سياسة انسحاب آمن.. لماذا تريد إيطاليا الانسحاب من مبادرة الحزام والطريق الصينية؟ Nuqta Doc منذ سنة واحدة في عام 2019، سارعت إيطاليا إلى الانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق التي تتبناها الصين رغبة في زيادة صادراتها إلى الصين، وكان هدف الصين هو تسريع وصول البضائع الصينية إلى الأسواق الأوروبية عن طريق تمويل مشاريع البنية التحتية الكبرى، ومن ثَم إعادة بناء طريق الحرير التجاري القديم. اعتبرت إيطاليا المبادرة مربحة للطرفين، لم تلتفت إلى انتقاد حلفائها في الغرب، حيث لمّحت الدول الأوروبية والولايات المتحدة حينذاك أن المبادرة الصينية ما هي إلا محاولة من الصين لبسط نفوذها داخل أوروبا، وزرع الانقسامات بين الدول الغربية. بعد ما يقرب من أربعة سنوات، وتحديدًا في نهاية شهر يوليو من العام الحالي، وصف وزير الدفاع الإيطالي، جويدو كروزيتو، انضمام بلاده إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية بأنه قرار “متهور وشنيع”، حيث إن إيطاليا لم تنجح في تحقيق هدفها في تعزيز اقتصادها إذ زادت إجمالي صادراتها إلى الصين من 14.5 مليار يورو إلى 18.5 مليار يورو، في مقابل تحقيق الصين ارتفاعًا غير مسبوق في إجمالي صادراتها إلى إيطاليا، حيث نمت هذه الصادرات من 33.5 مليار يورو إلى 50.9 مليار يورو، كذلك انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في إيطاليا من 650 مليون دولار في عام 2019 إلى 33 مليون دولار فقط في عام 2021، إضافةً إلى أن انضمام إيطاليا إلى مبادرة الحزام والطريق لا يمنحها بالضرورة وضعًا خاصًّا أو يضمن لها قدرًا أكبر من التجارة والاستثمار مع الصين مقارنةً بما قد يُبرم من اتفاقات تجارية في غياب مبادرة الحزام والطريق، ما يجعل الصين الرابح الوحيد في هذه الصفقة. يمكن فهم توقيت هذا التصريح في إطار مساعي رئيسة وزراء إيطاليا، جورجا ملوني، التي صرحت في شهر مايو الماضي أنها تحاول الدخول في محادثات مكثفة مع الصين حول الانسحاب الآمن، أي دون الإضرار بالعلاقات مع الصين التي ما زالت تعتبرها “شريكًا”، وأن الانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق كان “خطأ كبيرًا”. يخالف هذا التصريح ما يكرره المسؤولون الصينيون في وزارة الخارجية الصينية في أن كلا البلدين يشهدان “نتائج مثمرة” نتيجة للتعاون المشترك في إطار هذه المبادرة، لكن تصريحات الحكومة الإيطالية غير الراضية عن المبادرة دفعت الجانب الصيني في دعوتها إلى مواصلة البحث عن إمكانات التعاون وتعزيز تبادل المنفعة. بهدف الضغط على المسؤولين الإيطاليين ومحاولة إقناعهم بتجديد الاتفاق، نشطت الصين دبلوماسيًّا وأرسلت كبار المسؤولين إلى إيطاليا، حيث إنه من المفترض أن يتجدد تلقائيًّا في مارس العام القادم، إن لم تنسحب إيطاليا في موعد أقصاه ديسمبر من العام الحالي. السؤال هنا: ما الذي أغرى إيطاليا لترتمي في أحضان الصين؟ كانت إيطاليا حينذاك تعاني من فترات ركود متوالية خلال عقد واحد، وكان الحل جذب الاستثمار وزيادة صادراتها إلى سوق الصين الضخم، مع الشعور العميق أن الدول الأوروبية الحليفة قد تخلت عنها في ظل وصول اليمينيّين المشككين في الاتحاد الأوروبي إلى رأس السلطة، ورأت الحكومة أن تستغل ثقلها السياسي للتوقيع على الاتفاقية قبل الآخرين للاستفادة بأكبر قدر من الاستثمارات الصينية، إضافةً إلى العلاقات الوطيدة بين البلدين، حيث إن إيطاليا هي موطن أكبر عدد من الصينيين داخل أوروبا، كما أن لديها علاقات تجارية متبادلة في مجالات عدة مثل صناعة الأقمشة وصناعة الجلود. وتعتبر إيطاليا هي العضو الأول والوحيد من مجموعة الدول الصناعية السبع الذي يخطو هذه الخطوة، لكنها ليست الدولة الأوروبية أو الغربية الوحيدة التي تربطها علاقات اقتصادية قوية مع الصين. ربما بعد عجزها عن تحقيق آمالها الاقتصادية، أدركت إيطاليا أنه لا بد أن تعود إلى أحضان حلفائها في الغرب الذين يعتبرون ما تفعله الصين في إطار هذه المبادرة تحدِّيًا ولا يمكن اعتبارها شريكًا، بل منافسًا شرسًا. أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أن “الحزب الشيوعي الصيني يتبع استراتيجية واضحة لتغيير النظام العالمي لتصبح الصين مركزًا له، وأن المبادرة هو دليل قاطع”. أو ربما كان دعم الصين لروسيا في حربها في أوكرانيا قد دفع إيطاليا إلى التخلص من أوهامها حول قوة “شراكتها” مع الصين. أو ربما التقارب الوثيق بين الصين ودول وسط وشرق أوروبا من خلال ما أُطلِق عليه “آلية 17+1” قد أيقظ الإيطاليين من أحلامهم، أو ربما اجتمعت كل هذه الأسباب كي تُسرّع من الهروب من براثن الصين. أعلنت رئيسة وزراء إيطاليا، جورجا ملوني، أن ليس لدى بلادها أو أي دولة أوروبية أي رغبة سياسية لصالح التوسع الصيني الذي يصب فقط في تغيير وضعها الجيوسياسي العالمي إلى مكانة بارزة، وأنها تُثمّن الأهمية الحيوية لأوكرانيا، الأمر الذي يتنافى مع الموقف الصيني، وتؤكد أهمية الحفاظ على السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان الذي قد يثير حفيظة الحزب الشيوعي الصيني. الانسحاب الإيطالي المُحتمل ضربة قاسمة لمبادرة الحزام والطريق، حيث يمكن توقع نتائجه في تردد الدول الأوروبية فيما بعد بشأن الاعتماد الاقتصادي على الصين، ومن غير المحتمل أن يفكر أي اقتصاد عالمي قوي في الانضمام قريبًا إلى المبادرة، حيث سيصبح الدرس الإيطالي حاضرًا في الأذهان، وأن الحل الأسلم هو تجنب “المخاطر”. ولا يمكن حصر المخاطر فقط على المستوى الاقتصادي، حيث إن المخاطر الجيوسياسية لا يمكن التغاضي عنها خصوصًا أن الصين قد دعت الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى حضور منتدى مبادرة الحزام والطريق الذي سيتم عقده في الصين خلال شهر أكتوبر القادم. ولا يمكن تخيل جلوس روسيا وإيطاليا على مائدة مفاوضات واحدة. شارك هذا المقال أضف تعليقك إلغاءلن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *التعليقاسمك * E-mail * Web Site احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.