن فوهات بنادق جنود “بينوشيه” الموجهة إليهم جعلتهم يتألمون في صمت. 

لم يقتنع مسؤولو الاتحاد السوفييتي بتقارير “فيفا” وقرروا الانسحاب من المواجهة، لتتأهل تشيلي لنهائيات كأس العالم. 

مباراة العار 

رغم تأهل المنتخب مباشرة لكأس العالم قرر المسؤولون في تشيلي إقامة المباراة وإذاعتها لتظهر للعالم أن الملعب كان جاهزًا لاحتضان المباراة. فحضرت الجماهير إلى الملعب مجبرة، وحضر اللاعبون الذين كانوا مدركين أنهم يلعبون المباراة في ملعب ملطخ بالدماء، تشتكي مدرجاته من آهات المعذبين. 

أطلق الحكم صافرته وانطلق لاعبو منتخب تشيلي يمررون الكرة، وأحرزوا هدفًا ليطلق الحكم صافرته. 

يقول “فالديز”: “رغم عدم وجود منافس طلب مسؤولو الاتحاد الدولي منا أن ننزل إلى أرض الملعب بملابس اللعب، وأن نمرر الكرة بيننا ونحرز هدفًا. لا أعرف حتى الآن في ما كانوا يفكرون”.

أخيرًا، في عام 1990، أطاح استفتاء شعبي تاريخي بديكتاتورية “بينوشيه” بعد أن خرجت الجموع إلى مقرات الانتخابات لتصوّت بـ”لا” على استمراره في الحكم، وكان أحد أهم مقرات التصويت هو الملعب الوطني بالعاصمة “سانتياغو”.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter