أنت تقرأ الآن:

العمل العاطفي

العمل العاطفي

حتى لو لم تكن سمعت عن مصطلح العمل العاطفي من قبل، فأنت غالبًا تعرف معناه. كم مرة وجهت غضبك تجاه موظف خدمة العملاء في إحدى الشركات، ثم بررت غضبك بأن من مهمته أن يتحمَّلك دون أن يغضب؟ أو حتى دون أن يأخذ الأمر بشكل شخصي؟ هذا هو العمل العاطفي.

القلب تحت إدارة الشركات

ظهر مصطلح “العمل العاطفي” للمرة الأولى في كتاب “القلب المنظم” (The Managed Heart) لعالمة الاجتماع الأمريكية “آرلي هوتشيلد”، والصادر عام 1983. في كتابها تبدأ “آرلي” بالحديث عن كيف ندير مشاعرنا في حياتنا، خصوصًا عندما لا تتطابق مشاعرنا مع التوقع المجتمعي للمشاعر المناسبة للموقف. مثلًا عندما لا نظهر الحزن الكافي لوفاة قريب، أو لا نكون في غاية السعادة في حفل زواجنا. 

في هذه المواقف نضطر لإدارة مشاعرنا لنوافق المتوقع منا، سواء عن طريق “التمثيل السطحي” (Surface Acting)، وذلك بأن نضع على وجوهنا التعبيرات المناسبة للموقف، أو “التمثيل العميق” (Deep Acting)، أي عندما نحاول تغيير مشاعرنا نفسها، سواء باستحضار مواقف شبيهة، مواقف حزينة مثلًا لو كان المطلوب أن نشعر بالحزن، لكي نتمكن من التماهي مع الشعور المتوقع منا. 

في هذه المواقف، نكون المخرجين في مسرحنا الخاص، ولحساباتنا الخاصة. 

يتغير ذلك في “العمل العاطفي” عندما تتم إدارة مشاعرنا لتتوافق مع متطلبات العمل، وحين تخرج مسؤولية إدارة هذه المشاعر من بين أيدينا لتكون في يد إدارة شركة تحقق ربحًا مقابل مشاعرنا هذه.

العمل العاطفي إذن هو العمل الذي يتطلب من الموظف أن يكبح مشاعره الخاصة لصالح المشاعر المناسبة لنوع عمله، ويتيح العمل العاطفي لصاحب العمل أن يدير ويشرف على عواطف موظفيه بصفتها جزءًا من الخدمة التي تقدمها الشركة.

في كتابها تدرس “آرلي” حالة المضيفات في إحدى شركات الطيران الأمريكية: كيف يتم تدريبهن وتوجيهن لإظهار الحماسة وضيافة معينة تكون جزءًا من الخدمة التي تقدمها الشركة لركابها. فمضيفة الطيران عليها أن تُظهر للركاب دومًا فرحتها وحماستها لاستضافتهم، مهما يكن شعورها الشخصي في هذه اللحظة. فقد تكون تمر بيوم سيئ أو سمعت أخبارًا أحزنتها، لكن ذلك لا يجب أن يظهر عليها أبدًا. 

ليس كل “العمل العاطفي” يتطلب إظهار السعادة والحماسة، فمحصل الضرائب مثلًا يتم اختياره وتدريبه على امتلاك نوع من القسوة والحدة ليتمكن من أداء عمله، وليخلق مسافة شعورية مع العميل الذي يُحصِّل منه. وبتعبيبر هوتشيلد، فبينما”تُشجّع مضيفة الطيران على رفع مكانة المسافرين بتقليل مكانتها، إلا أنه يُسمح لمحصِّل الفواتير بأن يُعظِّم نفسه ليكون في موضع سيطرة، ويمارس حريةً ما في التعامل مع الآخرين”.

تقريبًا، تعتمد كل المهن التي يتم فيها التعامل مع الناس على نوع من العمل العاطفي. ينطبق ذلك على المضيفات ومحصلي الضرائب كما ينطبق على المحامي الذي يُطمئن موكليه لمسار قضيتهم، الممرضة التي تطمئن المرضى لحالتهم الصحية وتراعيهم، التاجر الذي يرحّب بزبائنه ليضمن عودتهم إليه، المعلمة التي تعتني بطلابها. كل هذه المهن تتطلب حالة شعورية معينة من الموظف، لكن ما الذي يحدث عندما تكون مشاعر الموظف مختلفة عن المشاعر التي يجب عليه إظهارها؟ مثلًا لو كانت مضيفة الطيران في مزاج عكر بينما تتطلب وظيفتها أن تستمر في إظهار الحماسة والفرح؟

هنا يكون على المرء أن يدير مشاعره كما يديرها في حياته الخاصة، لكن لمصلحة الشركة هذه المرة. فمضيفة الطيران قد تخفي مشاعرها الحقيقة بقناع ابتسامة على وجهها (تمثيل سطحي)، وإما يكون عليها أن تحاول تغيير مشاعرها من الداخل باستدعاء مواقف شبيهة في الحياة الخاصة للفرد لخلق الإحساس المطلوب في العمل، بتذكير نفسها مثلًا بأن الركاب مثل ضيوف شخصيين عندها في المنزل، وإذن عليها ألا تضجر من خدمتهم (تمثيل عميق).

ولأن عاطفة الموظفين في هذه المهن تصبح تحت إدارة الشركات، فغالبًا ما تحتوي كتيبات عمل الشركة وتدريباتها على شرح المطلوب من الموظف. مثلًا ستطلب الشركة من موظف خدمة العملاء الترحيب بالعميل وتهدئته في حالة غضبه والالتزام بإشعار العميل بالتفهم حتى ينتهي من حل مشكلته.

تداعيات العمل العاطفي

العمل العاطفي و”التمثيل” قد يخلق انفصالًا بين الموظف ومشاعره، بل بينه وبين “ذاته الحقيقية”، خصوصًا في حالات “التمثيل السطحي”، حيث يستمر الفرد في إظهار مشاعر معينة بينما يشعر بأخرى. 

تشير بعض الدراسات إلى أن العمل العاطفي قد يسبب مشاعر القلق والتعب بشكل يؤثر في أداء الفرد داخل بيته، فيقل استعداده للمساعدة في أعمال المنزل أو يصاب بالأرق، ويؤثر ذلك أيضًا في أداء الفرد داخل العمل نفسه، ويسبب تصاعدًا في نسبة “تدوير الموظفين” (الاستبدال المستمر للموظفين بآخرين جدد)، ولذلك تُنصح الشركات بدعم موظفيها إذا واجهوا عميلًا مندفعًا وغاضبًا، والسماح لموظفيها بأخذ راحة إذا احتاجوا إلى ذلك، وبتوفير بيئة داعمة لموظفيها، حيث وجدت الدراسات أن دعم الشركات لموظفيها يقلل من الآثار السيئة للعمل العاطفي، ويزيد من جودة أداء العاملين لأن إحساس الموظفين بأن الشركة تدعمهم معنويًّا وماديًّا يقلل من احتمالية تعرضهم للإنهاك العاطفي المرتبط بالعمل، ويُنصح الموظفون أنفسهم باستخدام الدعابة والحديث مع زملائهم في العمل وتقبُّل طبيعة أعمالهم، ما يقلل من إحساسهم بالاغتراب عن مشاعرهم.

العمل العاطفي غير مدفوع الأجر

لكن ليس كل “العمل العاطفي” يحدث في أماكن العمل الرسمية، فهناك مصطلح آخر حديث تم اشتقاقه منه، وهو “العمل العاطفي غير مدفوع الأجر”. مصطلح انتشر بعد مقال للكاتبة “جيما هيرتلي” “النساء لسن متذمرات، فقط فاض بهن الكيل”، وتتحدث فيه الكاتبة عن العمل العاطفي الذي تقوم به النساء في حياتهن الخاصة، وذلك من اعتناء بالبيت، والتخطيط للمناسبات، ودعم أطفالهن والاستماع لهم، بجوار الاستماع لأزواجهن والتخفيف عنهم وإبداء النصيحة لهم في أعمالهم وحياتهم الخاصة، والعمل على إبقاء كل فرد حولهن مرتاحًا وسعيدًا. هذا كله دون أن يحظين بمقابل مادي أو معنوي لهذا الجهد الذي يستهلك جزءًا ضخمًا من طاقتهن النفسية. وهو ما تؤكده إحصائية للأمم المتحدة تقول إن النساء يقمن بأكثر من ضعفي العمل غير المأجور مقارنةً بالرجال، وذلك من “طبخ وتنظيف واعتناء بالأطفال وكبار السن”.

جزء من المشكلة، بحسب النسويات، يأتي لأنه يُنظر للنساء بأنهن “بشكل طبيعي وبيولوجي” أنسب للعمل العاطفي من الرجال، ويرون أنه لا توجد أي أدلة علمية على أن بعض الناس أقدر على إدارة مشاعرهم من الآخرين، وإن كان المجتمع مصممًا على تعزيز الفكرة “الخطأ” هذه، بطرق كثيرة، لتظل النساء مسؤولة عن العواطف، بينما يمنح الرجال الحق في إهمال أي أعمال عاطفية باعتبارها خارج تخصصهم، وأن أصل مشكلة تحمُّل النساء للعبء العاطفي داخل المنزل وفي العلاقات، أن الرجال يتعلمون منذ صغرهم أن يرفضوا مشاعر مثل الحساسية والرقة، ما يتركهم دون أدوات للتعامل مع الغضب والإحباط، بل حتى يُوجه الرجال الظهور دومًا بمظهر صلب وعدم التعبير عن مشاعرهم إلا أمام شريكاتهم، بينما في المقابل، يتم تشجيع النساء منذ طفولتهن على تعزيز مشاعرهن الحميمة والتعامل معها، وإذن يتحملن هن العبء كله.

هذه المشكلة تنسحب حتى على التوقعات من النساء في العمل نفسه، حيث تحكي بعض أساتذة الجامعة من النساء، عن أنه يُتوقع منهن أن يَكُنَّ متاحات عاطفيًّا لطلابهن خارج غرفة المحاضرات أكثر مما يُتوقع من زملائهن الذكور، وبأن يكنَّ أكثر مرحًا داخل المحاضرة، وأكثر تدخلًا في حل مشكلات الطلاب.

ينتقد بعضهم سحب العمل العاطفي إلى الحياة الخاصة، حيث إن الفرد في حياته الخاصة يظل المتحكم في إدارة مشاعره، وإذن هو المسؤول الأساسي عنها. فمجرد حاجة الفرد إلى “إدارة مشاعره” لا يعني أنها تحولت إلى سلعة، وإنما تتحول إلى سلعة عندما تكون منتجًا معروضًا للبيع. 

صحيح قد يجد الفرد في حياته الخاصة أنه مغمور أكثر من اللازم في مشكلات الآخرين، ولكن عليه إذن أن يخبر أصدقاءه بعدم قدرته على تحمل مزيد من مشكلاتهم عاطفيًّا، وليس أن يعد ما يفعله “عملًا عاطفيًّا غير مدفوع الأجر”.

أما في الحياة العملية، فقد وجدت بعض الدراسات أن النساء يملن لاختيار مهن تتمحور حول التعامل مع الناس، بينما يميل الرجال لاختيار مهن تتعامل مع الأشياء، ما يفسر جزئيًّا أن غالبية المهن التي تصنف كعمل عاطفي تكون النساء هي النسبة الأكبر بها. لكن هذا التفسير لا يجيب عن النقد النسوي، وهو أن هذه الاختيارات نفسها نابعة عن التنشئة المجتمعية المختلفة للجنسين، وليس نتيجة لأي “طبيعة” أزلية.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter