أنت تقرأ الآن:

صُنِع في أمريكا.. كيف أصبحت هايتي أفقر بلدان الغرب؟

صُنِع في أمريكا.. كيف أصبحت هايتي أفقر بلدان الغرب؟

تسبب زلزال عنيف بقوة 7.2 على مقياس ريختر، والذي ضرب هايتي منتصف أغسطس المنقضي، في وفاة أكثر من 2000 شخص. وليست تلك الكارثة الأولى من نوعها التي يواجهها البلد الكاريبي، ففي 2010 تسبب زلزال واسع النطاق بقوة 7 درجات ريختر و9 درجات على مقياس “ميركالي” لشدة الزلازل في مقتل حوالي 220000 شخص (300000 في بعض التقديرات)، ما يعادل 2.2% على الأقل من سكان البلد في ذلك الوقت. 

يعيش قرابة %70 من الهايتيين في مساكن عشوائية مبنية من مواد بدائية، وتعاني البلاد من انعدام الطرق وفقر القطاع الصحي، وجميعها عوامل أدت إلى مضاعفة أعداد ضحايا كارثة طبيعية كالزلزال إلى هذا الحد المرعب. 

وتتضاعف معاناة الهايتيين بوباء الكوليرا الذي ضرب البلاد بين 2010 و2016 نتيجة تلوث مياه الشرب (20% من السكان يفتقرون إلى مصدر نظيف للمياه)، فأصاب ما يزيد على 700000، مات منهم أكثر من 9000 شخص. 

تعداد إصابات ووفيات الكوليرا في هايتي مقارنة بجيرانها.. المصدر: منظمة الصحة العالمية

يحيلنا ذلك بالضرورة إلى النظام السياسي الحاكم للبلاد، فقد عانت هايتي من ديكتاتورية عسكرية مدعومة من الولايات المتحدة في الفترة من 1957 إلى 1986، والتي ساهمت في استمرار التخلف، وذلك حيث أدار كل من الرئيس فرانسوا دوفالييه ونجله ووريثه في الحكم جان كلود دوفالييه البلاد بصفة وكلاء للشركات الأمريكية، مثل JCPenney وGap وOld Navy، والتي استفادت بدورها من العمالة البشرية الرخيصة عديمة الحقوق، والمتوفرة في هايتي، بهدف تحقيق أرباح خيالية من صناعة الملابس، في مقابل إهمال شبه تام للبنية التحتية والتعليم. 

فعند نهاية حكم دوفالييه الأب عام 1971 بلغ عدد الأطباء على طول البلاد طبيبًا واحدًا لكل 12500 مواطن، وبالكاد ارتفعت تلك النسبة إلى طبيب لكل 7200 مواطن بنهاية حكم دوفالييه الابن عام 1986 إثر انتفاضة شعبية لم تكن الأولى في تاريخ البلاد. 

عقوبة الحرية

صحيح أن هايتي بلد صغير من حيث المساحة، لكنه يحتل موضعًا في التاريخ الحديث يكافئ أضعاف مساحته. 

لقد اكتشفها المبشّر كريستوفر كولومبس عام 1492، فدَعاها “هسبانيولا” بدلًا من “كويسكويا” كما كان يدعوها سكانها الأصليين، والذين أُبيد 95% منهم على يد المستعمرين الإسبان في غضون ربع قرن فقط.

ثم رحل الإسبان، وجاء الفرنسيون الذين حولوا “سان دومينغو” كما دعوها لاحقًا إلى واحدة من أغنى المستعمرات على الإطلاق، وذلك بواسطة استغلال العبيد الأفارقة المخطوفين من ديارهم، والذين زرعوا البن وقصب السكر خالقين بعرَقهم ثروة العالم الحديث، قبل أن ينتفضوا عام 1791 مطالبين بموضعهم الطبيعي في هذا العالم، ويصدوا جيوش نابليون معلنين استقلالهم وإلغاء العبودية في 1804، لتصبح “هايتي” ثاني جمهورية مستقلة في “العالم الجديد” بعد الولايات المتحدة المستقلة حديثًا عن بريطانيا. 

لكن الاستعمار لم يسلّم الراية بسهولة، فقد فرضت فرنسا والولايات المتحدة حظرًا تجاريًّا على الصادرات الزراعية لهايتي. وتحت ضغط الحصار أجبروا الهايتيين عقب ثورتهم بعقدين على دفع إتاوات بقيمة 21  مليون دولار كـ”تعويض” عن “خسائر” مُلاّك العبيد السابقين نتيجة إلغاء العبودية، والتي ظلت هايتي تسددها لفرنسا حتى 1947. 

هنا تحديدًا تتركز معضلة التأخر الهايتي، والذي جعل منها البلد الأفقر في نصف الكرة الغربي، حيث أسهم في استمرار معاناتها (58.5% من الهايتيين يعيشون تحت خط الفقر)، وعجزها عن مواجهة الكوارث عبر بنية تحتية قوية وخطط محكمة. 

فمع بداية القرن العشرين استمرت هايتي في تسديد الإتاوة الفرنسية حتى منتصف القرن كما ذكرنا، وكان أكثر من نصف الموازنة العامة يتسرب من البلاد لسداد الفوائد، وكذلك في صورة أرباح تحققها الشركات الأمريكية، ما دفع حكومة الولايات المتحدة إلى احتلال هايتي عسكريًّا من 1915 إلى 1943 لقمع تمرد شعبي بدأه السكان في 1914، وللدفاع عن احتكار شركة Hasco الأمريكية لإنتاج البلاد من السكر. 

من حينها لم تسلم “أرض الجبال العالية” (معنى “هايتي” في لغة سكانها الأصليين) من التدخلات الأمريكية العسكرية والاستخباراتية على السواء، فعقب زوال ديكتاتورية دوفالييه، دعمت الولايات المتحدة انقلابًا عسكريًّا أزاح الرئيس المنتخب ديمقراطيًّا عام 1991 جان برتران أريستيد عقب 8 أشهر فقط من انتخابه، وذلك إثر شروعه في مضاعفة الحد الأدنى للأجور.

رغم ذلك انتخب أريستيد رئيسًا في انتخابات 2001، ولم يتم عامه الرابع في الحكم حتى انقلب الأمريكيون عليه للمرة الثانية. لكنهم لم يخاطروا هذه المرة بإبقائه داخل الحدود الهايتية خشية أن تعيده شعبيته الجارفة إلى الحكم كما أعادته من قبل، ولذا قامت قوة خاصة أمريكية بخطفه على متن طائرة متجهة إلى جنوب إفريقيا، حيث أجبروه على توقيع استقالته تحقيقًا لرغبة بوش الابن الذي أنكر وقوف حكومته خلف الانقلاب، وأيضًا لرغبة الرأسماليين من أعداء أريستيد الذين موّلوا الانقلاب، ومنهم  أندريه إبيد مالك مجموعة Alpha industries العاملة بالسوق الهايتية، والذي عارض صراحة سياسات أريستيد في رفع الأجور والإنفاق العام على التعليم والصحة اللذين شهدا طفرة نسبية خلال حقبته القصيرة، والتي شهدت كذلك حصارًا اقتصاديًّا بهدف  إزاحة أريستيد فرضته الولايات المتحدة بمساعدة الاتحاد الأوروبي. 

منذ ذلك الحين عادت هايتي ثانية إلى الحظيرة الأمريكية، حيث تبيت في قيود العجز المالي والبنيوي والتقني، والذي يضاعف أضرار الكوارث الطبيعية مئات المرات، في حين يستمر استغلال ملايين الهايتيين كما لو أنهم ما زالوا عبيدًا من أجل إثراء مافيا الرأسماليين العابرة للقارات.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter