أنت تقرأ الآن:

من محاربة الفيروسات إلى مشاكسة الحكومات: جون مكافي

من محاربة الفيروسات إلى مشاكسة الحكومات: جون مكافي

كل متاعب حياتي ترجع إلى المصدر ذاته:

صديقي الأعزّ وعدوي الألدّ، كلاهما ذاتي

جون مكافي – فبراير 2021

جون مكافي، منشئ برنامج مضاد الفيروسات الذي يحمل اسمه الشهير، وُجد ميتًا في زنزانة ببرشلونة يوم 23 يونيو 2021، وذلك بعد الحكم بترحيله إلى الولايات المتحدة بتهمة التهرب من الضرائب، وكان في الخامسة والسبعين من عمره. 

قالت السلطات الإسبانية إنه قتل نفسه.

حكايات مؤسسي شركات عمالقة التكنولوجيا تتشابه إلى حد ما، كلها عدا حياة جون مكافي، والتي بدأت ببنائه أول برنامج مضاد فيروسات في العالم، ولم تستمر في وادي السيلكون مثلما فعل أقرانه، وإنما كانت حكاية مليئة بالعبث واللهو والأسلحة والمخدرات والقتل والسياسة والعملات الرقمية، والتهرب الضريبي على ما يبدو.

البداية

وُلد جون دافيد مكافي في قاعدة أمريكية عسكرية في إنجلترا عام 1945، لأم بريطانية وأب أمريكي كان مُرسلًا إلى بريطانيا مع الجيش في الحرب العالمية الثانية. قضى طفولته في ولاية فيرجينيا الأمريكية، واتضح أن أباه كان مدمن خمر مؤذيًا يضرب ابنه باستمرار. قتل أبوه نفسه عندما كان جون في الخامسة عشر، أطلق الرصاص على رأسه ببندقية وهو في الحمام. انتحار الأب سيظل يطارد جون بقية حياته، فيستيقظ كل يوم على نفس المشهد مثلما أخبر مجلة “Wired” عام 2012.

لم يكن مكافي طالبًا عبقريًّا أو مهووسًا بالرياضيات مثل غالبية رواد التكنولوجيا في شبابهم، بل كان، رغم تفوقه النسبي في الرياضيات، طالبًا كسولًا غير مهتم بأي شيء. التحق بكلية رونوك في ولاية فرجينيا، حيث قيل إنه مارس أول نشاطه التجاري؛ بيع الكوكايين للطلبة.

حاول الحصول على الدكتوراه في الرياضيات، لكن الجامعة طردته عام 1968 بسبب علاقته بطالبة صغيرة السن. عمل بعدها مبرمجًا في شركات عدة، أبرزها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا وشركة زيروكس. على مدار هذه الفترة تزايدت عادته في تناول المخدرات بأنواعها والكحول حتى صار مدمنًا، وشارك في برنامج AA الأمريكي للتخلص من إدمان الكحول عام 1983.

عام 1986، بينما كان يعمل مبرمجًا في شركة “Lockheed Martin”، قرأ عن أول فيروس كمبيوتر في العالم، والذي عُرف باسم “Brain”، وكان كتبه ونشره شقيقان من باكستان.

عندها رأى مكافي فرصة لا يمكن تفويتها.

مضاد الفيروسات

في يوم ونصف اليوم فقط، كتب جون مكافي أول نسخة من أول برنامج مضاد للفيروسات في العالم، وأنشأ شركة McAfee Associates Inc لبيع البرنامج الجديد تحت اسم “فيروس سكان” (VirusScan). 

لم يتوقع الكثير من البرنامج، أراد فقط أن ينشر الوعي بوجود فيروسات الكمبيوتر وأهمية برامج مضادات الفيروسات. خلال أول أربعة أشهر من إطلاقه صار يستخدمه أربعة ملايين مستخدم، وبحلول بداية التسعينيات كانت الشركة تحقق الملايين سنويًّا، وصار جون مكافي أيقونة تكنولوجية مثل العظماء الأوائل، وباتت أكثر من نصف الشركات في قائمة Fortunate 500 (أي أكبر 500 شركة في الولايات المتحدة) تستخدم برنامج مكافي على أجهزتها.

لكن، في 1994، وبعد خلافات مع إدارة الشركة، استقال منها جون مكافي وباع حصته فيها مقابل 100 مليون دولار.

هنا انتهت رحلة جون مكافي مع الشركة المسماة باسمه. بعد عدة مرات بيع، ستشتري “إنتل” (Intel) شركة مكافي بأكثر من سبعة مليارات دولار. وأعلنت إنتل في 2014 أنها ستبيع منتجات مضاد الفيروسات التابعة لمكافي تحت اسم “Intel Security”، وهو ما علق عليه جون مكافي قائلًا إنه سيظل ممتنًّا إلى الأبد لإنتل بسبب إزالة اسمه من “أسوأ برنامج على الكوكب”. لكن الدمج سينفك بعد فترة وتعود منتجات مكافي إلى اسم صاحبها الذي تبرأ منها.

كيف تسلي نفسك بمئة مليون دولار؟

مئة مليون دولار لا تجعلك من أثرى أثرياء العالم، لكنها كافية لجعلك تعيش في رفاهية لعشرات السنين، وهو بالضبط ما فعله جون مكافي في الأعوام التالية. برغم مشاركته في عدد من الشركات والأعمال التي لم يصب أيها نجاح، فإن حياته منذ بيع الشركة كانت عبارة عن رحلة من العبث والبحث عن المتعة.

اشترى العديد من السيارات، وبنى كثيرًا من البيوت، بات من مدمني الأدرينالين الباحثين عن التجارب الخطيرة في كل مكان، واشترى التحف التذكارية والغريبة، بل حتى صار معلم يوغا في مرحلة ما، وبنى منتجعًا في نيو مكسيكو يُعلّم فيه اليوغا والحكمة لضيوفه.

لكنه ظل ملاحَقًا بقضايا هنا وهناك تسعى للحصول على قطعة من أمواله التي كانت تتناقص بمعدل كبير، فأعلن في 2009 أنه يمر بظروف صعبة، واضطر إلى بيع كل ما يملك في مزادات، غير أنه سيعلن بعد سنوات عديدة أن تلك لم تكن إلا خدعة حتى يحسبه الناس مفلسًا ويتوقفوا عن مقاضاته طلبًا للأموال.

مشروعات فاشلة في بليز

في 2010، بحثًا عن حياة جديدة، انتقل مكافي بأمواله المتبقية (نحو 4 ملايين دولار بحسب المعلن عنه) إلى “بليز” (Belize)؛ بلد صغير في أمريكا الوسطى.

بدأ حياته هناك في منزل على الشاطئ، ثم انتقل إلى الغابة، وأنشأ معملًا وشركة تُدعى “QuorumEx”، وعد بأن تكون مقرًّا لبحث مضادات حيوية عشبية المصدر وتصنيعها. استأجر العلماء لقيادة الأبحاث وكثيرًا من المجرمين السابقين حراسًا شخصيين، وعاش محاطًا بالنساء صغار السن.

في إبريل 2012، اقتحمت السلطات البليزية معمل مكافي بناءً على اتهامات بأنه كان يصنع في معمله المخدرات، لكن مكافي ادّعى أن الحكومة الفاسدة هناك قصدت تخريب أعماله لأنه لم يدفع الرشوة المطلوبة، وأن أبحاثه كانت على وشك الوصول إلى نتائج.

لم تجد السلطات أي مخدرات، وأثارت شائعات عن أنه وُجد بين أحضانه فتاة تحت السن القانونية في المعمل عند اقتحامه.

بعدها عاد مكافي إلى بيته على الشاطئ، بصحبة حراسه المسلحين ونسائه وتسعة كلاب متوحشة. تلك الكلاب ستكون سبب مواجهة جديدة بينه وبين السلطات، لكن متهمًا بجريمة قتل هذه المرة.

من قتل جريج فول؟

“جريج فول” أمريكي آخر يبحث عن حياة تقاعد مريحة بمدخراته، لكن القدر لم يخبئ له من الراحة الكثير، فحظه العاثر جعله جارًا للمليونير الأمريكي العائد من الغابة بحراسه ونسائه وكلابه المتوحشة.

كلاب مكافي مُطلقة السراح أغلب الوقت، وتجعل حياة كل من يتجول في الأنحاء جحيمًا، وجريج فول كان يسكن قريبًا جدًّا من مكافي، ما جعل تحاشي الكلاب أمرًا مستحيلًا، ولم يبد جون مكافي أي نية لحل مشكلة كلابه.

تصاعد الخلاف بين جريج وجون، وقال جريج لأصدقائه إنه ينوي وضع السم لكلاب مكافي إن لم يحل الأخير مشكلة كلابه. ولم يمض وقت طويل إلا وأُلقي بلحم مسموم في باحة مكافي الخلفية، أكلته الكلاب جميعها وماتت.

في الليلة التالية تسلل أحدهم إلى بيت جريج وقتله.

المشتبه الرئيس كان جون مكافي، وبالطبع أنكر التهمة تمامًا.

في الفيلم الوثائقي “Gringo” الذي أنتجته شبكة “Showtime” عن حياة جون مكافي، قال أحد العاملين في بيت مكافي حينها إنه أعطى أحدهم خمسة آلاف دولار بأمر من مكافي، وإنه يعتقد أن هذا الشخص هو القاتل المستأجر الذي كلفه مكافي بقتل جريج.

لاحقًا، سيظهر الرجل نفسه في فيديو نشره جون مكافي على صفحته في يوتيوب، قائلًا إن ما قاله في مقابلة فيلم الـ”شوتايم” كان كذبًا، فبركة ليحصل على مبلغ عشرة آلاف دولار وعدته به الشبكة الإعلامية ليظهر في فيلمها عن مكافي.

سعت السلطات البليزية خلف مكافي الذي هرب منهم إلى الغابة مرة أخرى، ثم هرب إلى غواتيمالا، حيث طلب اللجوء السياسي، لكن السلطات الغواتيمالية رفضت طلبه واعتقلته بتهمة دخول البلد بطريقة غير شرعية، وجهزت لترحيله إلى بليز.

لكن مكافي أُصيب بنوبتين قلبيتين على التوالي، وخلال فترة علاجه استطاع محاميه استئناف أمر الترحيل إلى بليز، وبدلًا من ذلك يتم الترحيل إلى ميامي في الولايات المتحدة الأمريكية.

بعدما يعود إلى أمريكا سيكشف جون مكافي أنه لم تصبه أي نوبة قلبية، بل ادّعى ذلك ليكسب بعض الوقت لمحاميه بدلًا من أن يجد نفسه في بليز.

طموح سياسي

عاد مكافي إلى أمريكا في 2012 بعد رحلة عجائبية كانت مادة خصبة للأفلام وبرامج التوك-شو ومواقع الإنترنت، عاد بشهرة تفوق كل أقرانه القدامى من عمالقة الإنترنت في عالم لا يعرف عنه أيُّهم أي شيء.

في السابعة والستين من عمر أي رجل، عادةً ما يكون قد زهد في مغامرات الحياة ومتاعها ولا يرغب إلا في تقاعد سلمي، لكن جون مكافي ليس أي رجل، بل كان لا يزال في حياته فصل طويل وغني يليق بمغامر غريب الأطوار مثله.

في ميامي، قابل جانيس ديسون، عاهرة في الثلاثين من عمرها، أحبها وتزوجها، وستظل زوجته حتى النهاية. سيقول في مقابلة تلفزيونية قبل موته بأشهر، إنها حاولت قتله عدة مرات بالتعاون مع عصابات المخدرات والسلطات البليزية وأجهزة المخابرات العالمية، لكنه كشف كل تلك المحاولات وسامحها عليها، فأن تحاول زوجتك قتلك ليس أسوأ شيء قد تفعله زوجة.

في أمريكا، عاش جون مكافي دور المتحدث عن الأمن الرقمي السيبراني، صار يظهر في كل المنافذ الإعلامية ليتحدث عن القضايا الرقمية وينتقد الحكومة ويشجع الهاكرز المارقين على الحكومات، بل منح على الهواء مباشرة نصائح لجورج سنودين عن كيفية الهروب بشكل مثالي من عملاء الحكومة الأمريكية.

في 2015، أعلن جون مكافي ترشيح نفسه للرئاسة الأمريكية في سباق 2016 مع الحزب السايبري، وهو حزب أُنشئ لتوه، لكنه عدل عن ذلك بعد شهرين، وأعلن أنه سيحاول مع الحزب الليبرتاري. غني عن الذكر أن محاولته لم تصب نصيبًا.

ومنذ 2017، أصاب مكافي الهوس بالعملات الرقمية، صار يعمل في تعدينها والتشجيع عليها والنصح بها في كل منبر.

في انتخابات 2020 سيرشح جون مكافي نفسه مرة أخرى للرئاسة، لكن من المنفى هذه المرة. فجون مكافي طوال إقامته في أمريكا كان مناصرًا لإلغاء ضريبة الدخل، وداعيًا إلى استخدام العملات الرقمية كي لا تتمكن الحكومة من فرض الضرائب عليه، وأعلن صراحة أكثر من مرة أنه لا يدفع الضرائب. ولهذا أدانته المحكمة بتهمة التهرب من الضرائب في 2018، وهرب من أمريكا مجرمًا مدانًا.

خاض مكافي حملته الانتخابية الهزيلة من المياه الدولية عبر تويتر، وأعلن أنه متجه إلى فنزويلا، ثم قال إنه نقل مقر إدارة حملته إلى هافانا عاصمة كوبا، ودافع عن الثورة الشيوعية وتشي جيفارا. حملته الانتخابية في المنفى كانت بقدر فائدة حملته في 2016 على أرض الوطن، بالطبع.

النهاية؟

“لو قتلت يومًا نفسي، فأنا لم أقتل نفسي، بل قُتلت”

من تغريدة لجون مكافي في ديسمبر 2019

في أكتوبر 2020، اعتقلت السلطات الإسبانية جون مكافي، في مطار مدينة برشلونة، وقد كان على وشك ركوب طائرة متجهة إلى إسطنبول.

ظل مكافي في السجون الإسبانية لثمانية أشهر، يحاول تجنب الترحيل إلى أمريكا بكل الطرق، لكن المحكمة الإسبانية حكمت بترحيله إلى الولايات المتحدة الأمريكية يوم الأربعاء 23 يونيو 2021. وبعد عدة ساعات، وبحسب ما صرحت به السلطات الإسبانية، شنق نفسه في زنزانته.

تنفي زوجة جون أن زوجها فعل ذلك، وتقول إنه بعد صدور الحكم كان يتحدث معها في الهاتف، ويضع خطة قانونية لمواجهة الحكم ومنع الترحيل، ولا شك أن هناك من قتله في زنزانته. ومكافي نفسه على طول تاريخه القديم كان يقول إنه لن يقتل نفسه أبدًا، بل إن الحكومات والعصابات هي ما تسعى للقضاء عليه لإسكاته وحماية ما يملكه من معلومات عنهم. كان هدد قبل القبض عليه بأشهر أنه يملك أكثر من 31 تيرابايت من البيانات عن فساد الحكومات والمسؤولين، ستظهر هذه البيانات للعلن إذا حدث له أي شيء. كل هذه التفاصيل تجعل التفكير في قتل جون مكافي لا يبدو بعيدًا عن الخيال.

لكن احتمال قتله لنفسه أيضًا غير مستبعد، خصوصًا من وجهة النظر النفسية، فرجل قضى حياته هاربًا متحررًا من كل قيد بهذه الطريقة، وربما تورط في جرائم عديدة لم تثبت عليه أيٌّ منها، على الأرجح لن يتحمل الحياة في السجن، ولقد قضى بالفعل ثمانية أشهر محتجزًا في إسبانيا، عجوزًا ضعيفًا دون حرس خاص ولا نساء من كل مكان ولا أسلحة ولا كحول ومخدرات. 

باستثناء طفولته المبكرة السيئة، ربما كانت شهوره الأخيرة هي الأقسى في حياته، لا سيما أنه صار بانتظاره حياة من السجن في أمريكا، الوطن الذي كان ملاذه سابقًا من السجن، والذي طالما مرح فيه وجرب فيه شتى أنواع المغامرات، من اليوغا إلى الانتخابات.

لا سبيل للتيقن من حقيقة موت مكافي، فلن يخرج أحدهم يومًا يقول أنا قتلت مكافي، والشك في انتحاره سيظل موجودًا إلى الأبد. على أي حال تبقى حياة مكافي لغزًا كبيرًا، المخفي منها أكثر من المعلن، مادة خصبة لكل من يريد أن يتخيل كيف ستكون حياة العباقرة لو سلكوا طريقًا غير المعتاد.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter