المدونة قبل شامبليون: محاولات عربية لكشف رموز اللغة المصرية القديمة Nuqta Doc منذ 3 سنوات محمد شعبان على غير ما هو متعارف عليه من أن فك رموز اللغة المصرية القديمة كان على يد العالم الفرنسي “جان فرانسوا شامبليون”، فقد جرت محاولات سابقة لعلماء عرب في هذا المضمار، وإن اختُلف في تقييمها أو تقدير نتائجها فيما بعد. وفي 27 سبتمبر عام 1882، أعلن “شامبليون” فك رموز “حجر رشيد”، الحجر الذي اكتُشف خلال الحملة الفرنسية على مصر، على يد ضابط مهندس فرنسي يدعى “بيير فرنسوا خافيير بوشار” في 19 يوليو عام 1799 بقلعة “جوليان” في “رشيد”، ويعرض منذ يونيو عام 1802 في المتحف البريطاني. ويذكر الدكتور “لؤي محمود سعيد” مدير مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية لـ«نقطة»، أن اللغة المصرية القديمة كُتبت بثلاثة خطوط، “الهيروغليفية” وهي اللغة المَلَكية وكُتبت بها جميع المراسلات بين الحكام أو القرارات والقوانين، و”الهيراطيقية” أي لغة المعابد ودُونت بها الطقوس الدينية، أما “الديموطيقية” فهي اللغة الشعبية والمتداولة بين الناس وخاصة بالمراسلات أو تسجيل العقود. محاولات ساذجة وراء “الخط المجهول” في كتابه “الآثار المصرية المستباحة.. الإدارة المصرية والآثار في القرن التاسع عشر”، يقلل الدكتور “أشرف محمد حسن” من أهمية المحاولات العربية قبل “شامبليون” لكشف رموز اللغة المصرية القديمة. ويشرح أن العرب لم يكونوا على دراية بالنقوش المصرية التي انغلق سرها مع الزمن، فلم يستطيعوا الكشف عن ذلك الخط الهيروغليفي الذي أسموه بـ”القلم المجهول”، ومن ثم لم يفهموا لغز الحضارة المصرية القديمة حق الفهم عن طريق العلم الصحيح، وكل ما رووه بشأنها كان عبارة عن أساطير. وبحسب “حسن”، فقد بحث ونقّب بعض الأمراء والحكام عن الآثار المصرية، كما فعل “عبد العزيز بن مروان” (684 – 705)، و”أحمد بن طولون” (868 – 884)، و”محمد بن طغج الإخشيد” (934 – 946)، ما حدا ببعض الحكام إلى البحث عمن يحسن قراءة رموزها، وأتاح ذلك الأمر الفرصة لكل مدّعٍ للمعرفة أن يدلو بدلوه وهو على يقين من أنه لن يجد معارضة أو إنكارًا، فجاءت كلها محاولات ساذجة يغلب عليها التخمين. خطوات جادة ودوافع مختلفة لكن الدكتور “عكاشة الدالي”، يرى في ورقته البحثية المعنونة بـ”محاولات العلماء العرب في العصور الوسطى اكتشاف مغاليق الكتابات المصرية القديمة”، والمأخوذة من كتابه “الألفية المفقودة.. مصر القديمة في مؤلفات العرب”، أن العصور الوسطى شهدت اهتمامًا من العلماء العرب لدراسة حضارة المصريين القدماء لأسباب كثيرة. فعلماء الكيمياء اعتقدوا أن أسرار تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب تكمن في الكتابات الحائطية التي تزخرف جدران المعابد والمقابر المصرية القديمة، واعتقد علماء الفلك والطب والهندسة أن مصر القديمة كانت معلمة البشرية في هذه المجالات وتشهد بذلك عمائرهم الضخمة مثل الأهرامات، لذا حاولوا فك رموزها للاستفادة مما وصل إليه المصريون القدماء. ويذهب “الدالي” إلى أبعد من ذلك، فيذكر أنه نظرًا لاهتمام المتصوفة بالمعاني المرتبطة بأشكال الحروف، كان من المنطقي أن تثير رموز الهيروغليفية الغامضة فضولهم أيضًا، فاتجهوا إلى فك ألغازها، ولـ”محيي الدين بن عربي” (1165 – 1240) رسائل بالغة الأهمية تدور حول هذه المعاني. ويلفت أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور “عماد هلال” إلى سبب آخر دفع العلماء العرب لفك رموز اللغة المصرية القديمة، تمثّل في البحث عن تعويذات سحرية، لا سيما أنهم يعلمون أن الفراعنة كانوا بارعين في السحر، لأن الله لما أرسل النبي موسى إليهم تحداهم في هذا الأمر. وذكر لـ”نقطة”، أن العرب هدفوا من وراء هذه المحاولات إلى البحث عن كنوز الفراعنة المدفونة، والتي كان يظهر بعضها بالصدفة بين الحين والآخر. بيد أن ذلك لا يعني أن الهدف العلمي من وراء هذه المحاولات لم يكن موجوداً، لكنه أتى في المرتبة الأخيرة، وهذا ينطبق على كل الذين عملوا على فك رموز اللغة المصرية القديمة، بما فيهم الأوروبيين أنفسهم، بحسب “هلال”. إسهامات العلماء العرب ويستعرض “الدالي” جهود الباحثين العرب في فك رموز اللغة المصرية القديمة، ومنهم العالم الكيميائي “جابر بن حيان” (ت 815)، والذي كان أول العلماء العرب اهتمامًا باللغة المصرية القديمة، فأدرج في كتابه “حل الرموز ومفاتيح الكنوز” بعض محاولات لقراءة الكتابات على جدران المعابد. ومعروف عن “جابر” ولعه باللغات قديمها وحديثها، بل استخدامه للكثير من الكلمات في لغاتها الأصلية في كتابه المعنون بـ”الحاصل”. ويأتي بعد ذلك العالم المصري “أيوب بن مسلمة” الذي صحب الخليفة العباسي “عبد الله المأمون” خلال زيارته لمصر سنة 831، وقيل إنه قرأ له النقوش المصرية القديمة على جدران الآثار بما له من معرفة في حل هذه الأشكال. ويذكر “الدالي” في ورقته البحثية، أن مخطوطاً نُسب إلى “ابن مسلمة”، بعنوان “أقلام المتقدمين” عبارة عن دراسة لعدد من الخطوط القديمة منها المصرية، إلا أن حالة المخطوط السيئة جعلت الإفادة منه محدودة. أما “ذو النون المصري” (796 – 859) فهو صوفي ولد بـ”أخميم” جنوب مصر، وقيل إنه ترعرع في معبدها، وكان ضليعًا في العلوم القديمة، وكان يجيد قراءة النصوص التي ازدانت بها جدران المعابد. ووضع “ذو النون” كتابه المعنون بـ”حل الرموز وبرء الأرقام في كشف أصول اللغات والأقلام”، ويشمل دراسة لأكثر من ثلاثمئة كتابة قديمة، ومنها بطبيعة الحال الهيروغليفية والديموطيقية والقبطية. وبحسب “الدالي”، تتميز دراسة هذا الصوفي بأن الصفحة بها القيمة الصوتية للحروف يتبعها رسم أشكالها، إلا أن نهاية المخطوط مفقودة. لكن يظل الظهور الأهم في مجال حل رموز الهيروغليفية بين العلماء العرب للعالم العراقي “ابن وحشية النبطي” (ت 930)، وهو كيميائي وعالم لغوي، وله كتاب بعنوان “شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام”. وفي رأي “الدالي” أن الإنجاز الرئيس لـ”ابن وحشية” يتركز في مجالين، الأول تعرفه على عدد كبير من حروف الكتابة المصرية مع توصله إلى القيمة الصوتية الصحيحة لبعضها. والثاني، وهو الأهم، توصله إلى أن بعض الأشكال الهيروغليفية هي “مخصصات” تستخدم لتحديد المعاني، وقد أورد الكثير منها مع معانيها التي ثبت صحة معظمها حين مقارنتها بقائمة علامات عالم المصريات “آلان جاردنر”، والتي أوردها فى آخر كتابه الشهير “Egyptian grammar”، والذي يعد المرجع الرئيس بالإنجليزية عن قواعد اللغة المصرية القديمة. أما الكيميائي “أبو القاسم العراقي” الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، فوضع كتابًا منحه عنوان “الأقاليم السبعة”، يتضمن لوحات لنقوش ورسوم مصرية قديمة وأيقونات قبطية بذل مجهودًا كبيرًا في نسخها. ذكر “الدالي” أن “أبو القاسم” توّج عمله برسم جدول للحروف الهيروغليفية وتوصل إلى قراءة صحيحة لعدد منها. نتائج غير مهمة ورغم ذلك، يرى “هلال” أن كل نتاج جهود العلماء العرب لا تتعدى التأكيد على أن الرموز الموجودة على جدران المعابد لها دلالات صوتية، وأنهم نجحوا في فك رموز أحد عشر حرفًا فقط، ولا يمكن الوقوف إن كانت تلك الحروف من الهيروغليفية أم الديموطيقية، ولا يمكن التأكد من أن ما توصلوا إليه صحيحًا أم خطأ. ويذكر مثالًا على ذلك بحرف «العين» والذي كان خطأ بحسب ما شاهده من صورة لإحدى صفحات مخطوط “ابن وحشية”، لذا لا يمكن الحكم على أعمالهم. ويجزم “هلال”، بأن علماء الغرب لم يستفيدوا من هذه المحاولات، لأن ما توصل إليه العلماء العرب كان معاكسًا أو على الأقل غير مطابق لما توصل إليه الأوروبيون. ويذكر، أنه خلال الفترة بين كشف “حجر رشيد” سنة 1799 وكشف “شامبليون” رموز الخط الهيروغليفي سنة 1822، حاول علماء غربيون فك رموز اللغة المصرية، مثل المستشرق الفرنسي “سلفستر دي ساسي” سنة 1802، والطبيب الإنجليزي “توماس يونج” سنة 1814، بيد أن كل هذه الإسهامات منفصلة لا تعني شيئًا أمام إنجاز “شامبليون”، فما توصل إليه العلماء الأوروبيون قبله هو نفسه ما توصل إليه العلماء المسلمون من قبل، وكأن الكل كان يدور في حلقة مفرغة حول ثلاث ملاحظات مبدئية، أولها، أن اللغة القبطية هي تطور للغة المصرية القديمة، وأن الخط المصري القديم تطور لأشكال عديدة. وثانيها، وجود دلالات صوتية للرموز الموجودة على جدران المعابد. وثالثها، أن الرموز المكتوبة داخل خراطيش بيضاوية هي أسماء ملوك. مفاتيح مهمة ويختلف الدكتور “لؤي محمود سعيد” مع الرأي السابق، ويذكر لـ”نقطة” أن جهود علماء العرب كانت بمثابة مفاتيح أساسية اعتمد عليها “شامبليون” في فك رموز اللغة المصرية القديمة. ويشرح أنه عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر (1798 – 1801) نقلت كل المخطوطات التي عثرت عليها إلى باريس، وكان من بينها تلك التي كتبها علماء عرب حاولوا فك رموز اللغة المصرية، فاعتمد عليها “شامبليون” في توصله إلى نتائجه، وساعد في ذلك إلمامه باللغتين اليونانية والعربية، إضافة إلى القبطية التي تعملها على يد راهب قبطي كان يعيش في فرنسا اسمه “يوحنا الشفتشي”. وبحسب “سعيد” فقد حلت جهود العرب أزمة كبيرة كانت تقف حائلًا أمام فك هذه الرموز، إذ توصلوا جزئيًّا إلى أن أغلب الخطوط كانت أبجدية، وكل شكل له صوت واحد، وأن هناك حروفًا ثنائية الصوت وأخرى ثلاثية الصوت مثل “عنخ” (رمزها على هيئة صليب). لكن أهم النتائج التي توصل إليها العلماء العرب برأي “سعيد” تعلقت بما يسمى بـ”المخصصات”، وهي علامات كانت تُوضع على آخر الكلمة التي تحمل أكثر من معنى لبيان معناها المراد توضيحه، وكان عدد هذه المخصصات كبير جدًّا، ففي العصر الوسيط وصلت إلى أكثر من 800 علامة، وفي العصر البطلمي بلغت 6 آلاف علامة. وهذه المخصصات سببت ارتباكًا كبيرًا وأخّرت فهم العلماء لرموز اللغة المصرية القديمة، لكن مخطوطات العرب استطاعت أن تقول إن هناك بعض العلامات على شكل مخصصات، فمثلاً ذكر “ابن وحشية” دلالة بعض العلامات على أنها رمز للملكية، وذكر علامات أخرى كرمز للسلطة. الدراسات الاستشراقية ويجزم “الدالي” بأن الطبيعة التراكمية للعلم أجبرت العلماء أيًّا كان لونهم أو مذهبهم أو موطنهم على الإفادة من نتائج وبحوث سابقيهم من العرب، وليس “شامبليون” بدعاً في هذا، فسار على منوال السابقين وتعلم من مخطوطات من سبقه من العلماء العرب. ويدلل على ذلك بأن الإسهامات العربية في هذا المجال شهد بها المستشرقون الأوروبيون. فعلى سبيل المثال نشر المستشرق النمساوي “جوزيف همرفون برجسترال” عام 1806 بمدينة “لندن” النص العربي مع ترجمة إنجليزية لكتاب “ابن وحشية” “شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام”، والذي يعود إلى آخر القرن التاسع الميلادي، ونشر “بلوشيه” سنة 1909 وما بعدها سلسلة من المقالات حول “الغنوصية الإسلامية” (مذهب العارفين بالله) والتي بيّن فيها نجاح بعض العلماء العرب في التوصل لمعرفة بعض الحروف الهيروغليفية. شارك هذا المقال أضف تعليقك إلغاءلن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *التعليقاسمك * E-mail * Web Site احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.