أنت تقرأ الآن:

الصراع الجيوسياسي الأمريكي الصيني في عهد بايدن

الصراع الجيوسياسي الأمريكي الصيني في عهد بايدن

في منتصف شهر يوليو الماضي، حشدت الولايات المتحدة حلفاءها: الاتحاد الأوروبي وأستراليا وبريطانيا وكندا واليابان ونيوزيلندا، إلى جانب دول حلف الناتو، لانتقاد سلسلة الهجمات الإلكترونية التي شنتها الحكومة الصينية على عدد من المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة والجامعات داخل الولايات المتحدة وخارجها بهدف التجسس وسرقة البيانات، ما يؤثر في الأمن القومي والاقتصادي لأن الهجوم يكلف ضحاياه مليارات الدولارات. هددت الولايات المتحدة الحكومة الصينية بمحاسبتها إن لم تتوقف، متهمة أربعة أشخاص تابعين لوزارة أمن الدولة الصينية بسرقة أبحاث لقاح “إيبولا” ما بين عامي 2011 و2018 بين ما سُرق. 

رفضت الحكومة الصينية الاتهامات الأمريكية، وقررت معاملتها بالمثل، فأقرت عقوبات  ضد موظفين أمريكيين سابقين وحاليين في اللجنة التنفيذية للكونغرس بشأن الصين ولجنة المراجعة الاقتصادية والاجتماعية بين الولايات المتحدة والصين لأنهم شوّهوا البيئة التجارية في الصين باتهامات لا أساس لها من الصحة، وعقوبات تنتهك القانون الدولي وتهدد مبادئ العلاقات الدولية وتتدخل في الشؤون الداخلية للصين.

بعد أسبوع، سافرت نائبة وزير الخارجية الأمريكي “ويندي شيرمان” إلى الصين كي تلتقي بوزير الخارجية الصيني “وانغ يي” ونائبه “شيه فنغ” في مدينة “تيانجين” أملًا في تفتيت القضايا المختلف عليها من الطرفين، وتأكيدًا على الحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة. 

هناك، شاركت نائبة وزير الخارجية الأمريكي مخاوف بلادها المتعددة تجاه نهج الحكومة الصينية في بعض القضايا مثل انتهاك حقوق الإنسان، وعدم التعاون مع منظمة الصحة العالمية في ما يتعلق بجائحة كورونا. في الوقت نفسه، رحبت بتنافس الصين مع بلادها حتى إن صار على أشدّه، بشرط ألا يتحوّل إلى مواجهة. 

في المقابل، لم يكن المسؤولون الصينيون أقل صرامة، حيث اتهم نائب وزير الخارجية الصيني الإدارة الأمريكية بتأجيج المواجهة بين البلدين في المستقبل عن طريق إثارة المشاعر القومية على حساب الصين بتصديره كعدو وهمي، ظنًّا من الولايات المتحدة أنه بقمع نمو الصين، ستستمر الهيمنة الأمريكية وتُحل مشكلاتها الداخلية والخارجية. في الوقت نفسه، في أثناء خطابه في الاحتفالات في “بكين” بمناسبة مرور 100 عام على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني، لم يجد وزير الخارجية الصيني غضاضة في تعميق التعاون والشراكات استنادًا إلى المنفعة المتبادلة والفوز المشترك بهدف التوسع الاقتصادي والسياسي العالمي.

ورغم صرامة تصريحات الطرفين، فإن العلاقات التجارية والاستثمارية بين البلدين قوية، حيث تعد الصين أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، فقد خلقت الصادرات الأمريكية إلى الصين ما يقرب من مليون ونصف وظيفة داخل الولايات المتحدة، وكذلك انتعشت الاستثمارات الأمريكية في الصين، وبلغت قيمة الأسهم والسندات بين البلدين ما يقرب من تريليون ونصف دولار، وعلى الرغم من تدهور الاستثمار الصيني في الولايات المتحدة بسبب القيود المفروضة على رؤوس الأموال الصينية للاستثمارات الخارجية من  الحكومة الصينية من ناحية، وتعزيز فحص تلك الاستثمارات من الحكومة الأمريكية من ناحية أخرى.

فإن الصين والولايات المتحدة تتعاونان في إنتاج المعرفة والعلوم، حيث تعمل شركات وأفراد من كلا البلدين على بناء مراكز بحثية، وتعتمد شركات التكنولوجيا الأمريكية على صينيين موهوبين. وتنمو أيضًا شراكة البلدين في البحث العلمي بمعدل 10% سنويًّا، وبعد انتشار جائحة كورونا زاد التعاون خلال العام الماضي أكثر من مجموع خمس السنوات السابقة وأدى إلى إنتاج أكثر من 100 بحث علمي مشترك وعدد من ورش العمل والندوات. 

وتشكّل نسبة الطلبة الصينيين 34% من  الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة، وعدد منهم يبقى في الولايات المتحدة بعد التخرج للإسهام في عملية التنمية العلمية والتكنولوجية والاقتصادية. 

ومن ثم، فإن تلك الصور من التعاون لا يمكن أن تصب في النهاية في أن ترغب الولايات المتحدة في هزيمة الصين، ولكنها يمكن أن تدفع إدارة “بايدن” إلى اتخاذ خطوات لتعزيز قدرة الولايات المتحدة التنافسية بمساعدة حلفائها على مواجهة الصين على المدى الطويل، لأن هذا التشابك الكثيف في العلاقات الثنائية في مختلف المجالات يحجّم الطرفين كليهما عن الإقدام على إلحاق الضرر بالطرف الآخر دون أن يضر بنفسه. لكن إدارة “بايدن” تستخدم ورقة الصين كأنها حافز على تطوير أجندتها المحلية، لأنها تدرك جيدًا صعوبة تحقيق تقدّم في التحديات العالمية الخطيرة مثل التغير المناخي ومحاربة الأوبئة وانتعاش الاقتصاد العالمي دون التعاون مع الصين. وإلحاح الولايات المتحدة على دفع الحكومة الصينية إلى إنهاء أو على أقل تقدير تحسين تعاملها مع ملف حقوق الإنسان، لا يمثّل سوى تعبير عن هويتها وانتصارها لمبادئها، ولا يعبّر بالضرورة عن تغيير النظام أو مواجهة الحزب الشيوعي الصيني الحاكم في عهد “بايدن”.    

وطريقة التعاون الثنائي الحالية لا تبعث على التفاؤل لدرجة التقارب بين البلدين إلا في حالة تصرف معتدل من أحد البلدين لاحتواء الآخر، ولا يمكن أن يتحول إلى عداء صريح بينهما إلا في حالة التحرك العسكري من أحد الجانبين. 

يزداد توتر العلاقات بين البلدين كلما ترسّخ اقتناع الصين بأنها تقترب من قيادة المجتمع الدولي، وتسلك طريقها إلى تلك المكانة من خلال الحفاظ على علاقات خارجية غير معادية بهدف التركيز على أولوياتها الداخلية، وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، مع توطيد نفوذها في الخارج كي ترسخ اعتماد العالم عليها. ولتوسّع الصين الاقتصادي والاستراتيجي وطموحها الذي لا يتوقف، أصبحت قراراتها تؤثر بشكل مباشر في حياة المواطنين داخل الولايات المتحدة، والتي أصبحت تخمّن الاتجاه الاستراتيجي للصين من خلال التصريحات الرسمية وشبه الرسمية بدلًا من تبادل الزيارات مع المسؤولين الصينيين والمراقبة المباشرة للمجتمع الصيني، ذلك بسبب قيود السفر في عصر كورونا.

استغلت الصين حالة انعدام الرقابة المباشرة لقمع سكان مقاطعة “شينجيانغ” ذات الأغلبية المسلمة، وأحكمت سيطرتها على منطقة “هونغ كونغ”،  واشتبكت للمرة الأولى منذ 45 عامًا مع القوات الهندية، ولا تنفك تنتقد أداء حكومات الغرب. كل هذه التطورات تشير إلى خروج الصين من سياساتها الخارجية التي كانت تتسم بالحذر.

تبدو الصين مقتنعة إذن بأن عصر النظام العالمي أحادي القطب الذي تسيطر فيه الولايات المتحدة قد ولّى، وبدأ بالفعل نظام عالمي متعدد الأقطاب من خلال بزوغ قوى كبرى مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والهند واليابان، كل منها لديه قوة النمو السكاني أو الوزن الاقتصادي أو الثقل العسكري، لكن الصين والولايات المتحدة تمتلكان وحدهما كل تلك العوامل التي تجعل كل منهما يتحفز للصراع مع الآخر.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter