أنت تقرأ الآن:

الهيدروجين وقودًا.. بين العقبات والمستقبل

الهيدروجين وقودًا.. بين العقبات والمستقبل

في القرن التاسع عشر تخيل مؤلف الخيال العلمي الفرنسي “جول فيرن” في روايته “الجزيرة الغامضة” أن السيارات ستعمل في المستقبل بخزانات وقود ممتلئة بالماء العادي، وأن هذا الماء سيتحلل إلى عنصريه الأساسيين (الهيدروجين والأكسجين)، وهذين الغازين هما اللذان سيحترقان بقوة وطاقة لا يحتوي على مثلها أي وقود أحفوري معروف… هكذا ستحلّ المياه محل الوقود.

حوالي 150 سنة مرت منذ رواية “فيرن”، وما أثبته العلم أن رؤيته لم تكن بعيدة عن الواقع. كثيرون في أنحاء العالم، خلال العقود الأخيرة، صاروا ينظرون إلى الهيدروجين كبديل مستقبلي جديد لأشكال الوقود الأحفوري المعتادة، خصوصًا مع الصحوة البيئية التي يشهدها العالم بعد إدراك حقيقة تبدّل المناخ والمستقبل غير السار الذي يستقبل الأرض في حالة استمرار الانبعاثات الضارة من المحروقات الأحفورية.

لكن كل محاولات استخدام الهيدروجين وقودًا لم تتسم حتى الآن بنجاح يقترب حتى من حجم الترقّب والضجة المثارة حوله… لماذا كل تلك الضجة في الأساس؟

الهيدروجين

عنصر الهيدروجين قابل للانفجار بطاقة هائلة، وهو أكثر العناصر توفرًا في الكون. الشمس تكاد تكون مكوّنة بالكامل من الهيدروجين، لا تخلو غالبية المركّبات الحيوية من وجود الهيدروجين، وجزيء الماء يتكون في الأساس من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين. لكن لأنه عنصر شديد التفاعل يندر وجوده في شكل خام في الطبيعة، بل يوجد متّحدًا بعناصر أخرى.

للحصول على الهيدروجين الخام نحتاج إلى تحطيم جزيئات المياه للحصول على جزيئاته الغازية حرة. يحدث ذلك بـ”التحليل الكهربائي للمياه” (Electrolysis)، ثم عندها يُمزج الهيدروجين بالأكسجين في خلية الوقود التي ينتج عن تفاعلها كهرباء وحرارة، ومخلّفات هذه العملية الوحيدة هي المياه العادية فقط.

إذن نحتاج إلى كهرباء للحصول على الهيدروجين الذي يعطينا الكهرباء؟ ألا يبدو هذا عبثًا؟

ليس بالضرورة، فلو كنت تقود سيارة تعمل بالهيدروجين لن تقوم بعملية تحليل المياه في سيارتك، بل ستملأ خزانك بالغاز من محطة الوقود الهيدروجيني مباشرة، وستتحرك بسيارة لا تنتج أي عوادم إلا مياهًا نظيفة لا تضر البيئة بأي شكل من الأشكال.

“ناسا” استخدمت الهيدروجين في الستينيات وقودًا لبعض مشروعاتها الفضائية، واليوم يُنظر إلى الهيدروجين كوقود محتمل للقطارات والسيارات والطائرات، بل وفي الصناعات الثقيلة أيضًا.

لكن ما دام النظر إلى الهيدروجين كوقود أمرًا غير جديد، وله كل تلك المنافع، لماذا إذن لم يصبح وقود الهيدروجين حتى الآن شائعًا في كل مكان؟ ألم نصل بعد إلى المستقبل الذي تخيله “جول فيرن” والعلماء؟

عقبات غير قليلة

فصل الهيدروجين الخام عن المياه يتطلب طاقة كهربية هائلة، ولتوليد تلك الطاقة لا يزال كثيرون مضطرين إلى استخدام مصادر وقود أحفوري يؤثر حرقه سلبًا في البيئة. فمجمل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم، في عملية إنتاج الهيدروجين الآن، هي 843 طنًّا سنويًّا، وهذا يعادل مجموع انبعاثات دولتي إندونيسيا والمملكة المتحدة، بذلك لا يصبح خيارًا بيئيًّا ممتازًا مثلما حسبناه. إضافةً إلى أن الطاقة المطلوبة للتوليد تفوق الطاقة الناتجة عنه، وبهذه الطريقة لا ينتج عنه كفاءة تشغيل ولا مكسب مادي.

تكمن عقبة أخرى في استخدامه في الصناعات الثقيلة خصوصًا، وهي أن البنية التحتية المعتمدة على الوقود الأحفوري في الشركات والمصانع الكبرى، تلك الأكثر توليدًا للانبعاثات الضارة مثل الحديد والإسمنت، تكلّف بناؤها عبر الزمن مئات الملايين، ولتغييرها والاعتماد على مصدر طاقة جديد تحتاج إلى عشرات السنين ومئات الملايين الأخرى، إضافةً إلى أن التكنولوجيا الجديدة لم تثبت كفاءة واعتمادية نهائية.

وماذا عن الأمان؟

 عام 1937 كان المنطاد الألماني العملاق “هيندنبورغ” (Hindenburg) ينقل الركاب من مطار ألمانيا إلى نيوجيرسي الألمانية، والمناطيد كانت وسيلة الطيران الأولى لنقل الركاب بشكل تجاري قبل الطائرات المدنية، وكانت عبارة عن بالونات هائلة ممتلئة بالغاز تطفو في الهواء وتنتقل من مكان إلى آخر، لكن منطاد “هيندنبورغ” تعرّض لحادثة واشتعل في مشهد كابوسي في مطار نيوجيرسي قبل الهبوط، ومات 36 راكبًا من أصل 97 كانوا على متنه. التفسير الرئيس لهذا الحادث أن حريقًا صغيرًا شبّ في المنطاد، لكن الهيدروجين اشتعل، فأدى إلى حرق المنطاد كله. منذ ذلك الحين بات الحديث عن استخدام الهيدروجين كوقود في أي تطبيق عام يُقابل بالرفض والهلع من الجماهير التي لا تزال تذكر حريق هيندنبورغ. أمسى الهيدروجين في الرأي العام مصدرًا للكوارث ليس أكثر، لكن هذا الهلع لم يعد مبررًا. فالتطبيقات العملية الحالية للهيدروجين أو غيره تتمتع بوسائل أمان لم تكن موجودة في تكنولوجيا العقد الرابع من القرن السابق، لا سيما في المناطيد التي كانت وسيلة نقل غير آمنة بالمرة، وانتهت تمامًا بعد حادثة هيندنبورغ لتفسح مكانًا لظهور الطائرات بشكلها الحالي. سيارة تعمل بالهيدروجين هي في الواقع أكثر أمانًا من سيارة تعمل بالوقود العادي الذي هو أكثر قابلية للاشتعال والانفجار.

الهيدروجين الأخضر

شيوع مصادر الطاقة المتجددة (طاقة الرياح والطاقة الشمسية… إلخ) في الوقت الحالي، أعاد التفكير في الهيدروجين مرة أخرى، وبخاصة مع تطور أشكال التكنولوجيا المستخدمة في عملية التحليل الكهربي للماء، فباتت أرخص وأكثر كفاءة.

هكذا ظهر تعبير “الهيدروجين الأخضر” (Green Hydrogen)، أي ذلك الذي أنتجته طاقة نظيفة لم ينتج عنها انبعاثات ضارة بيئيًّا. لا تزال الطاقة المستخدمة أغلى من الطاقة الناتجة، لكن الآن يمكن استخدام الهيدروجين مخزنًا للطاقة أو ناقلًا لها أكثر كفاءة من البطاريات.

الشاحنات العملاقة مثلًا، والتي تعمل بوقود الهيدروجين، ستحمل خزانات هيدروجين أقل وزنًا من البطاريات التي كانت تحملها لتنقلها نفس المسافة بسرعتها وهي تعمل بالطاقة الكهربية. بالطبع حتى الآن للأسف يبقى الوقود العادي أسرع وأقل تكلفة، لكننا هنا نتحدث عن الخيارات الأكثر ملاءمة للبيئة، نتحدث في سياق محاولة إنقاذ المستقبل من خطر يلوح عن قرب.

وقود المستقبل

لكن رغم كل شيء لا يزال هناك الكثير أمام استخدام الهيدروجين وقودًا عمليًّا. فقد يكون نظريًّا أفضل البدائل، لكن في النهاية يظل غير عملي لأسباب عدّة تعرضنا لها. فكيف سيكون إذن وقود المستقبل؟

تعلّمنا من القرن السابق أن كل المشكلات العلمية والهندسية يظهر حلُّها بشكل أو بآخر مع الوقت والمجهود والبحث، وطبعًا مع تمويل كافٍ. تكنولوجيا إنتاج الهيدروجين الآن، حتى لو لم تكن كافية لتحقيق ما يرجى منها، هي الأفضل دون شك مما كانت عليه البارحة، والبارحة كانت أفضل مما كانت عليه قبل البارحة، وبكل تأكيد إذا استمر البحث والتطوير ستصل إلى شكل عملي يناسب الجميع.

بعدما بات خطر التغير المناخي على موائد السياسيين، مثله مثل المسائل السياسية اليومية العادية، أخذت حكومات العالم الكبرى تسعى في التحفيز على بحث استخدام وقود الهيدروجين وتطويره ونشره.

الاتحاد الأوروبي مثلًا قرر تخصيص ميزانية تريليون دولار من الحوافز في الأعوام المقبلة للوصول إلى عام 2050 بعالم تعافى من تبدّل المناخ. نصف هذا المبلغ تقريبًا سيستخدم في تعزيز الهيدروجين وقودًا، والصين أيضًا تدفع بشدة إلى تبديل القوانين والسياسات في الاتجاه ذاته، والتشجيع على استخدام سيارات هيدروجينية الوقود. كوريا الجنوبية واليابان تركزان في مجالات السيارات الهيدروجينية وتحسين خلايا الوقود وتكنولوجيتها. وفي أكتوبر 2020 أعلنت أمريكا تخصيص ميزانية 100 مليون دولار لتطوير استخدامات الوقود الهيدروجيني، إضافةً إلى وعد الرئيس جو بايدن باستثمار 1.7 تريليون دولار في العقود المقبلة بهدف أن تصبح أمريكا معتمدة 100% على مصادر طاقة نظيفة بحلول 2050.

السيارات

المجال المؤهل عمليًّا ليصبح أول مجال يقتحمه وقود الهيدروجين هو مجال النقل والسيارات. فالسيارة العادية الواحدة التي تعمل بالوقود العادي تخرج عادمًا في المتوسط 4.6 أطنان من ثاني أكسيد الكربون كل عام. لذا، فاستخدام السيارات النظيفة بدلًا من السيارات العادية أمر محوري في الاتجاه العالمي الجديد.

أفضلية السيارة الهيدروجينية على العادية هي بالطبع أفضلية بيئية في المقام الأول، لكن مقابل السيارات الهيدروجينية توجد السيارات الكهربائية التي تنتشر في أنحاء العالم بسرعة مذهلة تزداد كل سنة الآن، ونظيفة بيئيًّا مثل الهيدروجينية بالضبط. لماذا إذن لا نزال نتحدث عن الخيار الهيدروجيني؟ خصوصًا أن السيارة الهيدروجينية كهربية في الأساس. أنت تملأ خزان سيارتك بالهيدروجين لتحوّل خلية الوقود إلى تيار كهربي يشغل المحرك الكهربي للسيارة، فلماذا لا نكتفي بشحن السيارة الكهربية من محطة الوقود/الكهرباء مباشرة؟

هناك أفضلية للهيدروجين، بينما تحتاج السيارة الكهربية ذات البطارية إلى وقت شحن يبلغ 45 دقيقة كل مرة، يستغرق ملء خزان الهيدروجين 5 دقائق فقط، إضافةً إلى أن البطاريات الكهربية لا تزال ثقيلة وكبيرة الحجم، بينما الهيدروجين ناقل صغير الحجم وعالي الكفاءة للطاقة يمكّن السيارات من الانطلاق إلى مسافات أبعد في أوقات أقل دون الحاجة إلى إعادة شحن.

ويعتقد الخبراء أن أفضل تطبيق للوقود الهيدروجيني سيكون في النقل الثقيل، حيث إن صناعة سيارة نقل عملاقة كهربية قد يتطلب أن يكون نصف وزنها بطارية، وهو شيء عبثي على مستوى التكاليف وكفاءة النقل ووقت الشحن الذي سيحتاج إلى ساعات وربما أيام. ما ينطبق على النقل الثقيل ينطبق كذلك على سفن النقل البحري والطائرات.

لكن تبنّي السيارات الهيدروجينية عالميًّا لا يزال محدودًا. فبنهاية 2019 لم يكن هناك أكثر من 18000 سيارة هيدروجينية في شوارع العالم. قارن هذا بوجود 7.2 ملايين سيارة كهربية ذات بطارية على الطرقات.

ثلاث شركات فقط حتى الآن تطرح سيارات هيدروجينية بشكل تجاري: هوندا وهونداي وتويوتا، لكن شركات عدة تعمل في تطوير سيارات جديدة. في المقابل ترفض “تسلا” تبنّي التكنولوجيا الهيدروجينية، ويصفها إيلون ماسك بأنها “تكنولوجيا حمقاء”.

يظل أكبر عائق أمام تبنّي السيارات الهيدروجينية بشكل أكبر هو البنية التحتية. فبناء محطات وقود هيدروجينية يتطلب تكاليف هائلة مقارنةً بمحطات شحن كهربية أو وقود عادي، وتحدثنا من قبل عن عوائق إنتاج الهيدروجين حتى الآن. عام 2020 لم يكن في العالم كله أكثر من 402 محطة وقود هيدروجينية، منها 170 في أوروبا و163 في آسيا و66 في أمريكا، حيث تقع الغالبية في ولاية كاليفورنيا.

تخزين الطاقة

تطبيق آخر مهم ينتظر الهيدروجين، وهو تخزين الطاقة.

طرق توليد الكهرباء القديمة باستخدام الفحم والوقود الأحفوري لم تتطلب تخزين طاقة. الطاقة مخزنة بالفعل في الوقود المستخدم، لكن طرق توليد الطاقة المتجددة التي تزداد كفاءةً وانتشارًا الآن، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح ومساقط المياه، تجعل الحاجة إلى تخزين الطاقة ضرورية. مثلًا يوم مشمس قد ينتج طاقة هائلة أكثر من احتياج الشبكة الكهربية، ويوم غائم لا تكفي شمسه لتوليد الطاقة المطلوبة، والشيء ذاته مع الرياح. نحتاج إذن إلى طريقة ما لتخزين الكهرباء المتولدة الزائدة على الحاجة اللحظية إلى استخدامها عندما نفتقر إليها.

شركات كثيرة تعمد إلى تخزين الطاقة الزائدة في البطاريات، لكن البطاريات حل مثالي في حالة التخزين لفترات قصيرة، فيما يتطلب التخزين المطوّل مساحات ضخمة وبطاريات عملاقة وتكاليف هائلة، لا تصلح البطاريات لهذه المهمة. أما الهيدروجين، فيمكن استخدام الطاقة الزائدة في عملية تحليل كهربي تفصله عن الماء، ويُحتفظ به في أسطوانات صغيرة عالية الضغط في أماكن تخزين منخفضة التكلفة قد تستمر إلى فترات طويلة جدًّا.

يؤمن كثير من الخبراء أن الوقود الهيدروجيني لا يقدم حلًّا سريعًا لحظيًّا، لكنه قادر على أن يصبح الحل الأفضل على المدى البعيد في تطبيقات عدة، ولن يحدث هذا إلا باستثمار عالمي دولي ضخم في تقنيات إنتاجه حتى تنخفض أسعارها، فتصبح في النهاية سهلة ومتوفرة ومستدامة، والأهم نظيفة.

ربما لن تشتري الشهر القادم سيارة هيدروجينية تمضي بها في شوارع مدينتك بيسر، لكنّ هناك احتمالًا لا بأس به أنه بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، ستكون سيارتك، وكهرباء بيتك، والعالم من حولك، وقوده هيدروجينيًّا بدرجة كبيرة.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter