أنت تقرأ الآن:

تعديل المحاصيل والمواشي وراثيًّا.. إلى أي مدى يذهب الإنسان لتوفير الغذاء؟

تعديل المحاصيل والمواشي وراثيًّا.. إلى أي مدى يذهب الإنسان لتوفير الغذاء؟

مع ارتفاع معدلات الكوارث البيئية والتغيرات المناخية على كوكب الأرض، أصبح الانتباه العالمي إلى مستقبل الغذاء ضرورة ملحّة من أجل ضمان إطعام ما يقدّر بنحو 8.5 مليارات نسمة بحلول عام 2030، وذلك بحسب تقديرات الأمم المتحدة لعام 2021.

ولهذا اهتم عدد من المؤسسات والشركات اهتمامًا خاصًّا بتوسيع نطاق الابتكارات التكنولوجية، والذي يعتمد على تقنيات التعديل والتحرير الوراثي للمحاصيل والماشية، وذلك لتوفير نظام غذائي أكثر دوامًا، وأنواع محاصيل جديدة قادرة على التكيف مع المناخ وما يطرأ عليه من تغيرات.

التعديل الجيني والتحرير الجيني

التحرير الوراثي أو الجيني تغيير طفيف ومراقَب في الحمض النووي للكائن الحي بهدف تطوير خصائصه، وإكسابه مقومات توفر له قدرة أكبر على التكيف والازدهار.

أما التعديل الوراثي، فهو نوع من الهندسة الوراثية يتم إدخال الحمض النووي فيه أو حذفه أو استبداله أو تعديله داخل خلية، وذلك من خلال إنزيم ليقطع الحمض النووي في تسلسل معين، ثم يتم إجراء “تعديل” على هذا التسلسل. 

اليوم تجرى عملية التحرير الوراثي في كثير من دول العالم على النباتات والحيوانات، وذلك بهدف تحسين صحة الحيوان والنبات أو زيادة الإنتاجية أو تقليل كمية الأضرار الخارجية التي يتعرضون لها، وبهذا يمكن تنويع أنظمة المحاصيل والإنتاج الحيواني بحيث تنمو في ظروف يصعب مواجهتها دون تعديل وراثي، أو ربما ظروف لا تحقق الكفاية والجودة اللازمتين للبشر من الغذاء.

لا شك أن ثمة عوائق تحول دون تعميم أنظمة التعديل الهندسي الوراثي، فإلى جانب التكلفة العالية وعراقيل الحصول على براءات الاختراع، ما زالت هناك مخاوف بشأن المنتجات المعدلة وراثيًّا، ومدى تأثيرها على التنوع البيئي. ولهذا فثمة نقاش يدور حول تضمين تحرير الجينات، في تعريفات التعديل الوراثي، من عدمه، حيث يرى البعض أن تغييرات الحمض النووي الناتجة عن التحرير الجيني لا تختلف عن تلك التي يمكن أن تحدث في التربية التقليدية أو الطبيعية.

يستهدف التحرير الوراثي تحديد متغيرات الجينات التي تساعد النباتات على النمو، وإنتاج المواد الطبيعية مثل الفيرومونات المفيدة في الزراعة، أو المركبات المضادة للسرطان المستخدمة في العلاج الكيميائي. وعليه، فإن عددًا من الجهات تعمل على تحسين التقنيات الحيوية النباتية لتثبت أن التحرير الجيني يمكن استخدامه لتطوير سمات مفيدة في عدد من المحاصيل كالشعير والبطاطس عن طريق حذف عدد قليل من أحرف الحمض النووي، دون اللجوء إلى تعديل وراثي كامل.

أما بالنسبة إلى تقنيات التعديل الوراثي (Genetic Modification)، فإنها تعتمد على إدخال تسلسلات الحمض النووي في جينات النبات من نفس النوع، أو من نوع قريب الصلة، أو ذي صلة بعيدة، لمنحه سمات مفيدة مثل مقاومة الآفات الحشرية، وقد ظهرت تلك المنتجات المعدلة وراثيًّا للمرة الأولى في الأسواق في التسعينيات، ويتم زراعتها الآن على نطاق واسع في حوالي 10% من الأراضي الزراعية في 29 دولة.

يمكن أن تؤدي تلك التقنيات إلى ظهور أنواع مختلفة وكميات أكبر من الغذاء، وقد ظهرت أول دجاجة معدلة وراثيًّا في قائمة مطعم في سنغافورة أواخر عام 2020، ويؤكد كثير من الشركات ثقتها من الموافقة على لحوم الحيوانات المعدلة وراثيًّا في أسواق الولايات المتحدة هذا العام.

يستخدم عدد من الشركات تقنيات مثل “كريسبر“، أو تعديل الكائنات الحية وراثيًّا على أساس نسخة مبسطة من بروتين “كريسبر” المضاد للفيروسات، ذلك لزيادة رغبة المستهلكين في المحاصيل المعدلة وراثيًّا. فمن المقرر، على سبيل المثال، أن يصل أول منتج حيواني معدل وراثيًّا (سمك السلمون – AquAdvantage) إلى رفوف متاجر البقالة هذا العام بعد عقود من محاولة الحصول على الموافقة.

أما التعديلات الوراثية التي تجرى على حيوانات مثل الأغنام والماعز والأبقار، فهي لتعزيز خصائص معينة، مثل إنتاج الحليب ومقاومة الأمراض، وكذلك تحسين القيمة الغذائية للمنتجات الحيوانية، فقد تم تعديل الأبقار والماعز والأغنام وراثيًّا لاستخراج بروتينات معينة في حليبها.

لكن نتائج التحرير الجيني تختلف تمامًا عن نتائج التعديل الجيني، حيث يتضمن التحرير الجيني قطع وتقسيم أجزاء من الحمض النووي داخل “جينوم” واحد لإحداث تغييرات لم تكن ممكنة سابقًا إلا من خلال التكاثر الانتقائي طويل الأمد للنباتات والحيوانات. تختلف هذه العملية عن التعديل الجيني، والذي يعتمد على إدخال الحمض النووي من نوع إلى آخر.

فما تسمح به تقنيات تحرير الجينات هو إجراء تغييرات محدودة للغاية على الحمض النووي الموجود بالفعل في الكائن الحي. كتغيير حرف واحد محدد فقط من رمز الحمض النووي أو حذفه، أو إعادة ترميز جزء أطول من التسلسل، يمكن أيضًا استخدام هذه التقنيات لإدخال الحمض النووي، ولكن بدلًا من إدخال الحمض النووي الجديد عشوائيًّا، كما يحدث مع تقنيات التعديل الوراثي التقليدية، يمكن مع التحرير الوراثي إدخاله في موقع معين في الجينوم أو الشريط الوراثي.

لقرابة ثلاثين عامًا أثير جدل حول المحاصيل المعدّلة وراثيًّا،  وهو ربما ما دفع إلى عدم إدراج التحرير الوراثي ضمن تصنيف التعديل الجيني، حيث إنه لا يغير  الجينوم بل يعيد تنظيمه بتكلفة أقل ودقة أكثر، ويسمح أيضًا بتسويق الأصناف الجديدة بشكل أسرع دون حاجة إلى اللوائح المعطلة للمنتجات المعدلة وراثيًّا.

ومع ذلك تشير بعض التقارير إلى عواقب غير مقصودة وتأثيرات مفاجئة قد تنجم عن تحرير النباتات والحيوانات جينيًّا، بما في ذلك ما يسمى “محركات الجينات”، وهي التقنية التي تسمح بنقل “جين” معين بطريقة فعالة وانتقائية إلى الجيل التالي من السلالة، وتسلّط هذه التقارير الضوء على الآثار غير المقصودة والمخاطر المتعلقة بأنظمة تحرير الجينات في الزراعة وتأثيرها السلبي في صحة الإنسان عبر إخلالها بالنظم البيئية وتوازنها.

ولهذا يفرض الاتحاد الأوروبي قواعد صارمة تجعل تحرير الجينات للمحاصيل والماشية شبه مستحيل، لكن بعض الدول مثل إنجلترا أعلنت مؤخرًا أنها ستسمح قريبًا بتحرير الجينات للمحاصيل والماشية للمرة الأولى بموجب توصية حكومية على اعتبار أن هذا سيحقق فوائد واسعة للمستهلكين والمزارعين.

اقتصاد التحرير الوراثي

أصبحت تقنيات التعديل والتحرير الوراثي خاصية اقتصادية هامة، حيث تعمل اليوم مئات من مختبرات البحث والتطوير على اختبار إمكانات التعديل الوراثي لإنتاج قمح منخفض “الغلوتين” يمكن أن يتحمله الأشخاص الذين يعانون من الحساسية، أو فطر لا يتغير بعد القطع، أو فول الصويا بأقل قدر من الدهون غير الصحية، وحماية الحصة العالمية من الشوكولاتة، حيث تسعى شركة “كاندي ميكر” لتعزيز قدرة “الكاكاو” على محاربة الفيروس الذي يدمر محاصيله غرب إفريقيا.

كذلك تسعى شركة Genus البريطانية المتخصصة في علم الوراثة الحيوانية إلى جلب خنزير محصن ضد مرض الخنازير الإنجابي والمتلازمة التنفسية (PRRS) إلى سوق الولايات المتحدة عام 2025.

من المتوقع أن تبلغ سوق التحرير الوراثي العالمية قيمة سوقية تقدر بحوالي 9.2 مليارات دولار بحلول عام 2026، تشير إحصاءات جمعية الأطعمة النباتية الأمريكية إلى أن البدائل النباتية شكّلت 14% من سوق الألبان بالكامل، حيث ارتفعت بنسبة 5% سنويًّا، مقارنة بالنمو الثابت أصلًا لسوق حليب الألبان.

وفي الولايات المتحدة تتوقع بعض الآراء أنه بعد عشر سنوات من المحتمل أن تشكّل المنتجات الجديدة المعدلة جينيًّا 14% مما يشتريه المستهلكون، في الوقت الذي ارتفعت فيه بالفعل مبيعات الأطعمة النباتية بنسبة 43% في العامين الماضيين، أي أسرع تسع مرات من إجمالي مبيعات المواد الغذائية.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter