أنت تقرأ الآن:

حرب عالمية مصغرة.. المقاتلون الأجانب في الحرب الأهلية الإسبانية

حرب عالمية مصغرة.. المقاتلون الأجانب في الحرب الأهلية الإسبانية

بعد بدء روسيا عمليتها العسكرية ضد أوكرانيا أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تشكيل فيلق دولي من المتطوعين الأجانب الراغبين في القتال إلى جانب أوكرانيا، بعدها بأيام صدرت تقارير إعلامية عن قيام روسيا هي الأخرى بتجنيد أجانب للقتال إلى صفها في الحرب

يبدو ذلك قريبًا مما حدث قبل ما يقرب من 86 عامًا، وذلك عندما قاتل أجانب كثيرون في الحرب الأهلية الإسبانية، بعضهم في صف الجمهوريين بقيادة الحكومة اليسارية، والآخرون في صف المتمردين بقيادة “فرانكو”. وكان لهؤلاء المتطوعين وللحرب الأهلية الإسبانية أثرًا واضحًا في التاريخ السياسي الغربي.

كيف انفجرت الحرب الأهلية الإسبانية؟

رغم أنها لم تنخرط في الحرب العالمية الأولى، فإن الانفجار الشيوعي الذي تبع نهاية الحرب وقيام الثورة الشيوعية وتأسيس الاتحاد الشيوعي، أثار مخاوف ضخمة من أن يصل هذا الانفجار إلى إسبانيا، فقام الجنرال “ميغل دي ريفييرا” بانقلاب عسكري للسيطرة على السلطة عام 1923، وأسس حكمًا ديكتاتوريًّا، ظل قائمًا جنبًا إلى جنب مع الملكية الإسبانية. إلا أن هذا الحكم لم يصمد فترة طويلة، ففي بداية العقد الرابع من القرن العشرين، بدأ الحكم بالتفكك، واستقال الجنرال ليتبعه جنرال ثانٍ، ثم ثالث، في فترة قصيرة، وفي دلالة على انهيار هذا النظام. 

لم يمر عام واحد على هذه التقلبات حتى اضطر الملك الإسباني ألفونسو الثالث عشر على الرضوخ للمطالب الشعبية العارمة بإنشاء نظام جمهوري بدلًا من النظام الملكي. وبالفعل أقيمت انتخابات في إبريل عام 1931، انتصرت فيها الأجنحة اليسارية والليبرالية انتصارًا ساحقًا، ليبدأ عهد الجمهورية الإسبانية الجديدة.

لكن الحكم الجديد بدوره واجه مآزق ضخمة. فمن جهة كانت الأحزاب الليبرالية واليسارية مختلفة في ما بينها، ومن جهة كانت تواجه معارضة متزايدة من الأجنحة المحافظة في الدولة من رجال الأعمال ومن الكنيسة الكاثوليكية صاحبة الهيمنة الواسعة داخل البلاد، حتى إنه قام في 1932 انقلاب عسكري ضد هذه الحكومة، لكنه انتهى بالفشل. 

وفي خلال سنتين فقط من الجمهورية الجديدة انهار التحالف الحاكم ليتم تنظيم انتخابات أخرى في عام 1933، وتصوت فيها النساء للمرة الأولى، وتكون المفاجأة هي انتصار المكونات المحافظة من الدولة، والمتعاطفة مع الملكية القديمة، في الانتخابات. 

ورغم أن التحالف المحافظ الجديد لم يضع نصب عينه استعادة الملكية مع تعاطفه معها، فقد كان من أهدافه التراجع عن الإصلاحات اليسارية التي نفذتها الحكومة السابقة، ما فجّر بدوره انتفاضات عمالية ويسارية كان أشهرها انتفاضة العمال في أستوريا عام 1934، وهي الانتفاضة التي تدخّل الجيش الإسباني، بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو، لسحقها بنجاح، وبدأ عهد من الاضطهاد للجمهوريين واليساريين في البلاد.

لكن الحكومة المحافظة لم تكن بالقوة التي تخولها للإفلات بهذا الانقلاب السياسي دون عواقب. فاتحدت الأحزاب الجمهورية واليسارية أكثر للعودة إلى الحكم، وكوَّنت جبهة شعبية واسعة، وتمكنت من الانتصار في انتخابات عام 1936، ليعود الجمهوريون إلى الحكم. هذه المرة بعد أن ذاقوا ويلات الاضطهاد وأصبحوا أكثر عزمًا على الانتصار على خصومهم، وأصبحت إسبانيا مستقطبة بشكل بالغ بين فريقين، كل فريق لا يرى إمكانية الانتصار إلا بسحق الطرف الآخر تمامًا.

وفي أواخر عام 1936، وبتنظيم وبسرية بالغة، قامت أجنحة من الجيش الإسباني بمحاولة انقلاب عسكري على الحكومة، مدعومة بالقوات العسكرية الآتية من المغرب التي كانت مستعمرة إسبانية وقتها، وكانت مدعومة بأتباع الكنيسة الكاثوليكية الذين راعهم حجم معاداة معسكر الجمهوريين للدين وللكنيسة، إلا أن هذا الانقلاب لم ينجح تمامًا ولم يفشل تمامًا، فتمكن من السيطرة على أجزاء واسعة من إسبانيا، بينما تمكنت الحكومة الجمهورية من الثبات في نصف إسبانيا آخر، لتبدأ من هنا حرب طويلة بين الطرفين، في محاولة كل منهما استعادة السيطرة على كامل التراب الإسباني.

ردود الفعل الدولية

عام 1936 كانت أوروبا نفسها مقسمة تقريبًا، نفس التقسيمة الداخلية للحرب الأهلية الإسبانية. ففي ألمانيا كان الحكم النازي بقيادة أدولف هتلر تمكّن من السلطة منذ سنوات، وبدأ في اضطهاد معارضيه، وبخاصة اليساريين واليهود، وفي إيطاليا كان الحكم الفاشي بقيادة موسوليني مسيطرًا بشكل كامل على البلاد من عام 1922، في المقابل كان هناك صعود قوي للأحزاب اليسارية في كل من فرنسا وبريطانيا، وكان الشيوعيون في أزهى لحظات سطوتهم في الاتحاد السوفييتي، والجو العام في أوروبا مليء بالخوف من اندلاع حرب عالمية أخرى نتيجة هذه الاستقطابات السياسية الحادة.

ليس مفاجئًا إذن أن يعمد كل من الفاشيين والنازيين إلى مساعدة المتمردين في إسبانيا، ليكتسب اليمين بلدًا جديدًا في أوروبا، وأن يحاول اليساريون بكل قوتهم مساعدة الحكومة الجمهورية للحيلولة دون ذلك، لكن الدول الغربية الليبرالية كانت خائفة من التدخل بشكل رسمي حتى لا تقوم حرب بين قطبي الدولة، ولذلك اقترحت فرنسا اتفاقًا بعدم التدخل في الحرب الإسبانية على كلٍّ من بريطانيا وإيطاليا وألمانيا والاتحاد السوفييتي، وأعلنت كل تلك الدولة موافقتها على الاتفاق، إلا أن كلًّا من إيطاليا وألمانيا والاتحاد السوفييتي سيهملون هذا الاتفاق تمامًا.

فقد كانت ألمانيا أصلًا هي من وفرت الطائرات لنقل قوات الفيلق الإفريقي في المغرب بقيادة فرانكو إلى إسبانيا للمشاركة في الانقلاب العسكري. ودعمت إيطاليا المتمردين بالمال والسلاح والرجال لتضمن انتصارهم، ومثلهم فعل الديكتاتوري البرتغالي “أوليفيرا سالازار”، ما أقنع قيادة الاتحاد السوفييتي بضرورة التدخل في هذه الحرب.

لكن الاتحاد السوفييتي لن يتدخل بشكل مباشر، بل سيتجه إلى الاعتماد على “الأممية الثالثة” أو “الكومنترن”، وهي منظمة شيوعية واسعة تضم غالبية الأحزاب الشيوعية الموافقة على السياسة السوفييتية في العالم. كان دور الأممية الثالثة هي البحث عن الراغبين في التطوع للذهاب إلى الحرب في إسبانيا لمقاتلة الفاشية. وفي ظل الوضع الأوروبي المستعر، رأى الكثيرون في الحرب الأهلية الإسبانية، حربًا لتحديد مصير أوروبا والعالم. ومن هنا، وبرعاية الاتحاد السوفييتي، تم إنشاء الألوية الدولية التي حاربت إلى جانب الجمهوريين في الحرب.

رغم أن إحصاءات المتطوعين تظل متذبذبة، إذ إنها لم تكن رسمية بشكل عام، فإن عددهم يقدر في صفوف الجمهوريين بحوالي 60 ألف مقاتل، على مدار الحرب كلها، منهم حوالي عشرة آلاف فرنسي، و5 آلاف ألماني، و5 آلاف بولندي، وثلاثة آلاف أمريكي، وآلاف أخرى من البريطانيين واليوغسلاف والتشيك والكنديين والمجريين، وبشكل عام كانت الألوية الدولية تضم في صفوفها أناسًا من حوالي 50 دولة، ما يعطينا فكرة عن حجم الاهتمام العالمي بهذه الحرب.

كانت القوات الأجنبية تتدرب وتُسلّح بواسطة “الكومنترن”، ويتم تقسيمها إلى فرق تحتوي كل منها عددًا من الكتائب. أتى المتطوعون الأجانب من خلفيات وطبقات مختلفة، فعلى سبيل المثال، كان هناك كتيبة إبراهام لينكون، وهي كتيبة من المتطوعين الأمريكيين حارب فيها ما يقرب من 3000 شخص، وسميت نسبةً إلى الرئيس الأمريكي الذي انتصر في الحرب الأهلية الأمريكية في القرن التاسع عشر. حوالي ألف من الآلاف الثلاثة كانوا من العمال، بينما كان هناك حوالي 500 من الطلاب والمعلمين الذين تركوا الدراسة للانضمام إلى الحرب، ويقدَّر أن ثلث الكتيبة كان من اليهود، فهؤلاء كانوا مدفوعين بأخبار اضطهاد اليهود على أيدي النازية والفاشية، وبشكل عام كان غالبيتهم من الحزب الشيوعي الأمريكي، بينما أتى آخرون من الحزب الاشتراكي وحزب العمال.

وشارك في الحرب كثير من المثقفين الغربيين، سواء متطوعون مثل الكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل (مؤلف روايتي مزرعة الحيوان و1984)، أو مراسلون حربيون مثل الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي الذي ألف أشهر رواياته “لمن تقرع الأجراس” بتأثير من تجربته في الحرب الأهلية الإسبانية.

حرب أهلية داخل المعسكر الجمهوري

كان الجناح الجمهوري في الحرب عبارة عن مظلة واسعة تضم تحتها الليبراليين والشيوعيين والاشتراكيين والأناركيين، ومعهم نقابات عمالية ضخمة، وكان الخلاف بين هؤلاء قويًّا وعميقًا. فالشيوعيون المدعومون من الاتحاد السوفييتي كانوا معادين للأناركيين وللشيوعيين الآخرين المتأثرين بأفكار القائد السوفييتي السابق “تروتسكي”، والذي كان خصمًا مباشرًا لجوزيف ستالين. ولهذا، وبينما كانت الحرب دائرة بين الجمهوريين والمتمردين، كانت هناك حرب أخرى أصغر بين المعسكرات في الجناح الجمهوري. فقد فجرت محاولة الانقلاب على الحكومة، والمقاومة الجمهورية لها، روحًا ثورية في معسكر الجمهوريين، وربما يمكننا أن نأخذ نبذة عن الأجواء في هذه الحرب، بتتبع رحلة “جورج أوريل” في الحرب، وهي الرحلة التي حكى عنها في كتابه “الحنين إلى كتالونيا”.

وصل “أورويل” إلى إسبانيا، وبالتحديد إلى “كتالونيا”، في البداية ليعمل مراسلًا صحفيًّا، قبل أن تغمره الأجواء الثورية، حيث كان الأناركيون يسيطرون على كل شيء، ليتطوع فورًا للقتال بجانبهم. 

ويصف “أوريل” انطباعه الأول حين وصوله إلى “كتالونيا” وصفًا شديد التعاطف والانبهار بالأجواء، يقول: “إنها المرة الأولى التي أجدني في مدينة تمسك الطبقة العاملة بأعنّة الأمور فيها.. كل الأبنية الكبيرة احتلّها العمال، وعُلّقت على واجهاتها الستائر التي تمثل الأعلام الحمراء الشيوعية أو الحمراء والسوداء، أعلام الأناركيين”.

“كل الكنائس تحطمت حوائطها واحترقت أيقوناتها، كل حانوت أو مقهى يرفع لافتة تقول إنه أصبح تعاونيًّا. حتى ماسحو الأحذية انتظموا في جمعيات ولوّنوا صناديقهم بالأحمر والأسود، أما خدم المطاعم، فكانوا يحدثون بك، ويعاملونك معاملة الأنداد… واختفت من التداول الكلمات التي تدل على الخنوع والتبعية. لم يعد أحد يقول “سنيور” أو “دون”. كان الجميع يتخاطبون بـ”يا رفيق”. لم يكن هناك سيارات خصوصية، فقد صودرت كلها”.

“كان هناك افتقار خطير إلى الخبز.. كانت صفوف الدّور من أجله تمتد مئات الياردات. مع هذا، فالشعب قانع ومستبشر. البطالة معدومة، وتكاليف المعيشة بأدنى حدودها. لا متسولون ولا غجر. وفوق كل شيء كان الإيمان بالثورة والمستقبل، والشعور بالولوج فجأةً إلى فسحة من المساواة والحرية. كان البشر يحاولون التصرف كبشر لا كتروس في الماكينة الرأسمالية”.

بعد هذا الانبهار انضم أورويل إلى القتال متطوعًا في كتيبة تتبع حزب العمال الماركسي، وهو حزب كان يميل للتروتسكيين، ولا يحظى بالقبول من جانب الشيوعيين الستالينيين. كانت التدريبات بدائية، مع افتقار واضح إلى الحد الأدنى من الأسلحة، حتى إن الجنود كانوا يتبادلون البنادق بينهم. البنادق نفسها التي كانت قديمة ومعطوبة في كثير الأحيان. قضى أورويل شهورًا على الجبهة في الخنادق، حيث يصفطون في مواجهة المتمردين دون قتال حقيقي، ثم يعود إلى المدينة، ثم إلى الحرب مرة أخرى. في كل مرة يعود فيها إلى المدينة يحكي عن خفوت الروح الثورية، وعن عودة المظاهر البرجوازية للحياة، وعن الشعور الشعبي بأن الثورة لم تعد في الحكم، حتى لو كان الجميع يعتقد بضرورة هزيمة “فرانكو”.

في هذه الأثناء كان الشيوعيون الممثلون في الحكومة، وخط الربط مع الاتحاد السوفييتي من جهة، والأناركيون والشيوعيون غير الستالينيين ونقابات العمال من جهة أخرى، مختلفين حول ما يجب عمله من أجل الفوز في الحرب.

كان الشيوعيون يعتقدون أن الانتصار في الحرب لا سبيل إليه إلا بمركزية الحكم، وبناء تحالفات ضخمة مع فئات الشعب، ولو كان ذلك يعني التراجع عن بعض الإصلاحات اليسارية، لعدم إخافة الطبقات الوسطى التي تحارب إلى جانب الجمهوريين، ويجب بناء جيش موحدة ذي قيادة مركزية.

أما الحزب العمالي الماركسي الذي يحارب فيه “أورويل”، فقد كان يرى “أن معارضة الفاشية باسم الديمقراطية البرجوازية ليس إلا هراء، والديمقراطية البرجوازية ليست إلا اسم آخر للرأسمالية. وأن الخيار الوحيد ضد الفاشية هو السلطة العمالية، أي هدف آخر يعني تسليم الانتصار إلى “فرانكو”. وإذن يجب على العمال التمسك بكل شذرة مما كسبوه، فإذا تخلوا عن أي شيء للحكومة، فإنهم سيكونون مخدوعين، ويجب عليهم الحفاظ على ميليشيات العمال، وأن الحرب والثورة لا ينفصلان”. 

أما ثالث الفرق الكبرى، الأناركيون، فقد كانوا “يرون ضرورة سيطرة العمال بأنفسهم على كل صناعة كالنقل والنسيج، وأن الحكم يجب أن يكون باللجان المحلية ومقاومة كل صور السلطات المركزية، وأن يكون هناك دائمًا عداء شديد للبرجوازية والكنيسة”.

هذه الاختلافات الضخمة سرعان ما انتقلت إلى الأرض بمحاولة الحكومة ومعها الشيوعيون بسحب أسلحة الميليشيات العمالية والأناركية، لتوحيد الصفوف، ولبناء صف موحد، ولكنها جوبهت بمقاومة تحولت إلى حرب أهلية مصغرة داخل المعسكر، لكن الانتصار النهائي كان للحكومة وللشيوعيين.

وهكذا وجد المقاتلون في الميليشيات العمالية والأناركية، ومعهم الأجانب في صفوفهم، أنفسهم فجأة، مطاردين من جانب الحكومة والشيوعيين. ويتحدث “أورويل” عن أنه وجد نفسه مضطرًّا للمبيت في الشوارع لأنه كان معروفًا أنه كان يقاتل إلى جانب الشيوعيين غير الستالينيين. ووجد أصدقاءه ورفاقه في الحرب يقادون إلى السجون أو يعدمون، وتتهمهم الصحافة بأنهم فاشيون وخونة وطابور خامس لا يخدم إلا مصلحة “فرانكو”. وبمعجزة، وبمساعدة القنصلية البريطانية، تمكّن أخيرًا من الهرب من إسبانيا، إلا أن كتابه يعطينا فكرة عن حجم التشرذم والفوضى والحماسة الأيدلوجية التي تصل إلى حالة التعصب التي كانت سائدة في صفوف الجمهوريين في الحرب. وهي كلها أمور كانت شبه غائبة عن المعسكر الآخر الذي كان يقوده ضباط محترفون، بقيادة واحدة، ويجمعهم هدف واحد صريح، وهو القضاء على الجمهورية.

نهاية الألوية الدولية

في سبتمبر 1938 قرر رئيس الحكومة الإسبانية حل الألوية الدولية، والتي كان عددها في تلك المرحلة لا يتعدى عشرة آلاف مقاتل. كان حل الألوية الدولية محاولة من الحكومة لجذب مزيد من التعاطف والدعم من قبل الحكومات الديمقراطية مثل بريطانيا وفرنسا من جهة، ومن جهة أخرى ليدفع إيطاليا وألمانيا إلى التخفيف من حجم دعمهم معسكر المتمردين بقيادة “فرانكو”، إلا أن هذا الحل لم يؤد إلى أي تغيير جوهري في الموقف الخارجي الأوروبي أو الداخلي في إسبانيا. وحيث كانت الأمور تتجه بسرعة لصالح “فرانكو” المدعوم بشكل مكثف من إيطاليا وألمانيا، ففي نفس توقيت إعلان حل الألوية الدولية، كان عدد الإيطاليين الذي يحاربون معه أكثر من أربعين ألف جندي، وبعد الإعلان قرر “موسوليني” أن يرسل مزيدًا من الطائرات والأسلحة إلى “فرانكو”.

بعد حل الألوية بأشهر قليلة، وبالتحديد في يناير 1939، تمكن جيش “فرانكو” من الدخول إلى “برشلونة”، وفي فبراير اعترفت كل من بريطانيا وفرنسا بنظام “فرانكو”، وفي 1 إبريل من نفس العام، وبعد دخول جيشه “مدريد” واستسلام آخر القوات الجمهورية، أعلن “فرانكو” انتصاره في الحرب.

ما بعد الحرب

يقدر عدد القتلى الأجانب في صفوف المتمردين بقيادة فرانكو بحوالي 5300 مقاتل، 4000 منهم من الإيطاليين، و300 من الألمان، بينما عدد القتلى الأجانب في صفوف الجمهوريين بحوالي 4900، منهم ألفان من الألمان، ألف فرنسي، 900 أمريكي، 500 بريطاني.

بعد نهاية الحرب، واجه المقاتلون الأجانب صعوبات جديدة، فرغم أن كثيرًا منهم تلقّى احتفاءً به، وبخاصة مع اندلاع الحرب العالمية الثانية بعد الحرب الأهلية الإسبانية بقليل، حيث رأى الناس أن هؤلاء المقاتلين تنبأوا بمصير أوروبا وحاولوا محاربة الفاشية مبكرًا، فإن كثيرًا من هؤلاء المقاتلين نظر إليه بارتياب داخل بلاده، فهو في النهاية خاض حربًا تحت جناح جيش دولة أخرى. فالمقاتلون السويسريون العائدون من الحرب حوكموا عسكريًّا بسبب خرقهم سياسة الدولة، وفي أمريكا مثلًا، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا في الخمسينيات، تم التضييق على المقاتلين السابقين في الحرب الأهلية الإسبانية، سواء كانوا منتمين للحزب الشيوعي أو لا، وأعفي كثيرون منهم من وظائفهم، واضطر غالبيتهم مع الوقت إلى الانفصال عن الحزب الشيوعي، ولو بقوا ميالين لليسار دون انتماء حزبي. وتعرّض المقاتلون الكنديون عند عودتهم لتحقيقات مكثفة، حتى إن بعضهم حُرم من الانضمام للجيش في أثناء الحرب العالمية الثانية لأسباب سياسية.

في النهاية تم اعتبار الحرب الأهلية الإسبانية نسخة مصغرة من الحرب العالمية التي تلتها، ومثل كل الحروب كانت فيها لحظات بدا لأطرافها أنهم على وشك خلق عالم جديد مثالي، قبل أن يكتشفوا مثلما اكتشف “جورج أورويل” أن الصورة الوردية التي رسموها لا تقترب من الحقيقة بأي شكل. ومن المفارقة أنه رغم خسارة كل داعمي الجنرال “فرانكو” في الحرب العالمية الثانية، فإن الرجل ظل يحكم إسبانيا حتى وفاته عام 1975، وما زالت مرحلة الحرب الأهلية الإسبانية جرحًا في الذاكرة الإسبانية، نتيجة المجازر المتبادلة بين المتحاربين.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter