سياسة القوة الناعمة.. هل تهدر السعودية المال بالإنفاق على الثقافة؟ Nuqta Doc منذ سنة واحدة تحقق المملكة العربية السعودية تقدمًا كبيرًا في مجالات متعددة منذ الإعلان عن خطة 2030، فهي الآن على طريقها للانتقال بحجم الاقتصاد من المركز 19 عالميًّا إلى المركز 15، ورفع نسبة المحتوى المحلي في قطاع النفط والغاز من %40 إلى %75، ورفع قيمة أصول صندوق الاستثمارات العامة من 600 مليار إلى ما يزيد على 7 تريليونات ريال، وزيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية من 163 مليار إلى تريليون ريال، والوصول من المرتبة 80 إلى 20 في مؤشر فاعلية الحكومة، وغير ذلك الكثير. الكثير من هذه التحولات يعني زيادة مباشرة في القوة الاقتصادية، ومن ثم في الثقل السياسي للمملكة في المنطقة والعالم، لكن تحولًا أكثر جذرية يحدث أيضًا في هذه الأثناء، حيث تنفق السعودية مبالغ طائلة على تطوير مجالات ثقافية، قد لا يكون لها عائد مادي مباشر، مثل الاستثمار في الرياضة، أو في الفن والسينما، أو في الأدب والفلكلور ومختلف مجالات الثقافة، إضافة طبعًا إلى مجال السياحة والآثار، الذي يحمل عائدًا اقتصاديًّا، لكنه يقدم كذلك مردودًا ثقافيًّا وروحيًّا. ما الداعي إلى هذه الاستثمارات التي قد تبدو غير مفيدة إذا كانت الدولة قادرة على زيادة حجم اقتصادها وتوجيه الاستثمار بصورة أفضل نحو مجالات إنتاجية، مثل الصناعة والإنشاءات والتصدير. الإجابة يقدمها لنا عالم السياسة الأمريكي “جوزف ناي”، والذي صكّ للمرة الأولى في تسعينيات القرن الماضي مصطلح “القوة الناعمة”، لكي يشير إلى التحول في السياسة الأمريكية من منهج يعتمد على القهر والإخضاع العكسريّ، إلى منهج يعتمد على تقديم النموذج والمثال الذي تعجب به الدول الأخرى، وتود احتذاءَه. يقول “ناي”: “إن القوة الناعمة هي القدرة على الجذب، لا عن طريق الإرغام والقهر والتهديد العسكري والضغط الاقتصادي، ولا عن طريق دفع الرشاوى وتقديم الأموال لشراء التأييد والموالاة، كما كان يجري في الاستراتيجيات التقليدية الأميركية، بل عن طريق الجاذبية، وجعل الآخرين يريدون ما تريد”. هذا هو ما يحدث عندما تسعى الولايات المتحدة إلى نشر ثقافتها عن طريق السينما والتليفزيون إلى مختلف أنحاء العالم، وهو ما يحدث كذلك مؤخرًا مع النموذج الصيني، والذي أصبح واسع التأثير في آسيا، بسبب حضوره القوي ثقافيًّا. بل إن هذا الحضور الصيني يمتد الآن إلى الشرق الأوسط، عن طريق القنوات المخصصة للتواصل مع الشعوب العربية، وعن طريق ترجمة الكتب من اللغة الصينية، وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي الصينية الناطقة بالعربية، والتي أصبحت تنتشر اليوم انتشارًا كبيرًا على الإنترنت. هذا التأثير كذلك يحدث عن طريق جميع الابتكارات غير المادية، مثل البرمجيات مثلًا، وأشهر الأمثلة عليها تطبيق تيك توك الذي استخدمته الصين لغزو العالم كله. لكن القوة الناعمة ليست حكرًا على الولايات المتحدة والصين. في الواقع، تلجأ هذه الدول إلى مزيج من القوة الصلبة والناعمة، فالاثنان يلجآن إلى القوة في أحيان كثيرة. بل إن عدد التدخلات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في مختلف دول العالم منذ التسعينيات، عندما “تحولت للقوة الناعمة” بحسب ناي، هو في واقع الأمر أكثر من عدد من تدخلاتها العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية إلى التسعينيات. اليوم، تحاول الدول العربية كذلك توظيف القوة الناعمة واستخدامها في تحقيق التأثير والنفوذ، وربما لا نجد مثالًا أبرز من المملكة العربية السعودية على نجاح هذا التوظيف. جاءت السعودية في المركز 24 من بين دول العالم على مؤشر القوة الناعمة في عام 2022، وارتفعت في المرتبة هذا العام لتصبح في المركز 19. جاء هذا التقدم الكبير بسبب تمكن المملكة من تحقيق التفوق على عدد كبير من المؤشرات التي تُقاس القوة الناعمة وفقها، وهي: العلاقات العالمية، والألفة والشهرة، والسمعة، والتأثير، والتجارة والأعمال، والحوكمة، والتراث والثقافة، والإعلام والاتصال، والناس والقيم، والاستدامة، والتعليم والعلوم. تقوية العلاقات العالمية وتحقيق الألفة والشهرة مع السمعة والتأثير، كل هذا لا يكون إلا عبر الحضور الثقافي القوي والملهم. فعن طريق استقدام أكبر لاعبي كرة القدم العالميين إلى السعودية، تلتفت الأنظار تلقائيًّا إلى ملاعب كرة القدم في المملكة، وعن طريق استضافة سباقات السيارات، تتجه أنظار عشاق اللعبة أيضًا نحو المملكة. يؤدي هذا الحضور الدائم أمام عيون العالم إلى مزيد من الاحترام والإعجاب بصورة طبيعية، لأن الناس ترى في المملكة مجالًا هائلًا للثقافة والترفيه. لهذا السبب أصبحت المملكة وجهة سياحية أكثر جاذبية بكثير من ذي قبل، وعزز هذا أن وزارة السياحة عملت بالتوازي على الترويج للسياحة في المملكة، باستثمار مواردها الطبيعية الشاسعة، وتراثها الثقافي والحضاري والديني الكبير، إضافةً إلى مختلف الأنشطة الترفيهية التي قد تجذب السياح. كل هذه العناصر الجاذبة تحول المملكة العربية السعودية إلى موضع لإعجاب العالم، كما هو الأمر مثلًا بالنسبة إلى عشاق الثقافة اليابانية أو الفرنسية، فكل هذه مظاهر مختلفة للقوة الناعمة. لا يعد الإنفاق على هذه المجالات إذن نوعًا من إهدار الأموال بلا طائل، بل على العكس تمامًا، يتكامل هذا الموقف بصورة ممتازة مع النمو الاقتصادي والسياسي، فلا يمكن أن يتحقق هذا النمو اليوم من دون حضور ثقافي مؤثر، يحول الدولة إلى نموذج يجذب الدول المجاورة والبعيدة، التي تنظر إليه ساعيةً إلى تقليده والاقتداء به. منذ 2016 حتى اليوم، أصبحت السعودية توظف هذا المفهوم بصورة غير مسبوقة في تاريخها، ويبدو أنها بالتقدم الذي حققته على مؤشرات القوة الناعمة، أصبحت تجني ثماره. شارك هذا المقال أضف تعليقك إلغاءلن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *التعليقاسمك * E-mail * Web Site احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.