أنت تقرأ الآن:

بوتين.. القيصر وأضغاث الإمبراطورية الجديدة

بوتين.. القيصر وأضغاث الإمبراطورية الجديدة

شهدت السنوات التي تلت تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، استحواذ تحالف مكون من الموظفين الكبار في جهاز الدولة والمافيا التجارية، على نسبة هائلة من الأصول المادية للصناعة السوفييتية، حيث تم اختلاس هذه الأصول وبيعها بأسعار أقل من قيمتها في مناقصات مشبوهة، أو بالإسناد المباشر ضمن توجه الدولة الروسية الجديدة لخصخصة القطاع العام.  

العملية التي جعلت العديد من الموظفين الكبار ورجال العصابات أثرياء خلال سنوات قليلة، وتسببت في خسائر مالية فادحة شملت غالبية القطاعات الهامة، نتيجة سوء الإدارة وتفكيك نسبة كبيرة من تلك الأصول بواسطة مالكيها الجدد وبيعها (بالجملة تقريبًا) كخردة، إضافةً إلى تلاعب البنوك بأسعار الفائدة على القروض الممنوحة للدولة، والتوسع في منح القروض على أساس الرشوة والصلات الشخصية بالمسؤولين الكبار، وسيطرة الرشوة والعنف المباشر بوصفهما الوسائل الأساسية لدى الموظفين والمافيا لإبرام الصفقات والمعاملات المالية، ما تسبّب في أزمة مالية كبيرة نتيجة انهيار العملة (بلغ التضخم 80%)، وتحت ثقل الدين العام الذي أعلنت الدولة عجزها عن سداده، وإفلاس البنوك بعدما شَفطها هؤلاء مُهرّبين رؤوس أموالهم إلى الخارج.

عقب توليه السلطة عام 2000، نجح فلاديمير بوتين في تحقيق بعض الاستقرار الاقتصادي، مستفيدًا من ارتفاع الطلب على النفط مع بداية القرن الجديد، وعبر اتخاذ بعض الإجراءات الاقتصادية، أبرزها استعادة ملكية الدولة لقطاع الطاقة (أهمها شركة Gazprom)

لم يختف الفساد في عهد بوتين، بل ازداد شراسةً، وصارت دائرة الفاسدين أكثر تخصصًا وأشد ارتباطًا بحزب روسيا الموحدة الحاكم. لكن خلال سنوات حكمه الأولى التي شهدت ارتفاع الطلب العالمي على النفط واستعادة الاستثمارات الأجنبية، والعودة القوية إلى سوق السلاح العالمية، زادت معدلات النمو، بينما استمرت الأسعار في الازدياد مقابل انخفاض الرواتب. 

مع ذلك استقر الوضع السياسي الداخلي نتيجة انشغال الجمهور الروسي بحرب الشيشان التي استأنفها بوتين، ووقوع الجمهور تحت تأثير الوعود الكبرى لضابط المخابرات السابق، والتي بدأت بالتقرّب من أوروبا والولايات المتحدة، إذ دعا بوتين بحماس إلى انضمام روسيا للناتو، ثم أصدر أوامره عام 2001 بتقديم الدعم للقوات الأمريكية في أفغانستان، سعيًا لتحالف غايته بناء “أوروبا الكبرى” التي تمتد من لشبونة إلى فلاديفوستوك في أقصى الشرق الروسي على حد تعبيره، وشجع بشدة الاستثمارات المتبادلة لخلق قاعدة اقتصادية مشتركة.

 سعى بوتين منذ توليه الحكم لخلق مجال حيوي خارجي، يساهم في تسكين مشكلات روسيا الداخلية مثل الفساد والتضخم والبطالة التي بلغت 8.98% في ذلك الحين، وذلك عبر تحفيز الاستثمارات الأجنبية والصفقات التجارية  في قطاعات الطاقة والسلاح والبنية التحتية وتكنولوجيا الفضاء، وقد تساءل في بيان “الألفية” الذي كَتبه عام 1999 لدى توليه السلطة: “ما هو المكان الذي يمكن أن تحتله روسيا في المجتمع الدولي في القرن الحادي والعشرين؟”

 في البداية كانت إجابة بوتين على نفسه هي بناء تحالف اقتصادي مع الغرب، يُسّهل استقطاب الاستثمارات والسياحة الغربية، ويُمكّن الأوليغارشية الروسية (طبقة رجال الأعمال الاحتكارية) التي يرعاها من توسيع دائرة النهب في الوقت الذي يُوفّر فيه فرص عمل جديدة ترفع من أسهمه الشعبية.

إلا أن الولايات المُتحدة لم تكن مستعدة بأي حال لقبول روسيا في الحلف الغربي دون اعتراف من جانبها بقيادة الولايات المتحدة لهذا الحلف، هذه القيادة التي كان من شأنها الإضرار بمصالح روسيا في أوروبا الشرقية (خصوصًا أوكرانيا) التي طالما اعتبرتها روسيا بمثابة حديقة خلفية لها.

وقد ظهر هذا بجلاء في 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية ردًّا على احتجاجات واسعة شهدتها أوكرانيا ضد الحكومة الموالية للروس، عقب تراجعها عن اتفاق للشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وهو الاتفاق الذي اعتبرته روسيا تهديدًا لمصالحها الاقتصادية المباشرة، حيث تمر خطوط الغاز الروسي المُصدَّر إلى أوروبا بأوكرانيا، وتعد الشركات الروسية من أكبر المستثمرين في أوكرانيا بإجمالي 7%  من الاستثمار الأجنبي، إضافةً إلى أن روسيا أكبر مُصدّر للسلع إلى أوكرانيا. وبحسب مركز سياسات الهجرة التابع للاتحاد الأوروبي، فإن “الحدود الروسية الأوكرانية هي ثاني أكبر ممر للهجرة في العالم”. ففي عام 2011 على سبيل المثال، توجه ما يزيد على ثلث المهاجرين الأوكرانيين إلى روسيا.

هكذا، أدرك بوتين أن بناء مجال حيوي (شبه امبراطوري) لروسيا غير ممكن سوى بالتوجه شرقًا، فشهدت سياسته الخارجية انعطافًا آسيويًّا متزايدًا (ضاعفته العقوبات الغربية المفروضة منذ أزمة أوكرانيا) باتجاه: الصين، ودول الجنوب الآسيوي (مجموعة ASEAN). عبّر عنها تأسيس الاتحاد الجمركي الأوراسي عام 2010، ثم الاتحاد الاقتصادي الأوراسي عام 2015.

مثّلت الصين مصدرًا أساسيًّا لرؤوس الأموال العاملة في روسيا. على سبيل المثال، فإن شركة البترول الوطنية الصينية المملوكة للدولة CNPC، وهي أكبر شركة صينية في مجال الطاقة، تمتلك حصة %20 من أسهم Yamal LNG الروسية، والتي تُدير مصنعًا روسيًّا للغاز المُسال وحقل “Yuzhno” الروسي للغاز الطبيعي. وأصبحت الصين من أكبر مُورِّدي التقنيات المتقدمة إلى روسيا، خصوصًا في ظل العقوبات الغربية المفروضة على الأخيرة، وبحلول 2018 ارتفعت التجارة المتبادلة بين الدولتين في المنتجات الميكانيكية والكهربائية والزراعية والتكنولوجية الفائقة بنسبة 15% و31% و29% على التوالي، وفي المقابل تُعد روسيا ثاني أكبر مورد للنفط إلى الصين، وهي تمد الأخيرة بالخبرة المطلوبة لبرنامجها الفضائي الذي بدأته عام 2003، وهي شريك أساسي في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وهي شبكة من الطرق البرية والبحرية  العابرة للحدود ومشروعات البنية التحتية في البلاد، والتي تمر عبرها هذه الشبكة، وتسعى الصين من خلالها لإحكام سيطرتها على التجارة العالمية.  

يبدو أن بوتين يؤمن بأفضلية النموذج الصيني في التنمية، أي نموذج: الحكومة المركزية القوية التي تتحكم في الإعلام والصحافة، وتقمع المعارضين، وتقدر على تنفيذ خطط تنموية طويلة الأمد، دون أن يعيقها تغيير الحكومات. وقد عبّر في بيانه سابق الذكر عن أن “غياب الوفاق المدني والوحدة أحد الأسباب التي تجعل إصلاحاتنا بطيئة ومؤلمة للغاية. تُستهلك جهودنا في المشاحنات السياسية بدلًا من التعامل مع المهام الملموسة الخاصة بإعادة إحياء روسيا”.

لكن بخلاف الصين، فشل بوتين في تطويع الأوليغاركية الحاكمة التي يحميها، وذلك بشكل يجعلها تخدم المصالح القومية بدلًا من مصالح أعضائها الشخصية،  فلم تزل البلاد تُعاني أزمات اقتصادية متكررة آخرها أزمة 2014-2016 نتيجة انخفاض أسعار النفط العالمية، والعقوبات الغربية المفروضة على البلاد نتيجة مغامرة بوتين الأوكرانية، إضافةً إلى استشراء الفساد الذي يُكلّف البلاد خسائر مُقدرة بـ50 مليار دولار سنويًّا، حيث احتلت روسيا المرتبة 129 بين 179 دولة على مؤشر الشفافية الدولية عام 2020. 

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter