المدونة بالدماء والدموع: رحلة بناء الديمقراطية في البوسنة Nuqta Doc منذ 3 سنوات عمر شاهين خرج الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش (1925-2003) بعد حرب البوسنة عام 1995 قائلًا: “قد لا يكون سلامًا عادلًا، بيد أنه أكثر عدلًا من استمرار الحرب”. وكان للرجل حكمة بثّها في خوضه الحرب واتفاقه على السلام لإنهائها، وبثها في كتبه التي اشتهر منها مثلًا “الإسلام بين الشرق والغرب”، بما يحمله من فلسفات ونظرات مهمة للإسلام والمسلمين. يصعب الفصل بين حياة بيغوفيتش وحياة بلده البوسنة والهرسك، وعادة ما يتحول الحديث عن البوسنة بتلقائية إلى الحديث عن سيرة حياته وفلسفته التي تماهت مع تاريخ البلاد وهويتها ومصيرها، ومعركتها التي تعد الأعنف في تاريخ أوروبا الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، لكن، وكما يقول كارل بيلدت، الرئيس المشارك للاتحاد الأوروبي لمحادثات السلام، إنه تعلّم من هذه الحرب أن بدء الحرب أسهل بكثير من بناء السلام. ولذلك لا شك أن تتصدر الحرب البوسنية وما خلّفته من قتلى تجاوزوا مئة ألف، وتشريد مئات الآلاف، والإبادة الجماعية التي تعرّض لها المسلمون البوشناق كل حديث، لكن بناء السلام الذي تطلّب تنازلات وحكمة من الرئيس البوسني ليجلس على مائدة المفاوضات وتنتهي باتفاق دايتون 1995، وإرساء نظام حكم ديمقراطي في البوسنة والهرسك، هو أيضًا تجربة فريدة في هذا المكان من العالم. دول ما بعد الإمبراطوريات هذه المنطقة التي تُدعى البلقان، وتوصف بأنها برميل البارود في قلب أوروبا، إذ انطلقت منها شرارة الحرب العالمية الأولى، وتضم حاليًّا 11 دولة تضم عرقيات وإثنيات مختلفة، من أتراك وأكراد ويونان وألبان وغجر ومجر وسولاف وكروات وصرب وبوشناق، ومسلمين ومسيحيين أرذوثوكس وكاثوليك، تقع في وسطها تقريبا البوسنة والهرسك، التي تضم البوشناق المسلمين والصرب والكروات المسيحيين الأرثوذوكس والكاثوليك، وتحدها صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والمجر، هذه المنطقة كانت مسرحًا دائمًا للتحولات العالمية ولإشكالية إدارة الاختلاف بين العرقيات والدول. تنتمي البوسنة إلى زمرة الدول التي عانت في حياتها وإبان نشأتها كدولة مستقلة من تبعات تفكك الإمبراطوريات الكبرى، لكن حالتها فريدة في ذلك الشأن، فقد كانت في البدء جزءًا مهمًّا من الدولة العثمانية باعتبارها حرس حدود الدولة من ناحية أوروبا، فكانت دار السلام في مواجهة دار الحرب، ما أكّد ارتباط سكانها بالدولة العثمانية. لكن أزمات البوسنة لم تبدأ مع سقوط العثمانيين مثلما هو الحال مع كثير من دول المشرق، لا سيما بلاد الشام والعراق التي ارتسمت حدودها القلقة في هذه الفترة، وإنما في وقت مبكر، حيث احتلتها إمبراطورية النمسا والمجر بعد معاهدة برلين عام 1878 وهزائم العثمانيين واتفاقهم على التنازل عنها، وهنا بدأت مرحلة تغريب البوسنة والهرسك وتحويلها إلى النمط الأوروبي، بعد أن كانت شرقية الطابع والهوية، ما أدى إلى هجرة الكثيرين من سكانها. وما إن تفككت إمبراطورية النمسا والمجر في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حتى تولّت تركتها مملكة يوغوسلافيا (1918-1941)، التي كانت اتحادًا بين الصرب والكروات والسلاف، ولم يكن للمسلمين فيها تمثيل يُذكر، وانتهى الأمر بسقوط المملكة بما فيها البوسنة تحت الاحتلال النازي والإيطالي، قبل قيام جوزيف تيتو بإعادة تأسيس جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية (1945-1992) التي ضمت البوسنة والهرسك وصربيا وكرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود ومقدونيا، وبدأ عهد الشيوعية في البوسنة، وكان يسعى إلى تحويل المجتمع إلى الاشتراكية باعتبارها وسيلة لقمع الأشكال القومية والنزاعات بين دول الاتحاد اليوغوسلافي، ولا شك أن المسلمين في البوسنة لم يكونوا أحرارًا في ممارسة شعائرهم ولا التعبير عن هويتهم حتى سقوط الاتحاد السوفييتي، ثمّ تفكك الاتحاد اليوغوسلافي. تحدي بناء الدولة كان علي عزت بيغوفيتش منتبهًا للحالة التي عليها البوسنة بعد تفكك الاتحاد اليوغوسلافي، وقاد معركة الاستقلال قبل تفككه، وأوضح أن الحرب التي شنّها الصرب على البلاد باتت حقل تجارب لنموذج دول ما بعد الشيوعية، وأن المجتمع الدولي يختبر فيها سيناريوهات مختلفة من هذه الدول الجديدة. ولا شك أن هذا التاريخ المعقد من كبت هذه الهويات ومحاولة قسرها في داخل إمبراطوريات ومشروعات أكبر من الدولة العثمانية إلى النمسا والمجر ومن النازية إلى الشيوعية، وهذا التركيب السكاني المعقد من العرقيات كان لا بد من أن ينفجر في لحظة معينة، وكان هذا الانفجار حربًا شاملة بين مختلف العرقيات. أدرك علي عزت بيغوفيتش كذلك حجم التحدي الذي يواجهه بعد الحرب، كان الصمود في الحرب بقلة العدة والعتاد بمثابة انتصار، والتوصل إلى اتفاق، وإن لم يكن عادلًا، مهمًّا لإنهاء الحرب، فاتفاق “دايتون” ينهي الحرب، لكنه لا يوفر الآليات اللازمة لاستمرار دولة البوسنة والهرسك قائمة، لذلك كانت إعادة البناء السياسي والمصالحة أكثر تعقيدًا. فقد كانت هذه العملية بطيئة بصورة مؤلمة، لأن عددًا من القادة البوسنيين رأوا أن السلام لفترة طويلة جدًّا هو استمرار للحرب بوسائل أخرى بحسب بيلدت. ونتيجة لاتفاق “دايتون” 1995، كان لبناء السلام في البوسنة أن يراعي التركيبة السكانية المتعددة عرقيًّا بين البوشناق 48% والصرب 37% والكروات 15%، وجاء النظام السياسي هجينًا بين النظام الرئاسي والبرلماني، وقسّم البلاد إلى كيانين: اتحاد البوسنة والهرسك، وجمهورية صربسكا (صرب البوسنة)، لتكون سراييفو العاصمة الموحدة، ثم أُنشئت مقاطعة برتشكو ذاتية الحكم، والتي تخضع لإدارة مشتركة من الكيانين. أما الجانب الأهم، فهو المجلس الرئاسي الذي يُنتخب بصورة مباشرة، ويتولاه ثلاثة رؤساء من العرقيات الثلاث لمدة أربع سنوات، يتولى كل منهم الرئاسة بالتناوب كل 8 أشهر، وكان علي عزت بيغوفيتش من أوائل من شاركوا في هذا المجلس، وكذلك ابنه “باقر”. أما البرلمان، فيتكون من مجلس النواب ومجلس الشعب موزعين بين اتحاد البوسنة وجمهورية صربسكا، والأخيرة تعتمد في نظامها الداخلي على النظام الرئاسي، بينما الأولى تتبنى النظام البرلماني. كانت أولى الخطوات نحو الديمقراطية متمثّلةً في الاتفاق نفسه الذي يسمح بعودة اللاجئين والمهاجرين، والتي تكمن أهميتها في البلد المكون من عرقيات مختلفة، في أنها تحافظ على التركيبة السكانية بشكلها المتوازن، أما الخطوة الحقيقية، فكانت في نصوص الدستور التي تضمن المساواة بين الأعراق، وضمان تمثيل عادل لها ومتساوٍ في المجلس الرئاسي وفي البرلمان. احتاجت بعدها البوسنة إلى إجراء تعديلات في قانون الانتخابات، وإلى الاهتمام بمسألة عودة المهاجرين، وإلى مكافحة الفساد وإصلاح نظام الحكم، وإلى تعدد الأحزاب لأن تعددية الأحزاب في هذا البلد تعني مساحة أكبر للاختلاف المطلوب لكسر مقولة “شعب واحد، دين واحد، حزب واحد” التي أججت الحرب، لكن النظام المعقد للدولة والطبيعة الانقسامية الثلاثية ما تزال تعرقل جهود التحول إلى نموذج من تداول السلطة دون خشية الالتفاف عليه والاستئثار بها. ورغم وجود تدخل دولي ممثل في قوة دولية في البوسنة ومندوب سامٍ لمتابعة عملية السلام والحفاظ عليه، وتدخل المؤسسات الدولية لإعادة الإعمار والمساهمة في الإصلاح الاقتصادي، فإن دور هذه المؤسسات الدولية كان محل جدل بين المختصين، بين حديث عن غياب الشفافية والمساءلة لهذه المؤسسات، وآخر حول اضطلاعها بمهام تعزيز حقوق الإنسان والاندماج، والذي قلل من تسارع وتيرة الإصلاح الحكومي اعتمادًا عليها. الحاجة إلى الديمقراطية والردّة عنها لم يكن ثمة حل يضع حدًّا للحرب سوى الديمقراطية التمثيلية والفيدرالية لتتوق البوسنة لأن تكون نموذجًا في مشاركة السلطة بين العرقيات المختلفة، لكن هذا النموذج يجعل من الديمقراطية خادمة للتمثيل العادل من ناحية، ومنع الصدام والحفاظ على السلام من ناحية أخرى، ما يجعل قياسها على بقية الدول الديمقراطية الغربية صعبًا، إذا نظرنا إلى مستويات الاندماج والمساواة وتكافؤ الفرص والحوكمة. لكن هذا النموذج يتعرض للتهديد هذه الأيام، إذ يجتمع برلمان صربسكا (صرب البوسنة) لبحث الانسحاب من الاتحاد الفيدرالي، حيث يرى العضو الصربي في المجلس الرئاسي “دوديك” أن استمرار هذا النموذج مستحيل، وأنه لا بد من استعادة المؤسسات من الحكومة الفيدرالية، ومن بينها الجيش والقضاء. أما الموقف الدولي، فمتمسك باتفاق دايتون واحترام الحدود والنظام البوسني القائم، وللموقف الأوروبي والدولي أهمية في المحافظة على النظام القائم، وكان له تأثير مهم في التوصل للسلام قبل 26 عامًا. احتاجت البوسنة إلى كثير من الدماء والدموع وحتى التنازلات كي تحظى باستقلالها، واحتاجت إلى كثير من التطلع إلى المستقبل من أجل بناء دولة ديمقراطية حديثة، وصاحب قدرها أن تعيش على نفس الأرض عرقيات مختلفة، كانت دائمًا جزءًا من إمبراطوريات أوسع، لكنها اليوم أمام اختبار يشكك في وعود الديمقراطية وصلاحيتها، وينذر مرة أخرى بعودة ماضٍ لطالما أرادت نسيانه. شارك هذا المقال أضف تعليقك إلغاءلن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *التعليقاسمك * E-mail * Web Site احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.