أنت تقرأ الآن:

أنتاركتيكا.. هل تشهد القارة القطبية صراعًا سياسيًّا؟

أنتاركتيكا.. هل تشهد القارة القطبية صراعًا سياسيًّا؟

قد تكون القارة الوحيدة التي لم يضربها الوباء، لكن هذا لا يعني أنها كانت محصّنة ضد توابعه.

فمع تفشّي “كوفيد 19” وما تعاقب بعده من أزمات اقتصادية وعسكرية، تبدلت موازين القوى في “أنتاركتيكا”، وأُجبرت حكومات على تعطيل برامجها البحثية في قارة القطب الجنوبي، في حين استغلت حكومات أخرى الوضع لتثبيت وجودها في القارة التي لا يزيد عدد سكانها على 5000 آلاف في الصيف و1000 في الشتاء، غالبيتهم من العمّال والباحثين. 

تأوي قارة “أنتاركتيكا” مستعمرتين مدنيتين هما “قاعدة إسبيرانزا” التي تديرها الأرجنتين، حيث وُلد الأرجنتيني “إميليو ماركوس بالما” في 7 يناير 1978، وهو أول شخص يوثّق مولده في القارة القطبية الجنوبية، و”فيلا لاس إستريلا” التي تديرها شيلي، إضافةً إلى 70 قاعدة علمية وعسكرية.

لكن.. هل يرتفع هذا العدد قريبًا؟

مع التغيّر المناخي يمكننا أن نتوقع ذوبان كتل جليدية كبيرة في “أنتاركتيكا”، وخصوصًا بالجزء الغربي. فمن دون الثلج ستبدو القارة القطبية الجنوبية شبه جزيرة عملاقة وأرخبيلًا من الجزر الجبلية معروفًا باسم “القارة القطبية الصغرى”، وكتلة كبيرة بحجم أستراليا معروفة باسم “القارة الكبرى”، و”أنتاركتيكا” هي خامس أكبر قارة في العالم.

يتوقع بعض الخبراء أن يذيب الاحتباس الحراري أجزاءً كبيرة من القارة القطبية لتتشابه ظروفها البيئية مع “ألاسكا” و”الدول الإسكندنافية”. وبالرغم من أنه لا يوجد بها سكان أصليون، ولا أنظمة حاكمة، فإن هناك دولًا تطالب بأجزاء مختلفة منها، كنيوزيلندا وأستراليا وفرنسا والنرويج والمملكة المتحدة وتشيلي والأرجنتين، وهناك دول أخرى تسعى لتثبيت وجودها في الموقع الاستراتيجي الفريد، كروسيا والصين والولايات المتحدة.

حتى مطلع عام 2021 ظلت أستراليا أحد أكبر اللاعبين في القارة القطبية الجنوبية، حيث خصصت ما يقرب من 190 مليون دولار لبرامجها البحثية في 2020-2021. تليها هيئة المسح البريطانية لأنتاركتيكا، وكذلك برنامج الولايات المتحدة لأنتاركتيكا الذي خصص حوالي 488 مليون دولار في 2019-2020 للمناطق القطبية.

لكن الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة أدت إلى تخفيضات في ميزانيات البحث، ما يترك الباب مفتوحًا لمنافسة بقية القوى العظمى التي تتوسم خيرًا في إمكانات حقول النفط في الأحواض الرسوبية البحرية، وإذا انسحبت الدول الغربية من النشاط حافظ الروس والصينيون عليها، وهم يريدون الوصول إلى صيد الأسماك واحتياطيات النفط والتعدين. 

قوبل البحث العلمي الروسي والصيني في “أنتاركتيكا” بأنه ستار للمطالبة بمزيد من الوجود على القارة. والآن، وبعد أزمة “كوفيد 19” والاضطراب الاقتصادي، يمكن للبلدين أن يوسّعا نطاق وجودهما على أرض “أنتاركتيكا” بشكل أكبر، والحفاظ على أنشطتهما الاستكشافية هناك، خصوصًا إذا بدأت دول “أنتاركتيكا” التقليدية في تقليص أنشطتها في القارة.

تتصارع الولايات المتحدة بالفعل مع روسيا والصين في القطب الشمالي منذ عقود، ويرى بعض الخبراء أن المنافسة في القطب الجنوبي ستشبه قريبًا التنافس بين الولايات المتحدة والصين وروسيا في القطب الشمالي، ما يثير قلقًا أمريكيًّا عن أسباب نزول مزيد من كاسحات الجليد القطبية لهذه الدول، والتي تساعد القوارب على الإبحار عبر المياه ليبدو الأمر بصمة عسكرية متوسعة للصين وروسيا في القارة القطبية الجنوبية، إذ تمتلك روسيا حاليًّا كاسحات جليد أكثر من الولايات المتحدة، وتقوم الصين أيضًا ببناء مزيد منها.

نظريًّا تخضع “أنتاركتيكا” لمعاهدة عالمية تم توقيعها عام 1959، وذلك للحفاظ على القارة وحمايتها من أجل البحث العلمي، وضمانًا  ضد الانتشار النووي، ولكن من الناحية العملية، ومع عدم وجود حكومة حاكمة فنية أو مستعمرات بشرية دائمة بخلاف العلماء وموظفي الدعم، تبقى السيادة على القارة أمرًا غامضًا.

يمثّل الشطر الأسترالي من القطب الجنوبي %42 من أراضي القارة الأسترالية، وهو ادعاء لا يقبله سوى عدد قليل من الدول، ولهذا يشير بعضهم إلى أهمية تسمية الأماكن ورسم الحدود في مكان لا تنطبق فيه المعايير العادية للملكية.

الصين التي انضمت إلى “معاهدة أنتاركتيكا” عام 1983، كانت تثير مخاوف الدول في القارة القطبية باعتبارها حديثة العهد نسبيًّا بالاتفاقية، حيث استثمرت بكين بشكل كبير في البحث والتطوير في القارة، ما جعلها تتفوق على الأعضاء الأصليين مثل الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا. وقد شيّدت أربع محطات في “أنتاركتيكا” في غضون 30 عامًا، ولديها محطة خامسة بالقرب من بحر “روس” ستصبح قابلة للتشغيل هذا العام. 

وعلى الرغم من أن أستراليا تستفيد بشكل كبير من الاستثمار الصيني في برنامجها العلمي الخاص بالقطب الجنوبي، فإنها أصبحت تشكّك في نواياها، لأن اهتمام الصين بالقارة القطبية الجنوبية قد لا يقتصر على الأهداف البحثية فقط، بل ربما يكون من أجل الموارد والمزايا العسكرية.

قبل أيام من إبلاغ بعض البلدان عن خفض وتأجيل بعض أنشطتها في القطب الجنوبي، أوصت الصين بسرعة استكمال بناء أكبر قارب لصيد “الكريل” في القطب الجنوبي بحلول عام 2023، وهي قشريات صغيرة ذات أهمية قصوى في النظام الغذائي، ولها قيمة اقتصادية عالية، حيث يُستخدم في الصين كزيتٍ وعلف، ووصلت قيمة صيد “الكريل” في البلاد عام 2014 إلى 10 ملايين دولار، ومن المتوقع أن تبلغ قيمة سوق “زيت الكريل” أكثر من 400 مليون دولار بحلول عام 2025، وقد شهد انخفاضًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة بأنتاركتيكا، ما يشكّل تهديدًا خطيرًا للنظام البيئي فيها. 

وبينما يدور الجدل حاليًّا حول “الكريل” والأسماك، إلا أنها مقدّمة للمناقشات المتعلقة بالتعدين (الذي تحظره حاليًّا معاهدة أنتاركتيكا)، لكنّ المعاهدة من المفترض أن تتم مراجعتها عام 2048، وحينها يمكن أن تقدّم فرصة لتعديل الحظر المفروض على استخراج الموارد، بما في ذلك التعدين والتنقيب عن النفط، وهو الحظر الذي تسعى أكثر من دولة لتخفيفه حاليًّا. 

يُذكر أن الصين كانت دائمًا منفتحة بشأن اهتمامها بصيد الأسماك كجزء من أهداف البلاد طويلة المدى، بل وصفت الصين “أنتاركتيكا” بأنها جزء من حدودها الاستراتيجية الجديدة، ويعتقد بعضهم أن هدفها طويل الأجل هو تغيير نظام الطاقة الحالي داخل نظام المعاهدة، ما سيسمح للصين بتوسيع مشاريع البحث التي أوقفها أعضاء آخرون في المعاهدة.

فكيف يمكننا بناء نظام مرن يسمح للبلدان بالالتقاء في القارة القطبية الجنوبية؟

تظل روسيا نشطة في “أنتاركتيكا” على الرغم من فيروس كورونا والأزمة العالمية. وأفادت شركة “المساحة الجيولوجية الروسية” (Rose Geologia) أنها بدأت بالفعل أول مسح زلزالي في المنطقة منذ أكثر من 20 عامًا، وقالت إن الغرض من المسح هو استخدام تقنية جديدة لقياس إمكانات النفط والغاز البحريّين.

وأعربت روسيا عن استيائها بشأن عملية الموافقة المعقّدة لإعادة البحث عن المشاريع، بما في ذلك “التفاوتات في الإجراءات الوطنية المنظمة للأنشطة المسموح بها”. وفي أوائل فبراير أكد وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” نشاط روسيا في “أنتاركتيكا”، وأنه  لا يمكن لدولة واحدة أن تطالب بمفردها بالقارة.

وبعد يوم من إعلان أستراليا عن تأخيرات متعلقة بفيروس كورونا لعملها في القطب الجنوبي، وصلت إحدى سفن الأبحاث التابعة للبحرية الروسية “الأدميرال فلاديميرسكي”، إلى القارة لتحديد موقع النقطة الحالية للقطب المغناطيسي الجنوبي، بدعوى دراسة المجال المغناطيسي للأرض، لكن يبدو أن للمهمة أسبابًا أخرى أيضًا، حيث اتبعت السفينة مسار رحلة الإبحار الروسية عام 1819 للاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لاكتشاف روسيا “أنتاركتيكا”، بالرغم من أن نقطة مكتشف القارة القطبية الجنوبية للمرة الأولى ما زال موضع خلاف، إذ أعلنت عدة بعثات عالمية أنها اكتشفت القارة القطبية الجنوبية للمرة الأولى.

يُذكر أنه في عام 2007 وضع الروس علَمهم في القطب الشمالي، للمطالبة رمزيًّا بالوصول إلى الموارد المحتملة في قاع المحيط المتنازع على ملكيته.

أنفقت روسيا مليارات الدولارات لبناء قواعد عسكرية جديدة في القطب الشمالي وتحديث القواعد الحالية، مع السماح أيضًا للصين بالتنقيب عن النفط قبالة سواحلها. وفي تقرير الجيش الأمريكي لعام 2019 إلى “الكونغرس”، حذّر “البنتاغون” من تعزيز وجود الصين في القطب الشمالي، ونشرت الدول الغربية سفنًا لمراقبة النشاط الروسي. 

ما يحدث في “أنتاركتيكا” أشبه بما ظل يحدث في القطب الشمالي من قبل، حيث ظلت الدول تتنافس على المطالبة الإقليمية في القطب الشمالي لقرون تعزيزًا لطرق التجارة، وفي الآونة الأخيرة تنافست على الموارد الاستراتيجية في المنطقة، إضافةً إلى توسيع أنظمة الرادار والدفاع الصاروخي. ولكن نظرًا لعدم وجود معاهدة مركزية واحدة تحافظ على التعاون بين الدول، أو تضع قواعد صارمة بشأن استغلال المعادن، تمت عسكرة المنطقة على نحو أكبر.

فهل تشهد القارة القطبية الجنوبية التوتر ذاته؟ أم يكون هذا بداية صراع البشر للانتقال إلى “أنتاركتيكا” مع استمرار الاحتباس الحراري وذوبان الثلج؟

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter