أنت تقرأ الآن:

جيمس ويب.. فراشة الفضاء الأغلى في مهمة تاريخية إلى ما وراء الشمس

جيمس ويب.. فراشة الفضاء الأغلى في مهمة تاريخية إلى ما وراء الشمس

أماني أبو النجا

ليس مسبارًا لاستكشاف الغلاف الجوي للكواكب والأجسام المحيطة بالكرة الأرضية، أو مركبة فضائية قادرة على حمل البشر والهبوط بهم إلى سطح القمر، أو أخرى مزودة بروبوت يستطيع الهبوط على سطح “المريخ” والتجول لاستكشاف أجواء الحياة هناك. إنه “جيمس ويب”، أو ما أطلقوا عليه مؤخرًا “آلة الزمن” التي يتوقع صانعوها أن تعود بالبشرية إلى عالم ما بعد “الانفجار العظيم” مباشرةً، حيث بداية ميلاد الكون وتشكّل النجوم والمجرات القديمة العملاقة.

من بين أنواع المركبات الفضائية الثمانية التي تنتجها وتطلقها وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، ينتمي التلسكوب العملاق “جيمس ويب” إلى نوع المركبات الرصدية (observatory spacecraft)، وهي مركبات لا تحتاج إلى الذهاب لنفس المكان المراد استكشافه، بل تحتل مدارًا أرضيًّا أو شمسيًّا، حيث ترصد وتلاحظ أهدافًا بعيدة جدًّا، وهي متحررة من التأثيرات الغامضة والضبابية للغلاف الجوي للأرض.

وجاء إطلاق “جيمس ويب” في 25 ديسمبر الماضي، بعد أن عكف العلماء والمهندسون في “ناسا” بالتعاون مع وكالتي الفضاء الأوروبية والكندية على تصنيعه منذ ما يقارب 30 عامًا، فاكتمل بناء وتصميم الأجزاء العملاقة والمتطورة له العام الماضي فقط، ليتم إطلاقه بنجاح بواسطة صاروخ “آريان” من مدينة “غيانا” الفرنسية، بعد سلسلة تأجيلات عدة لأسباب أهمها ظهور وباء “كورونا” العالمي، ومن أجل إتمام بعض التحديات التقنية، إضافةً إلى عقبات تتعلق بميزانية هذا العمل الضخم.

الفراشة الأغلى تخرج من شرنقتها

ولا تتوقف الدهشة بالمركبة الجديدة عند حدود المدة التي تمت خلالها عملية البناء، أو العدد الكبير للمتخصصين والأفراد المشاركين في عملية التصنيع، بل إن طريقة بناء “جيمس ويب” هي الأكثر إدهاشًا وتطورًا عن أي مركبة فضائية أخرى، ما جعلها الأغلى على الإطلاق، بتكلفة تصنيع بلغت 10 مليارات دولار.

وصممت المركبة “جميس ويب” بحيث تكون مطوية بالكامل داخل صاروخ الإطلاق، نظرًا إلى ضخامتها وتعدد أجزائها، لتبدأ في تحرير نفسها من التكوين المطوي بشكل تدريجي، حيث يتم فرد الأجزاء المختلفة للمرصد شيئًا فشيئًا خلال رحلة المركبة إلى “محطة الرصد” التي تبعد عن الأرض بنحو 1.5 مليون كيلومتر (مليون ميل)، حتى إذا بلغت هذه النقطة تكون المركبة مفرودة بالكامل، تمامًا مثل “الفراشة التي تخرج من شرنقتها” حسب وصف العلماء، أو كما قال مدير شؤون العلم في وكالة الفضاء الأوروبية (ESA) “جنثر هزينجر” إن “جيمس ويب” هي فراشة باهظة الثمن ومعقدة للغاية، ويبلغ ارتفاعها ثلاثة طوابق.

أجزاء عملاقة تتحرر في السماء

ويظهر جليًّا مدى صعوبة مهمة الإطلاق إذا علمنا أن “جيمس ويب” احتاجت إلى إتمام حوالي 178 عملية آلية لفرد أجزائها الـ50، وأولها فرد واقيات الشمس الخاصة بالمرصد، وهي 5 طبقات على شكل طائرات ورقية وبحجم ملعب التنس، وتعمل على حمايته من الإشعاع وحرارة الشمس وتقليل درجة الحرارة في محيطه لتصبح 223 تحت الصفر، وهو المطلوب حتى تتمكن عدساته الحساسة من التقاط حرارة الأجسام الكونية الأخرى بأطوال موجات الأشعة تحت الحمراء، إذ تعد الواقيات جزءًا أساسيًّا في نجاح المهمة لأنها تمنع حدوث تشويش بسبب الحرارة المُنبعثة من الشمس أو الأرض أو القمر أو حتى جسم المركبة نفسها.

وتمكِّن البصريات المكبرة لـ”ويب”، جنبًا إلى جنب مع أربعة أدوات فائقة الحساسية، علماء الفلك من النظر بشكل أعمق في الفضاء، ومن ثم العودة بالزمن بعيدًا، أكثر من أي وقت مضى. 

وقد انتهت مرحلة الفرد فائقة التعقيد باكتمال فرد المرآة العملاقة لـ”جيمس ويب” في الثامن من شهر يناير، لتنهي أيامًا من القلق الشديد الذي انتاب مصنّعيها، وقد عبر عن ذلك مدير العلوم المشارك في وكالة “ناسا”، والذي قرر عدم حلاقة ذقنه إلا بعد اكتمال فرد أجزاء المرصد العملاق.

ما الجديد؟ 

بالرغم من وجود عدد من المركبات الفضائية الرصدية التي سبقت “جيمس ويب” في مهمات استكشاف الفضاء، فإن التلسكوب الجديد يتفوق كثيرًا في تطوره وبنائه وأهدافه عن أقرب سابقيه، وهو تلسكوب “هابل” (Hubble) الذي تم إطلاقه عام 1990، واستطاع إمداد البشرية ببيانات وصور مدهشة عن عالم المجرات الأخرى، ولذلك يتوقع العلماء أن يحدث “جيمس ويب” ثورة في علم الفلك.

ولعل أبرز النقاط التي تعطي الأفضلية الكبيرة للتلسكوب الجديد عن نظيره “هابل”، هو التكنولوجيا شديدة التقدم التي تم تصميمه بها، خصوصًا في ما يتعلق بالكاميرات الحساسة القادرة على اكتشاف ضوء الأشعة تحت الحمراء، ما يسمح بالتقاط مصدر حرارة الجسم، وكاميرات الأشعة تحت الحمراء، وأدوات أخرى لمراقبة السماء بأطوال موجية مختلفة، بينما تتوقف قدرة التلسكوب “هابل” عند رؤية الضوء القادم من المجرات والنجوم بأطوال موجية مرئية وفوق بنفسجية فقط.

ولـ”جيمس ويب” قدرات ثورية كبيرة مقارنة بأي تلسكوب آخر سواء أرضي أو فضائي، وأكد مدير قسم ناسا لعلوم الكواكب الخارجية بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا “تشارلز بيتشمان”، والذي أوضح أن “بإمكان (JWST) التقاط الصور والأطياف بأطوال موجات الأشعة تحت الحمراء، ودراسة مجموعة واسعة من الأجسام الكونية القريبة والبعيدة، سواء تلك الموجودة في نظامنا الشمسي أو الأخرى الأبعد في الكون، وسيخدم مجتمعات النظام الفلكي والشمسي بأكملها بقدرات غير مسبوقة”.

وإذا تحدثنا عن الجزء الأكبر والأكثر تعقيدًا في “جيمس ويب”، فهو المرآة الأساسية التي يبلغ طولها 6.5 أمتار، أي أكثر من ضعف حجم المرآة في سابقه “هابل”، والتي بلغت 2.4 متر فقط.

وتصميم المرآة في “جيمس ويب” مختلف تمامًا، حيث تم تقسيمها إلى 18 جزءًا سداسي الشكل مطليًّا بالذهب وقابلًا للطي من مادة البريليوم اللامع والأكثر صلابة من الحديد. وبالرغم من ضخامتها، فإنها أخف وزنًا بكثير من مرآة مرصد “هابل”، خصوصًا أن عامل الوزن كان يمثل تحديًا أمام المصنّعين.

لماذا مرآة بهذه الضخامة؟ 

إن حاجة العلماء إلى تصنيع مرآة ضخمة للتلسكوب الحديث جاءت لتمكينه من كشف الضوء الآتي من المجرات البعيدة، وبالتالي مزيد من الاكتشافات.

ولعل ضخامة المرآة جعل من تصنيعها تحديًا كبيرًا آخر. فحجم مرآة كهذا لم يتم إرساله إلى الفضاء من قبل، وهو السبب نفسه الذي جعل مصنّعيها يقسمونها إلى أجزاء سداسية لامعة تشبه “خلية النحل”، وقابلة للطي حتى تتمكن من الدخول في صاروخ الإطلاق إلى الفضاء.

وزيادةً في الإتقان والتطوير تم تزويد كل مرآة سداسية بمحرك مثبت من الخلف، ليعمل على فردها بشكل دقيق، وفي الاتجاه الصحيح لرصد الأكوان البعيدة.

وتم تزويده بمرآة أخرى ثانوية تعمل على تجميع الضوء الذي التقطته نظيرتها الأساسية لتوجيهه إلى كاميرا المرصد وبقية الأجهزة الأخرى التي ينبغي أن تعمل بشكل دقيق، وفي إطار نظام بصري متماسك. 

موقع فريد وأكثر بعدًا عن الأرض

ويستمر “جيمس ويب” في تحقيق مزيد من النجاحات التي تميزه عن سابقه “هابل”، وذلك بوصوله إلى “نقطة الرصد” التي حددها صانعوه له قبل الإطلاق والمسماة بنقطة “لاغرانج رقم اثنين” (Lagrange point 2)، وهي نقطة رياضية تقع وراء القمر وتصطف بمحاذاة كل من الشمس والأرض، في مسافة هي الأبعد على الإطلاق لأي تلسكوب فضائي، حيث تبتعد عن كوكبنا بنحو 100 مليون ميل.

ولا يتوقف الأمر عند حدود الوصول إلى النقطة السحيقة “Lp2″، بل يمتد إلى قيام التلسكوب العملاق بالدوران حول النقطة ذاتها، ليشبه عجلة تدور على محور يتكون من خط مستقيم بين القمر والأرض والشمس.

تصميم استثنائي يحقق أهدافًا أعمق

ولتصميم “جيمس ويب” الفريد من نوعه الفضل في رسم خطة أهداف أعمق وأكثر إبداعًا مقارنة بأي أهداف لتلسكوبات سابقة، فقد أدرك العلماء أن المجرات القريبة لمجموعتنا الشمسية، والتي استطاع “هابل” رصدها خلال العقود الثلاثة الماضية، ليست المجرات الأقدم في الكون، فكان قرار تصميم “جيمس ويب” ومهمته الأولى استكشاف تلك المجرات والنجوم الأوائل خارج المجموعة الشمسية، والتي تشكلت مع ميلاد الكون قبل أكثر من 13 مليار سنة.

ولما كان رصد الأكوان الأبعد في الفضاء يعني بالتبعية الرجوع بالزمن إلى الوراء، أطلقت “ناسا” على مشروعها العملاق اسم “آلة الزمن”، مؤكدةً أن هذا ليس مجرد تشبيه، بل إنه حقيقة فعلية بالنظر إلى حقيقة استغراق الضوء وقتًا حتى ينتقل من مكان إلى آخر، وهو ما يحدث كذلك عند رصد الأجسام في الفضاء. 

ويقول أحد العلماء المشاركين بالمشروع “آمبر سترونت” إن بنية “جيمس ويب” وتطوره يمكّنانه من رؤية الكواكب الخارجية التي تدور داخل مجرات أخرى، بل استكشاف أجوائها بالتفصيل والبحث عن إشارات إلى أكوان أخرى صالحة للحياة.

ويؤكد مدير وكالة الفضاء الأمريكية “بيل نيلسون” أن “حدود جيمس ويب ليس رصد ما نعرف أننا سنكتشفه، بل ما لم نفهمه بعد أو لا يمكننا فهمه بعد عن كوننا”. وأشارت رائدة الفضاء والعالمة المشاركة في مشروع “جيمس ويب” إلى “تصميمه الذي يتيح الإجابة عن الأسئلة البارزة في جميع مجالات الفيزياء الفلكية”.

وقال عالم الفلك والكواكب “هاييدي هامل” إن “العالم مُقبل على دخول عصر جديد وحدود أوسع في علم الفلك بعد إطلاق التلسكوب الجديد، ما يفسر تحمس الكثيرين له”.

إن البنية التكنولوجية والعسكرية لـ”جيمس ويب” جعلته أقوى 100 مرة من سابقه، ووصفته الوكالة الأمريكية بـ”المرصد الأول لعلوم الفضاء في العقد القادم”، بل إن أحد مصنعيه أشار إلى بنيته المتطورة التي تشبه آلة فضاء قادمة من المستقبل، وتحمل الخيال العلمي في تكنولوجيا الفضاء. 

ووفقًا لـ”ناسا” سيكون (JWST) قادرًا على اختراق سحب الغبار، حيث تتشكل النجوم في مجرتنا، وذلك بواسطة موجات ضوء الأشعة تحت الحمراء القادرة على رؤية الأجسام المخفية وراء هذا الغبار، إضافةً إلى تمكنه من البحث عن الأكسجين الموجود في الغلاف الجوي لكواكب المجرات البعيدة.

متى نرى أول صورة من “جيمس ويب”؟

إن مهمة الإطلاق التي تمت بنجاح رغم المخاطر حتى وصل التلسكوب العملاق والأكثر تطورًا إلى مداره في 25 يناير الماضي، لا تُنهي قصة العمل عليه، بل إنها بداية جهد شاق على مدار الأشهر الست المقبلة، كما يؤكد العلماء، لإتمام مهمات فنية وهندسية معقدة، وصولًا إلى جاهزية المرصد لالتقاط أول صور له عن الكون البعيد، ما أكده عالم الفيزياء الفلكية ومدير العلوم في “ناسا” قائلًا: “الجزء الأصعب من العمل قد بدأ لتوّه”.

وقد وضع العلماء بمعهد علوم تلسكوب الفضاء في مدينة “بالتيمور” الأمريكية، قائمة سرية بالأشياء التي سيراقبها “ويب” أولًا، ومن المرجح أن تتضمن المجموعة الأولى من النتائج صورًا مذهلة وبيانات عن الكواكب والنجوم والمجرات لإظهار قدرات التلسكوب، ثم يُفتح الباب بعد ذلك لعدد من علماء الفلك المتشوقين لاستخدام “جيمس ويب”.ويترقب الوسط العلمي الفلكي والمهتمون بعالم الفضاء نتائج الجهود المبذولة خلال السنوات الماضية، حيث يتوقع مدير العنصر البصري بتلسكوب “جيمس ويب” “لي فينبرغ” أن يرسل المرصد أول صوره وبياناته عن الفضاء في شهر مايو المقبل، وذلك في حال سارت الأمور كما هو مخطط لها.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter