أنت تقرأ الآن:

الدينُ والحضارةُ.. هل يُعيقُهًا أَمْ يُساعدُ في بنائِهَا؟

الدينُ والحضارةُ.. هل يُعيقُهًا أَمْ يُساعدُ في بنائِهَا؟

“لا يجبُ علينا أن نلومَ التَّطرُّفَ الدينيَّ، بل أن نلومَ الدينَ نفسَه، لأنَّ التطرُّفَ الدينيَّ ليس شذوذًا بَشِعًا عَنِ القاعدةِ”. هذه الكلماتُ ليسَتْ لي، وإنما لعالمِ الأحياءِ الشهيرِ “ريتشارد دوكنز”، والذي اشتُهِرَ بهجومِه المستمرِّ على الأديانِ، ودفاعِه المستميتِ عَنِ الإلحادِ.

في رأيِ “دوكنز” وغيرِه، فإنَّ الدينَ قوةٌ مضادةٌ للحضارةِ، تدفعُ الإنسانَ نحوَ الجهلِ والظُّلْمَةِ، وتَحُولُ بينَه وبينَ حيازةِ مستقبلِه عن طريقِ المنهجِ العلميِّ والتفكيرِ العقلانيِّ. يشجِّعُ الدينُ البشرَ على الاستسلامِ للخوارقِ والمعجزاتِ، والتلذُّذِ بعدمِ التفكيرِ، وتجنُّبِ التساؤلِ، والاتباعِ الأعمى لمجموعةٍ مِنَ القواعدِ والتقاليدِ التي لا يمكنُ إخضاعُهَا للشكِّ.

برَزَ هذا الرأيُ بقوةٍ بعدَ هَجَمَاتِ الحادي عَشَرَ مِنْ سبتمبرَ ألفينِ وواحدٍ، لكنه تلقَّى دَفْعَةً قويةً في السنينَ الأخيرةِ، بعدَ الاضطراباتِ الهائلةِ التي شَهِدَتْهَا المِنْطَقَةُ العربيةُ، على يدِ التنظيماتِ الإسلاميةِ المتطرِّفَةِ مِنْ أمثالِ تنظيمِ داعشَ والقاعدةِ وغيرها. سمحتْ تلكَ الاضطراباتُ لهذه الأصواتِ بالبروزِ مجددًا على الساحةِ، ودفعَتْ كثيرينَ، حتى مِنْ أبناءِ العالمِ الإسلاميِّ، إلى التساؤلِ عَنِ الدينِ في عَلاقَتِهِ بالحضارةِ.

هلْ الدينُ قوةٌ داعمةٌ للحضارةِ كما كنَّا نظنُّ عادةً قبلَ ذلكَ؟ أم أنه قوةٌ مضادةٌ وهدَّامةٌ للحضارةِ الإنسانيةِ كما قد يعتقِدُ المرءُ بالنظرِ إلى هذه التنظيماتِ المتطرفةِ؟

[علم الاجتماع]

على الرغمِ مِنْ شهرتِه الكبيرةِ، يعبِّرُ رأيُ “دوكنز” في الواقعِ عنْ أقَلِّيَّةٍ صغيرةٍ في المجتمعِ العلميِّ الغربيِّ، فالرأيُ الأكثرُ رواجًا هو أنَّ الدينَ لَعِبَ دورًا محوريًّا في نشأةِ الحضاراتِ الأولى خصوصًا. وقد ظَهَرَ هذا الرأيُ منذ زمنٍ طويلٍ، مَعَ نشأةِ عِلمِ الاجتماعِ في القرنِ التاسعِ عَشَرَ.

أوضحَ المؤرخُ الشهيرُ مثلًا “غوستاف لوبون”، أنَّ أهمَّ المبادئِ التي سارَتْ عليها الأممُ قديمًا، وتستمرُّ في السَّيْرِ عليها إلى اليومِ، هي في الأصلِ مبادئُ دينيةٌ. فمِنْ دونِ هذه المبادئِ لا يُمْكِنٌ مِنَ الأصلِ أن يتمَّ الاجتماعُ الإنسانيُّ اللازمُ لبناءِ الحضارةِ، فالدينُ يقدِّمُ لغةً مشتركةً للشعوبِ، ومجموعةً مِنَ القِيَمِ الأخلاقيةِ يتوافقُ عليها الجميعُ، ويَسْهُلُ مِنْ ثَمَّ التفاهمُ والتواصلُ بينَ البشرِ المختلفينَ، والتواصلُ بينَ البشرِ المختلفينَ له ضرورةٌ حاسمةٌ في بناءِ الحضارةِ، سواءٌ أقديمًا أم حديثًا.

إضافةً إلى حلِّ مشكلةِ التواصلِ، يعملُ الدينُ على زيادةِ التماسكِ الاجتماعيِّ، ما يساعدُ الشعوبَ على الفِعْلِ والتأثيرِ. فعلى سبيلِ المثالِ، لم يَكُنْ ممكنًا للفتوحاتِ الإسلاميةِ أن تَحْدُثَ إذا انتفَتِ العقيدةُ، لِأَنَّهَا كانَتِ المُحَفِّزَ والضامنَ لوَحْدَةِ الشعبِ المسلمِ، كذلكَ لم يكنْ ممكنًا لحركةِ المقاومةِ الهنديةِ أن تنتصرَ على المستعمرِ البريطانيِّ دونَ الالتفافِ حول القِيَمِ الدينيةِ للهندوسيةِ، والتي جعلَتْ للمقاومةِ هدفًا أسمى من المنفعةِ الشخصيةِ المباشرةِ.

استمر هذا الرأيُ مع المؤرخينَ الكبارِ في القرنِ العشرينَ كذلك، فالمؤرخُ البريطانيُّ الكبيرُ “أرنولد توينبي” اعتقَدَ أنَّ العقائدَ الدينيةَ لَعِبَتْ دورًا شديدَ الأهميةِ في مُجْرَيَاتِ التاريخِ، ولهذا مثلًا كانَتِ الديانةُ البوذيةُ سببًا وراءَ قيامِ الحضارةِ الصينيةِ، والديانةُ الهندوسيةُ سببًا لقيامِ الحضارةِ الهنديةِ، والمسيحيةُ سببًا لقيامِ الحضارةِ الأوروبيةِ، وبالطبعِ كانَ الإسلامُ سببًا لقيامِ الحضارةِ الإسلاميةِ.

[الحضارة الإسلامية]

وحين يتعلَّقُ الأمرُ بالحضارةِ الإسلاميةِ خصوصًا، نجدُ أنها لم تكنْ لتقوم دونَ الدينِ قَطّ. لهذا يلحَظُ المفكرُ الجزائريُّ الإسلاميُّ مثلًا “مالك بن نبي” أنَّ الحضارةَ العربيةَ قبلَ الإسلامِ أنتجَتْ أدبًا، ولكنه كانَ أقلَّ بكثيرٍ مِنْ حيثُ الكَمِّيَّةِ والاستمراريةِ، ويتلخَّصُ عادةً بالنسبةِ إلينا اليومَ في عَشْرِ مُعَلَّقَاتٍ، لكن بعدَ قدومِ الإسلامِ، ازدهرَ النشاطُ العلميُّ والأدبيُّ ازدهارًا كبيرًا، فظهرتْ علومٌ لم تَكُنْ معروفةً قبلَ ذلكَ، وتعمَّقَتِ العلومُ والآدابُ التي كانت موجودةً قبلَ الإسلامِ.

ولهذا بَرَعَ المسلمونَ في عددٍ كبيرٍ مِنَ المجالاتِ العلميةِ، وكانَتْ إسهاماتُهم فيها أحجارَ أساسٍ لتطوراتِ هذه العلومِ في ما بعدُ. فابتكرَ “أبو بكرٍ الرازي” مثلًا الخياطةَ الجراحيةَ، ووضع “ابنُ سينا” كتابَ “القانون” الذي جَمَعَ فيه كلَّ معارِفِه الطِّبِّيَّةِ، وظلَّ هذا الكتابُ مرجعًا طبيًّا معتمَدًا طوالَ العصورِ الوسطى في آسيا وأوروبا، حتى بدايةِ العصورِ الحديثةِ ونشأةِ نظرياتِ الطبِّ الجديدةِ مَعَ اكتشافِ “ألكسندر فليمنغ” المضاداتِ الحيويةَ، واكتشافِ “لويس باستور” اللقاحاتِ.

وازدهرَتِ الرياضياتُ كذلكَ في العصورِ الإسلاميةِ مع “الخَوارِزْمِيِّ” و”عُمَرَ الخيَّامِ” و”نُصَيْرِ الدينِ الطُّوسيِّ” و”الكِنْدِيِّ”، وأسَّسَ “جابرٌ بنُ حيانَ” عِلْمَ الكيمياءَ بصورةٍ منفردةٍ تقريبًا، لكن مِنَ الغريبِ أنَّ الوضعَ لم يستمرّْ بهذه الصورةِ إلى اليومِ، وإنما أصبحَ العالمُ الإسلاميُّ ناقلًا للمعرفةِ العلميةِ عَنِ الغربِ، ولم يَعُدْ مبدعًا لها.

فهلْ تحوَّلَ الدينُ مِنْ قوةٍ دافعةٍ للإبداعِ قديمًا إلى قوةٍ مُعيقةٍ له في العصرِ الحديثِ؟

[الحضارة المعاصرة]

ضدَّ ما يعتقدُ “ريتشارد دوكنز” في الاقتباسِ الذي بدأْنَا به، فإن علينا بكلِّ تأكيدٍ أن نلومَ التطرُّفَ الدينيَّ على عمِلِه كقوةٍ مضادةٍ للحضارةِ، حيث إنَّ الفارقَ الوحيدَ حقًّا بينَ العصورِ الإسلاميةِ الأولى والعصورِ الحديثةِ يتمثَّلُ في انفتاحِ الإسلامِ قديمًا وقبولِه التعدديةَ واستيعابِه الإبداعَ والاختلافَ.

هكذا، إن كانتِ الحضارةُ الإسلاميةُ المعاصرةُ لا تبدو بصحةٍ جيدةٍ، فإن هذا لا يمكن أن يكونَ بسببِ الدينِ في ذاتِه، لأنَّ علماءَ الاجتماعِ قد برهنوا كثيرًا على أنَّ الدينَ يلعبُ دورًا أساسيًّا في بناءِ الحضاراتِ، لكن بسببِ أنَّ هذا الدينَ قد فَقَدَ فاعليتَه الحضاريةَ، نتيجةً للتعصُّبِ والاتباعِ الأعمى للمذهبِ ورَفضِ الاجتهادِ والتجديدِ.

يعني هذا أنَّ الحضارةَ الإسلاميةَ قادرةٌ على أنْ تعودَ كما كانَتْ في عصورِها الأولى، بشرطِ أن تعودَ إلى انفتاحِهَا الأولِ في هذه العصورِ. لم يخجَلِ المسلمونَ في العصورِ الوسطى الإسلاميةِ مِنَ الدخولِ في حوارٍ مَعَ الحضاراتِ الأخرى، وفي الاستفادةِ منها، وكانت بلاطاتُ الخلفاءِ تَحْتَشِدُ بالعلماءِ مِنْ دياناتٍ وثقافاتٍ مختلفةٍ يتناقشونَ ويتجادلونَ.

لعلَّ استعادةَ هذه الروحِ تكونُ مقدِّمَةً لكي يلعبُ الدينُ مجددًا الدورَ نفسَه الذي لَعِبَه في بناءِ الحضارةِ الإسلاميةِ سابقًا. ولعلَّنَا بَدَأْنَا بالفعلِ نشهدُ علاماتٍ لعودةِ هذه الروحِ. مثلًا، فقد طالبَتِ المملكةُ العربيةُ السعوديةُ مَعَ الإماراتِ ومصرَ والبحرينِ بجَعْلِ الرابعِ مِنْ فبرايرَ يومًا عالميًّا للأخوَّةِ الإنسانيةِ بينَ المجتمعاتِ والثقافاتِ والأديانِ المختلفةِ.

الاجتهادُ في محاربةِ الفكرِ المتطرِّفِ ودعمُ التنوعِ وقبولُ الآخرِ المختلفِ، قادرٌ على إعادةِ الروحِ الإسلاميةِ إلى سابقِ عهدِهَا، وإعادةِ البناءِ والتأسيسِ الحضاريِّ.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter