أنت تقرأ الآن:

ما بعد أوكرانيا.. كيف يستخدم “بوتين” مجموعة “فاغنر” للتغلغل في إفريقيا؟

ما بعد أوكرانيا.. كيف يستخدم “بوتين” مجموعة “فاغنر” للتغلغل في إفريقيا؟

في أثناء المنتدى الاقتصادي المشترك بين روسيا والدول الإفريقية الذي عُقِد عام 2019، ظهر الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” مرتاحًا بين نخبة القادة السياسيين وصفوة رجال الأعمال الذين دعاهم إلى مدينة “سوتشي” الواقعة في إقليم “كراسنودار كراي” جنوب روسيا، لمناقشة مجالات التعاون الممكنة مثل الزراعة والطاقة والنفط والغاز وإنتاج الصلب والتعدين والاستثمار والسياحة والصناعة والتبادل العلمي والدفاع والمعدات العسكرية. 

لم يكن اللقاء احتفاء بهم بقدر احتفاله برحلة طويلة قطعها، واكتسب خلالها حلفاء داخل القارة الإفريقية يثقون به مثل مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو وموريتانيا، بسبب سجله الحافل بالمشاركات الناجحة خلال معارك هذه الدول ضد حركات التمرد والجماعات الإرهابية، خصوصًا في عام 2018.

يبدو أن الرئيس الروسي يستغل حالة الاضطراب السياسي التي تعاني منها بعض الدول الإفريقية نتيجة موجة الانقلابات العسكرية التي تجتاحها مؤخرًا، لعقد الصفقات السياسية والعسكرية. والتساؤل هنا: لماذا يرحب كل قادة الانقلابات العسكرية داخل إفريقيا بتعميق العلاقات مع روسيا؟

كلمة السر: مجموعة “فاغنر”، وهي منظمة روسية شبه عسكرية لا يتجاوز عدد أفرادها بضعة آلاف من المرتزقة، شاركوا في مهمات عسكرية مع الانفصاليين في أوكرانيا عام 2015، لكنهم ظهروا للمرة الأولى في عمليات عسكرية داخل إفريقيا عام 2017 في جمهورية إفريقيا الوسطى، وبعدها استمر وجودهم بهدف الاشتباك في النزاعات العسكرية في بقية دول القارة.

لكن إذا اتخذنا جمهورية مالي التي تقع غرب إفريقيا مثالًا صريحًا على التدخل الروسي في القارة، يمكننا فهم إلى مدى سيطرة “بوتين” على دولها.

انقلابات برعاية روسيا

في بداية العام الحالي انتشر المئات من مرتزقة منظمة “فاغنر” في جمهورية مالي، بدعوة من المجلس العسكري، وذلك بهدف مساعدة البلاد في تدريب قواتها الأمنية لتحرير شمال أراضيها. 

أثارت هذه الدعوة دهشة الدول الغربية. فهذه المهمة تنفذها بعثة الاتحاد الأوروبي التدريبية في مالي، وهي قوات متعددة الجنسيات تابعة للاتحاد، منذ الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد “عاصمي غويتا” في أغسطس عام 2020 ضد الرئيس السابق “إبراهيم أبوبكر كيتا”، في خضم الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت البلاد مطالبةً بالقضاء على الفساد. 

بعدها بأقل من عام، وتحديدًا في مايو عام 2021، رفض قائد الانقلاب “غويتا” تسليم السلطة إلى حكومة مدنية، معلنًا نفسه رئيسًا للبلاد، فطُبقت عليه عقوبات اقتصادية إقليمية ودولية. انزعج “غويتا” من قسوة هذه العقوبات، فقرر حظر الطائرات العسكرية الألمانية من المجال الجوي لبلاده، وطرد السفير الفرنسي، ودعا القوات الدانماركية إلى الانسحاب الفوري. وقبل أسبوع واحد فقط من بدء الحرب الروسية-الأوكرانية، أعلنت مالي إنهاء المشاركة الفرنسية في العمليات العسكرية التي تحارب الجماعات الإرهابية على أراضيها بسبب فشلها في تحقيق الاستقرار. 

وخلال عام 2021 انتقلت حمى الانقلابات العسكرية إلى دول إفريقية أخرى، مثل السودان وتشاد وغينيا كوناكري وغينيا بيساو. وأشارت بعض التقارير الغربية إلى تورط روسيا فيها جميعًا بهدف إجهاض أي أمل لبناء ثقة أو شراكة بين القادة الأفارقة والدول الغربية.

وفي يناير عام 2022 تم انقلاب عسكري شبيه في بوركينا فاسو التي تقع كذلك في غرب إفريقيا، واستنجد الجيش بمرتزقة “فاغنر” الروس.

القاسم المشترك بين كل القوات العسكرية التي نفذت الانقلابات هي تلقيهم تدريبات على يد قوات روسية، وأن بعض قادتهم التحقوا بمدرسة القيادة العسكرية العليا في روسيا، مستفيدين بالخبرة العسكرية خلال المهمات التدريبية التي نظمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لحماية بلادهم من الإرهاب والفوضى.

لم تستمر دهشة الغرب طويلًا. فالقيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا، وهي وحدة مكونة من قوات مقاتلة تحت إدارة وزارة الدفاع الأمريكية، تهتم بالعمليات والعلاقات العسكرية مع الدول الإفريقية، أكدت أن مجموعة “فاغنر” لها صلات مباشرة بوزارة الدفاع الروسية، بعد مراقبة أنشطة هذه المنظمة في البلاد التي تنتشر فيها النزاعات المسلحة، على الرغم من نفي الحكومة الروسية تلك الصلة.

رحلة العودة

تحاول روسيا حثيثًا استعادة مجدها السوفييتي من خلال الظهور بصورة المُدافِع عن إفريقيا ومُخلّصها من هيمنة الغرب الذي يلجأ إلى الضغط والتخويف وابتزاز الحكومات ذات السيادة. 

ولم يكن انخراط روسيا في شؤون الدول الإفريقية جديدًا. فقد دعمت حركات التحرر في أنحاء القارة، في الخمسينيات من القرن الماضي خلال الحرب الباردة، وكانت تدعمها بالذخيرة والأسلحة الخفيفة والمتوسطة. 

ويعتقد بعض القادة في الدول الإفريقية أن المواقف الحازمة التي اتخذها الاتحاد السوفييتي السابق لها الفضل في إعادة الأمل في استقلال بلادهم والنضال ضد الاستعمار حينذاك، ما صب في رصيد روسيا كوريث شرعي في الوقت الحالي. 

وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي ركزت روسيا في سياساتها الخارجية على علاقتها مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، متجاهلةً عن عمد تارة وسهوًا تارة أخرى علاقاتها مع إفريقيا، حتى لحظة وصول “بوتين” إلى السلطة، فقرر العودة إلى القارة الإفريقية.

وإذا كان “بوتين” رأى أن عودته إلى إفريقيا منذ وصوله إلى الحكم مهمة فرعية في إطار إجبار الغرب على الاعتراف بمكانة بلاده، فقد أضحت ضرورة ملحّة في الوقت الحالي بعدما فرضت عليه الدول الأوروبية والولايات المتحدة عقوبات اقتصادية، فذهب إلى هناك بحثًا عن أسواق جديدة، حيث يمكنه عقد شراكات تجارية تجعله قادرًا على الاستغناء عن الشريك الأوروبي إذا اقتضى الأمر. 

واستفاد “بوتين” من الإرث السوفييتي لدى الدول الإفريقية، وقرر إحياء العلاقات الروسية-الإفريقية إجهاضًا لسياسات الدول الغربية داخل القارة، خصوصًا أن الدول الإفريقية كانت تواجه صعوبات اقتصادية حادة، ولديها رغبة قوية في شريك يأخذ بيدها إلى طريق النمو الاقتصادي. 

ودائمًا ما يقدم الرئيس الروسي حسن نواياه قبل الشروع في التعاون مع الدول الإفريقية، إذ يلجأ كثيرًا إلى إلغاء الديون المستحقة على بعض الدول، مثل إلغاء ديون إثيوبيا التي تساوي أكثر من 160 مليون دولار مقابل إعطاء الأولوية للشركات الروسية بهدف الاستفادة في مجال الأعمال داخل البلاد التي تطمح إلى تنشيط اقتصادها.  

مستعينة بالصمت، وبخطوات بطيئة، لكنها فعالة، كثّفت روسيا التبادل التجاري ذا المنفعة المتبادلة مع الدول الإفريقية، وعززت الحوار السياسي، والأهم أنها أثبتت قدراتها في التعاون العسكري لتتحول إلى أكبر مُصدِّر للأسلحة في القارة الإفريقية، حيث شكّلت نسبتها أكثر من 18% من إجمالي الصادرات الروسية من الأسلحة بين عامي 2016 إلى 2020، إضافةً إلى الاتفاق على بناء عدد من محطات الطاقة النووية في زامبيا ورواندا وإثيوبيا ومصر ونيجيريا.  

المرة الأولى التي أعلنت فيها روسيا عن بيع صفقة أسلحة إلى القارة الإفريقية كانت عام 2020 من خلال الشركة الروسية “روس أوبورون إكسبورت”، الوكالة الوسيطة الحكومية الوحيدة لصادرات وواردات روسيا من الأسلحة، لكنها لم تحدد الدولة التي سترسل إليها الأسلحة. 

الملفت هنا أن روسيا لم تعلن عن أي عمليات للتدريب العسكري ضمن سياساتها مع شركائها في إفريقيا، لكن السيناريو المتبع في الدول الإفريقية هو: اجتياح الفوضى في البلاد يتبعه استنجاد قائد القوات الذي انقض على السلطة بقوات روسية لتأمينه.

يمكن فهم هذا السيناريو المتكرر في إطار استراتيجية روسيا في اعتمادها على حزمة من الإجراءات غير المتكافئة والخارجة عن القانون الدولي والتي تتنافى مع مبادئ النظام العالمي بهدف تسريع خطة التأثير على الدول الإفريقية، مثل تجنيد مرتزقة، وعقد صفقات الأسلحة مقابل الموارد، ونشر الأخبار المضللة، والتدخل في الانتخابات.  

ما ستفعله الحرب الروسية-الأوكرانية

بعد إعلان “بوتين” الحرب على أوكرانيا من المتوقع أن تتأثر الدول الإفريقية سلبًا بشأن اعتمادها كليًّا على القمح والحبوب الأخرى من كلتا الدولتين، حيث تستورد هذه الدول من روسيا بما يقرب من 4 مليارات دولار منتجات زراعية، ويمثل القمح فيها 90% عام 2020، وتستورد من أوكرانيا منتجات زراعية تقدر قيمتها بحوالي 2.9 مليار دولار، ويحتل القمح منها نسبة 48% في العام نفسه.

روسيا وأوكرانيا من أهم منتجي الذرة وزيت عباد الشمس ومُصدِّريها إلى السوق العالمي، خصوصًا في السوق الإفريقية. وبالتالي، فإن اشتعال الحرب بين الدولتين قد يعطل التجارة العالمية، وستتحمل الدول الإفريقية النصيب الأكبر من خسارة استقرار أمنها الغذائي. فمن المتوقع تضخم أسعار المواد الغذائية التي ستخلق مناخًا ملائمًا لصراعات أعنف داخل إفريقيا.

وفي أثناء اجتماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمناقشة الوضع في أوكرانيا، لم يعترض الاتحاد الإفريقي، وهي منظمة دولية مهمتها تسهيل الاندماج السياسي والاجتماعي والاقتصادي للقارة، بشكل حازم على العمليات العسكرية التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا، مكتفيًا بالتعبير عن “قلقه البالغ” بشأن “ما يحدث”. 

يمكن فهم موقف المنظمة في إطار الحفاظ على ما يقدمه “بوتين” من صفقات اقتصادية سخية أحيانًا، وتحالفات عسكرية لا يمكن أن يقدمها الغرب غالبًا.

لا يمكن تحديد إلى أي مدى ستؤثر الحرب الروسية-الأوكرانية في الاستقرار الاقتصادي والسياسي داخل الدول الإفريقية، حيث تعتمد النتيجة على طول مدة الصراع ومدى تصعيد العنف العسكري بين الطرفين، على الرغم من أن الحرب ألقت بظلالها المخيفة اقتصاديًّا منذ بداية تسارع الأزمة في يناير من العام الحالي. فقد ارتفعت أسعار السلع الغذائية عالميًّا لأعلى مستوى لها منذ إبريل عام 2011، وفقًا لمتوسط مؤشر منظمة الأغذية والزراعة “فاو”، وهي منظمة متخصصة تابعة للأمم المتحدة مهمتها تركيز الجهود الدولية بهدف القضاء على الجوع في العالم.

توازيًا مع الحرب الروسية-الأوكرانية تستمر حالة الجفاف الشديد في المناطق شبه الاستوائية في أمريكا الجنوبية التي بدأت منذ عامين، ما قلل تدفق أحواض أنهار كبيرة، ومن ثم أضرّ بالزراعة، وعانت المحاصيل الزراعية من نقص حاد، ووضع السوق العالمية في أزمة خطيرة ومؤثرة.

ربما تعمّد “بوتين” اختيار هذا التوقيت الاستراتيجي تحديدًا لبدء الحرب بهدف ممارسة ضغط أكبر على أعدائه في الغرب، خصوصًا على الساحة الإفريقية. فمن الناحية الاقتصادية يضغط على السوق العالمية بارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، ما يولد صراعات لا تنتهي داخل الدول الإفريقية، فلا تستطيع الدول الغربية السيطرة عليها بسبب تنامي علاقات قادة إفريقيا مع روسيا، نتيجة استمرار “بوتين” في بيع الأسلحة لهم، وتدريب قواتهم العسكرية سرًّا، وحتى المشاركة في إنجاح انقلابات موالية لروسيا.

أضحت روسيا اللاعب الرئيس في القارة الإفريقية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي بفضل “بوتين” الذي لم يعد في حاجة إلى شن حرب على أراضيها، مثلما يفعل في الوقت الحالي مع أوكرانيا، كي يمنعها من تحقيق رغبتها في الخروج من عباءته والهروب إلى أحضان الغرب. 

أحكم “بوتين” قبضته اقتصاديًّا وغذائيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا على القارة الإفريقية التي من المحتمل أن تتحول إلى المسرح العالمي الجديد بعد رحلته في أوكرانيا ليحقق حلمه بقيادة المجتمع الدولي. حتى إذا اختارت بعض الدول الإفريقية الإفلات من قبضة “بوتين”، فلا تمتلك دول غربية مثل كندا وأستراليا والولايات المتحدة القدرة على إشباع الأسواق التي تزودها بالمنتجات الزراعية الأساسية مثل القمح، وفي الوقت نفسه سد احتياجات الدول التي يُصدّر إليها “بوتين”، متجاهلةً حجم مساهمة روسيا في الاقتصاد العالمي، وكأنها ليست على خريطة العالم. ويفتقر الغرب إلى الخطة التي تُمكّنه من تحقيق الاستقرار السياسي في إفريقيا، إذا لم يرغب “بوتين” في ذلك.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter