أنت تقرأ الآن:

من يدير حسابات القادة؟

من يدير حسابات القادة؟

كيف تدار حسابات التواصل الاجتماعي لترامب وغيره من رؤساء العالم؟

في واحدة من أشهر اللحظات في تاريخ مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدًا بعد منتصف ليلة 31 مايو 2017، نشر حساب دونالد ترامب تغريدة غامضة أصبحت محل تندر الصحافة لفترة طويلة. تكونت التغريدة من جملة غير مكتملة تنتهي بكلمة لا وجود لها في المعاجم، وليس لها أي معنى على الإطلاق، وهي كلمة «covfefe». دعنا نضع لها مقابلًا عربيًّا لا معنى له كذلك، وليكن مثلًا «تغطيط». أصبحت الكلمة منذئذ تستخدم للسخرية عندما يود المرء أن يقول شيئًا مهمًّا، لكن من دون معنى حقيقي.

كان النص الكامل للتغريدة: «على الرغم من تغطيط الصحافة السلبية المستمر»، هكذا فقط. ومثلما يحدث في أي «تريند»، سارعت حسابات المشاهير الأخرى إلى إلقاء النكات، حتى إن هيلاري كلينتون كتبت معلقة على نقد ترامب لها أن «من كان بيته من تغطيط، عليه ألا يقذف الناس بالتغطيط».

سارعت الصحف ومواقع الأخبار بالتعليق. بالنسبة إلى معظم الصحف المعارضة كانت هذه التغريدة مجرد علامة أخرى على بلاهة ترامب وعدم صلاحيته لأي شيء، أما سخرية كلينتون اللاذعة، فهي علامة على ذكائها وحضور بديهتها.

لكن لحظة واحدة! هل يظن الناس بالفعل أن السياسيين الكبار يفتحون هواتفهم في آخر يوم متعب من أجل تصفح الأخبار أو التراشق على مواقع التواصل الاجتماعي بالبيجامة قبل النوم؟ ربما يفعل بعضهم ذلك. وفي حالة ترامب خصوصًا، فإن هذا السيناريو محتمل، لكن معظمهم لا يفعل، لأن حساباتهم تعد قنوات دبلوماسية رسمية، ولا يمكن أن تدار بصورة عشوائية، وإنما بتخطيط واستراتيجية. لهذا، فإن حسابات الرؤساء والقادة لا تعبر بالضرورة عن صفاتهم الشخصية. وفي الواقع، فإن أحدًا منهم لا يستخدم الحساب للتغريد أصلًا إلا في أحيانٍ نادرة. بدلًا من ذلك، يوجد رجال ونساء آخرون؛ يقبعون في الظل، هم الذين يستخدمون هذه الحسابات.

فمن هؤلاء؟

دان سكافينو: رجل ترامب الأول

بالنسبة إلى ترامب، فإن هذا الرجل هو «دان سكافينو»، مدير وحدة التواصل الاجتماعي بالبيت الأبيض، والمسؤول عن كل تغريدات ترامب ومنشوراته على مواقع التواصل.

يعد سكافينو الذراع اليمنى لترامب، ومدير التواصل الاجتماعي الخاص به منذ بدء الحملة، لكن علاقتهما تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير. فقد بدأت هذه العلاقة للمرة الأولى عام 1990، عندما كان سكافينو يعمل منظفًا لمضارب الغولف في أحد الملاعب التي ارتادها ترامب، وكان عمر سكافينو عندئذ 16 عامًا فقط. اختاره ترامب مساعدًا له في اللعب، وتتكون وظيفة المساعد من حمل مضارب الغولف والكرات وتشجيع اللاعب ونُصحه، ويبدو أن ترامب أحب سكافينو سريعًا حتى إنه ترك له مئتي دولار بقشيشًا. يقول سكافينو إنه ظل محتفظًا بها إلى اليوم!

تخرَّج سكافينو في الجامعة بعد ذلك، وتنقل بين الوظائف في العشرينيات من عمره، قبل أن يتلقى اتصالًا من صديق قديم. كان ترامب يريد الاستعانة به مديرًا مساعدًا لنادي الغولف نفسه الذي تقابلا فيه للمرة الأولى، والذي اشتراه ترامب ليضمه إلى إمبراطوريته لملاعب الغولف. وافق سكافينو، ثم ترقى تدريجيًّا ليصبح نائبًا لرئيس النادي، ويزداد قربًا من ترامب في الوقت نفسه، وعندما أعلن ترامب أخيرًا أنه يفكر في الترشح للرئاسة، قال سكافينو إنه على استعداد للتخلي عن كل مسؤولياته الأخرى من أجل العمل معه، فكان أن عيَّنه ترامب مديرًا للتواصل الاجتماعي.

العملية الدقيقة لكتابة التغريدات وتحريرها تظل واحدة من أسرار البيت الأبيض، لكن المؤكد أن معظم تغريدات ترامب ومنشوراته تمر عبر سكافينو أولًا، والذي قد يناقش ترامب فيها قبل أن يكتبها واحد منهما بأسلوبه. وأحيانًا قد تأتي فكرة التغريدة أو المنشور من مصدر آخر، ويعمل سكافينو على أن يعطيها نبرة ترامب.

يحاول سكافينو إذن أن ينتج محتوى ترامب بصورة تحافظ على شخصيته أو “البيرسونا” الخاصة به على الإنترنت، وهو مثلًا صاحب فكرة التغريدة الشهيرة التي أطلقها الرئيس الأمريكي متوعدًا إيران بالعقوبات الاقتصادية، والتي أرفق بها صورة للرئيس يشبه ملصقًا دعائيًّا لمسلسل «لعبة العروش». ومن أجل أن يحافظ على إيقاع معقول للتغريد، لأن ترامب كان يكثر من استخدام تويتر أحيانًا، كان سكافينو يعرض على الرئيس مجموعة من التغريدات يوميًّا ليختار منها.

لكن مع ذلك، ظل ترامب يفضّل أن يكتب بنفسه أحيانًا، من أجل أن يستمتع بالطريقة التي تنتقل بها الفكرة من أطراف أصابعه لتظهر فورًا على قنوات الأخبار.

توفام وغورين: «الميمز» من أجل بوريس جونسون

يعد أسلوب ترامب في إدارة حسابات التواصل الاجتماعي شائعًا في الولايات المتحدة منذ باراك أوباما، ويعتمد على تدخل فريق للعمل من أجل “فلترة” المتحوى وتحريره، وتقديم استشارات بشأنه، والكتابة بطريقة تحافظ على الطابع الشخصي للحساب. لكن معظم السياسيين الكبار لا يعملون بهذه الطريقة، وإنما يعتمدون بدرجة أكبر على شركات العلاقات العامة وفرق الدعاية لإدارة حساباتهم. ولنأخذ هنا مثالًا آخر هو رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون.

استعان جونسون، في حملته الانتخابية في 2019، بفريق للتواصل الاجتماعي مكون من شابين نيوزلينديين، هما شون توفام وبن غورين، وكان عمر الأول آنذاك 28 عامًا، والثاني 24 عامًا فقط، وهو أمر لافت، خصوصًا أن الجمهور المستهدف في حملة جونسون كان من فئة عمرية أكبر كثيرًا، واستطاع الفوز في النهاية فقط بسبب أصوات كبار السن. فكيف نجح هذان الشابان، من أبناء جيل الألفية، في التواصل مع جمهور جونسون؟

عندما بدأ توفام وغورين العمل مع جونسون كانا حققا بالفعل نجاحًا كبيرًا في حملة رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون في 2018، وعملا في الحملتين تقريبًا بالاستراتيجية نفسها. استخدم الشابان «الميمز» على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل التأثير في الجمهور، فسخرا من الخصوم باستخدام ما أسموه «ميمز كبار السن» (Boomer Memes)، وهي صور تحمل رسالة قصيرة ساخرة عادة، وتُصمم بطريقة رديئة كما لو أنها صُنعت في برنامج “الرسام” (Paint)، ولا تراعي جماليات التصميم التقليدية. تبدو ميمز كبار السن باختصار كما لو أن أحد الأشخاص عديمي الخبرة بشأن استخدام الحاسوب هو الذي صممها.

الطريف بالطبع أن هذه الميمز تُستخدم في أوساط الشباب عادة للسخرية من طرق كبار السن في التعبير على الإنترنت، لكنها هنا كانت وسيلة فعالة للتواصل مع كبار السن أنفسهم. وعن طريق تكرار الرسائل نفسها مرة بعد مرة، قدم توفام وغورين حملة ناجحة لموريسون، ثم لجونسون بعد ذلك. وفي الحالتين كان خصومهم اليساريون يظنون أنهم أقدر على التأثير على الإنترنت، وأن عملهم هناك سيكون أسهل، وهو ما ثبت خطؤه.

ليس مؤكدًا ما إذا كان توفام وغورين أدارا صفحة جونسون مباشرة، والمعلومات بشأن الأشخاص المحددين الذين يديرون هذه الصفحات تظل غير معروفة، لكن المؤكد أن صفحة جونسون كانت تلتزم الخط التحريري لحملة الحزب، وتعيد نشر المحتوى المنشور هناك، وبالتأكيد كانت تحصل على استشارات من فريق التواصل الاجتماعي الخاص بالحملة، هذا في حالة لم تكن الصفحة تحت الإدارة المباشرة للفريق نفسه. صفحتا جونسون وحزبه يداران من عدة مناطق في المملكة المتحدة، وهو متوقع، لكنهما يداران كذلك من موقع واحد في أوكرانيا، ويشير هذا غالبًا إلى اشتراك الصفحتين في الإدارة.

هوغو شافيز: أن تبقي حسابك شخصيًّا

إذا كان بعض الرؤساء يعمل على فلترة حسابه أو الحصول على استشارات بشأن المحتوى المنشور، ويعمل بعضهم الآخر على تشغيل فرق للتواصل الاجتماعي تدير الحساب بالكامل، فإن هناك قسمًا ثالثًا، لكنه أقل بكثير، يستخدم حساباته كما يستخدمها أي مواطن آخر، للتعبير عن كل شيء يخطر ببالهم، دون فلترة أو استراتيجية أو أي شيء آخر.

كانت تغريدات الرئيس الفينزويلي السابق هوغو شافيز مثلًا تعبر عن شخصيته تمامًا، فخرجت عفوية وغير منقحة، وكثيرًا ما كانت عبارات وطنية قوية تنتهي بأكثر من علامة تعجب (!!!)، لكنها كانت أحيانًا مساحة عادية لتعبيره عن أي شيء يحدث في يومه، كأحد التغريدات من 2012 التي قال فيها: «أكلت للتو طبقًا رائعًا من شوربة السمك، والأرز مع الموز، أعتذر لهؤلاء الذين لم يتناولوا غداءهم بعد».

أحيانًا، استخدم شافيز حسابه على تويتر من أجل مخاطبة مسؤولين آخرين، كأن يرد على أحد الوزراء أو يطلب منه شيئًا، وكان يعلن عن اجتماعاته القادمة مع الرؤساء الآخرين عبر الحساب كذلك. بل كثيرًا ما عرفت الصحافة عن سفره إلى مكان معين فقط بسبب تغريداته العفوية، مثلًا كأن يقول: «الآن في طريقي إلى البرازيل». حتى عندما مرض شافيز في أيامه الأخيرة، ولم يعد يظهر على التليفزيون أو الراديو، ظل يستخدم حساب تويتر الخاص به بنفس الطريقة.

حتى اسم الحساب نفسه كان @ChavezCandanga، ويعني «شافيز المشاغب». يبدو حساب شافيز كما لو كان حسابًا شخصيًّا لأحد النشطاء السياسيين مثلًا، لا لرئيس دولة، لكن من يدري؟ ربما كان هذا واحدًا من العوامل التي أسهمت في شعبيته بين مؤيديه، فهو عفوي وغير متكلف ولا يبدو مفرطًا في اهتمامه بالبروتوكولات والمسائل الرسمية.

فهل تكون هذه إستراتيجية ناجحة في حد ذاتها؟ أم إن رؤساء الدول عليهم أن يكثروا الاعتناء بما يخرج منهم على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى لو تطلب الأمر تكليف مختصين بإدارة حساباتهم.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter