المدونة فرنسا وإفريقيا.. استقلال صوري واستعمار اقتصادي Nuqta Doc منذ سنة واحدة بنهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كان يصعب عليك إيجاد مكان على كوكب الأرض لم تضع عليه القوى الاستعمارية الأوروبية علَمها، ولم تضطهد أهله وتسرق موارده، وتفرض عليه ما كنت تسميه عبء الرجل الأبيض بجلب بقية البشر إلى الحضارة، ليعيشوا كمواطنين درجة عاشرة تحت أقدام الأوروبي. لكن الصراع بين الأوروبيين أنفسهم، في أضخم وأسوأ حرب في تاريخ الكوكب، أي الحرب العالمية الثانية، كان كفيلًا بإنهاك الرجل الأوروبي لنفسه ولحضارته ولهيمنته الاستعمارية على العالم، لم تعد كبرى الدول المستعمرة الأوروبية، مثل المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا وغيرها، قادرة على السيطرة على المستعمرات العالمية مثلما كانت من قبل، خصوصًا أن النزعات الوطنية التحررية صارت تنادي في كل تلك الدول مطالبة بالتحرير، من خلال الثورات والحروب الاستقلالية، والأجيال الجديدة حتى في الدول المُستعمِرة ذاتها باتت تنادي بالابتعاد عن الاستعمار غير الشرعي، والقوى العظمى الجديدة، أي أمريكا والاتحاد السوفيتي، تؤيد على المنابر الدولية حقوق الشعوب في تقرير مصيرها بأنفسها. لم يعد في العالم مناخ يسمح باستمرار الاستعمار، وأخذت الدول تتحرر واحدة تلو الأخرى، وتراجعت الجيوش الأوروبية إلى أوطانها. لكن بلدًأ واحدًا رفض التخلي عن مستلباتِه ألا وهي فرنسا. ماضي فرنسا الاستعماري كان من بين الأسوأ في أوروبا، ربما لا ينافسه في الوحشية سوى بلجيكا التي كانت تقتدي بفرنسا لا أكثر. فقد كانت استراتيجية فرنسا في مستعمراتها دومًا (في قارتي أمريكا وفي آسيا وخصوصًا في شتى أنحاء إفريقيا) هي الهيمنة والاستيلاء على أكبر كم ممكن من الموارد الخام، وتصنيعها في فرنسا، وبيعها على شكل منتجات بأضعاف الأسعار وبالإجبار في مستعمراتها، ودون محاولة بناء أنظمة ومؤسسات حكومية أو تطوير في البلاد المُستعمَرة، وتلك الاستراتيجية الوحشية عُرفت باسم Francafrique. وبالتالي عرفت تلك الدول مجازر وسرقات لا تزال تعاني منها حتى الآن. ولنا في ملايين الشهداء في تاريخ الجزائر خير عبرة. لكن في الخمسينيات، حين بدأت الدول المُستعمِرة تتخلى عن مستعمراتها بالتدريج، لم ترضَ فرنسا بالتخلي عن دورها في المستعمرات التي استغلتها مئات السنين، وفي حين تمكنت من الإبقاء على امتلاك 13 مقاطعة في العالم حتى الآن، غالبيتها جزر بعيدة في المحيط الهندي والهادي وأمريكا اللاتينية، يطلق عليها الآن اسم فرنسا عبر البحار أو Overseas France، لم تتمكن فرنسا من الإبقاء على مستعمراتها في إفريقيا، وهي البلاد المسؤولة بشكل رئيس عن ثراء فرنسا التاريخي وحتى الآن. عرفت الإدارة الفرنسية أن هذه البلاد يجب أن تستقل، وكان عليها إيجاد طرق أخرى خبيثة للسيطرة عليها. وكان الفرنك الإفريقي أو “CFA فرانك” هو الحل. والفرنك الإفريقي كان العملة التي أجبرت فرنسا مستعمراتها الفرنسية على استخدامها بدلًا من الفرنك الأصلي عملة فرنسا، وجعلت قيمته في البداية تساوي 1.7 فرنك فرنسي، أي أعلى من قيمة العملة الفرنسية، وذلك ببساطة لضمان أن المنتجات الفرنسية تظل أرخص في الأسواق الإفريقية من منتجات الأخيرة، وتظل المنتجات الإفريقية غالية في سوق التصدير الدولي. لكن هذا ليس كل شيء، فإن كل مقاليد التحكم بعملة الفرنك الإفريقي تقع في أيدي الدولة الفرنسية، ولا سلطة للدول الإفريقية على اقتصادها إلا أقل القليل. في بداية تطبيق اتفاقيات الفرنك الإفريقي كان على كل الدول التي تتعامل به، بحكم الاتفاقيات التي أبرمتها فرنسا مع الحكومات الدمى التي وضعتها على رأس البلدان المستقلة في غرب ووسط إفريقيا، أن تحول %100 من احتياطي النقد الأجنبي الذي تتحصل عليه تلك الدول إلى فرنسا، تلك القيمة انخفضت في 2005 إلى %50 فقط، أي أن تلك الدول لا تستطيع التعامل بأي عملة سوى عملتها المحلية، مقابل ضمان فرنسي بتحويل أي كم من الفرنك الإفريقي إلى الفرنك الفرنسي وبعده اليورو، وهو ضمان نادر ما يتحقق بما يكفي. ففرنسا هي الدولة الوحيدة التي لديها سلطة طباعة الفرنك الإفريقي وتوريده إلى الدول المتعاملة به، ولا توجد دولة في العالم تعترف بتلك العملة، أي أن سكان تلك الدول لا يستطيعون الخروج بعملتهم إلى بنوك أو مكاتب الصرافة في العالم وتحويلها إلى عملات أخرى، فرنسا هي سبيلهم الوحيد لتحويلها إلى يورو. أي مثلًا لو أرادت أي دولة في العالم شراء نفط أو حديد أو أي موارد من مالي مثلًا، أحد الدول المتعاملة بالفرنك الفرنسي، لن تدفع ثمنه بالدولار إلى مالي كما هو متعارف عليه، بل إلى فرنسا، وفرنسا ستحول إلى مالي ما يقابله بالفرنك الإفريقي، وفرنسا طبعًا لو أرادت شراء ذلك النفط، أو شراء يورانيوم من النيجر الذي تعتمد عليه فرنسا في تشغيل مفاعلاتها النووية وإمداد مدنها ومصانعها بالطاقة، لا ترسل الثمن باليورو أو الدولار، بل بالفرنك الإفريقي، وتحتفظ لنفسها بقيمة العملة الأجنبية التي كان يفترض بها دفعها. يوجد الآن 14 بلدًا إفريقيًّا واقع تحت ذلك الاستعمار الاقتصادي الفرنسي المريع هي بنين وبوركينا فاسو والكاميرون وتشاد والكونغو وغينيا الاستوائية والجابون وغينيا بيساو وساحل العاج ومالي والنيجر والسنغال وتوجو وجمهورية إفريقيا الوسطى. حاول عدد من قادة الدول الأربع عشرة عبر السنين الخروج من هيمنة الفرنك الإفريقي القاتل للاقتصاد، لكن هؤلاء كانوا يتعرضون في الغالب للاغتيالات والانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، المدعومة سرًّا من باريس. أبرز هؤلاء كان رئيس توجو “سيلفانوس أوليمبيو”، والذي تم اغتياله في 1963، و”توماس سانكارا” رئيس بوركينا فاسو، والذي تعرض لانقلاب عسكري وقُتل عام 1984 بعد خطابه العلني ضد فرنسا. وتاريخ التدخلات العسكرية للجيش الفرنسي في الداخل الإفريقي للدفاع عن حكومات وزعماء مواليين ضد معارضين، علني ومعروف ويحتاج إلى مجلدات ولن تكفي لسرده. على سبيل المداراة على السياسة الاستعمارية، تنقسم تلك العملة إلى نسختين، لبلاد وسط إفريقيا ولها بنك مركزي خاص في الكاميرون، وأخرى لدول الغرب ولها بنك مركزي خاص في السنغال، لكن يظل التحكم الكامل لفرنسا التي لها الحق في الفيتو على قرارات البنكين المركزيين، ولها موظفين فرنسيين يعملون فيهما لضمان إبقاء الوضع على ما هو عليه. قرابة ثلاثة أرباع القرن من الاستقلال الصوري مرّ على تلك البلاد دون نتيجة تذكر، انتهى استعمار الدبابات ليثبت أن استعمار البنوك لا يقل سوءًا، بل ربما أسوأ. هل يحمل المستقبل أي انفراج لتلك البلاد وغيرها من الأمم الإفريقية النازحة تحت النفوذ والفساد الغربي؟ هذا ما ستكشفه لنا السنوات. شارك هذا المقال أضف تعليقك إلغاءلن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *التعليقاسمك * E-mail * Web Site احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.