أنت تقرأ الآن:

دبلوماسية الرسائل المتناقضة.. لماذا تتدخل تركيا في الأزمة الأوكرانية-الروسية؟

دبلوماسية الرسائل المتناقضة.. لماذا تتدخل تركيا في الأزمة الأوكرانية-الروسية؟

في أغسطس عام 2019 زار الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” روسيا، واستقبله الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، وصحبه في جولة داخل معرض “ماكس” الدولي للطيران، وهو معرض جوي يقع في مطار “جوكوفسكي” الدولي داخل مقر معهد “غروموف” لبحوث الطيران جنوب شرق العاصمة الروسية “موسكو”، ودعاه إلى تناول الآيس كريم المفضل له.

ظهر اللقاء وكأنه بين صديقين قديمين، وتبادل الرئيسان النكات حول شراء تركيا المقاتلة الروسية متعددة المهام “سوخوي سو-57” في ظل غضب الولايات المتحدة من حليفتها تركيا وتحذيرها من التعاون العسكري مع روسيا، حيث وصف الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” الصفقة حينها بـ”الموقف الصعب للغاية” لأن المقاتلة الروسية المتطورة التي تستخدم تقنية التخفي تنافس برنامج المقاتلات الأمريكية “F-35”.  

ربما من منطلق علاقة الصداقة المتينة التي يظهرها الرئيسان التركي والروسي خلال اللقاءات المستمرة التي تجمعهما، ترغب تركيا باعتبارها عضواً في حلف شمال الأطلسي “النيتو”، في تهدئة الأوضاع، فأعلن الرئيس التركي “أردوغان” استعداده “لفعل كل ما هو ضروري” بهدف تجنب الحرب، عبر لقاءات محتملة قريبة مع مختلف الأطراف التي التقى بهم بالفعل عدة مرات منذ بداية الاحتقان بين روسيا وأوكرانيا التي يقف لحمايتها حلف شمال الأطلسي (النيتو) بقيادة الولايات المتحدة.

يرى الرئيس التركي أنه ليس من الحكمة أن تغزو روسيا أوكرانيا، لكنه يقدّر حجم المخاوف الأمنية الحقة التي تشغل بال الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، بسبب وصول قوات حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا على الحدود الروسية، بعدما حشد “بوتين” 100 ألف من قواته على الحدود بين البلدين.

من خلال تدخلها لحل أو على الأقل تهدئة الأزمة، من الواضح أن تركيا تؤمن بدورها المهم في حل الأزمة الروسية-الأوكرانية. ففي مجال الدفاع العسكري، ومنذ عام 2019، تزود تركيا أوكرانيا بطائرات دون طيار من طراز “بيرقدار تي بي 2″، وهي نفسها التي استخدمتها أوكرانيا خلال الأشهر الأخيرة لضرب القوات الموالية لروسيا في إقليم “دونباس” الانفصالي شرقي البلاد، ما دفع “بوتين” إلى إعلان تورط تركيا في أنشطة استفزازية ومدمرة. 

رسائل متناقضة

أخلت تركيا مسؤوليتها بشأن استخدامات أوكرانيا المحتملة لطائراتها، ولم تبالِ برد الفعل الروسي، موقّعة مزيدًا من الاتفاقيات مع أوكرانيا لبيع طائراتها، وتعهدت للشريك الأوكراني بالتعاون في تصنيعها الذي أثمر عن إعلان قرب الانتهاء من تصنيع طائرات دون طيار من طراز “تي إيه أي أنكا” من إنتاج الشركة التركية لصناعات الفضاء بمحرك أوكراني الصنع. ولم تكتفِ تركيا بالتعاون العسكري مع أوكرانيا، بل عمّقت الشراكة التجارية أيضًا، وسهّلت السياحة بين البلدين عبر إطلاق نظام سفر دون تأشيرة أو جواز سفر. 

من ناحية أخرى، تشترك روسيا وتركيا في تنسيق دوريات عسكرية، وتبادل المعلومات المخابراتية، وعقد اتفاقيات وقف إطلاق النار في عدد من الصراعات على الساحة الدولية مثل: سوريا وليبيا وجنوب القوقاز وشبه جزيرة البلقان وأذربيجان وكازاخستان. وتستفيد تركيا اقتصاديًّا من روسيا، خصوصًا في قطاع السياحة من خلال تدفق الروس إليها، ما يجلب العملة الأجنبية التي تنعش اقتصادها، إضافةً إلى اعتماد تركيا المتزايد على صادرات الغاز الطبيعي الروسي.

عام 2008، بينما كانت روسيا ترد عسكريًّا على جورجيا بهجوم مضاد سريع بسبب تعديها على مقاطعتي “جنوب أوسيتيا” و”أبخازيا”، فرضت تركيا قيودًا مشددة على حجم وعدد السفن الحربية الأمريكية التي سمحت لها بدخول البحر الأسود عبر مضيق “البوسفور” بهدف مواجهة روسيا، على الرغم من دعمها لبرامج تدريب القوات الجورجية التي أعدها حلف شمال الأطلسي (النيتو).

ورفضت تركيا تنفيذ العقوبات التي أقرّتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014، على الرغم من أنها انضمت إلى حلفائها أعضاء حلف شمال الأطلسي (النيتو) بعدم الاعتراف بأحقية روسيا قانونيًّا في الضم ورأت أنه “احتلال”.

ورغم التوترات التي لحقت بالعلاقات التركية-الأميركية مع تهديدات الإدارة الأمريكية بقيادة “ترامب” بتوقيع عقوبات على “أنقرة”، أتمّت تركيا صفقة منظومة “إس-400” الروسية عام 2019، في سابقة هي الأولى من نوعها. فلم تفكر دولة عضو في حلف شمال الأطلسي من قبل في شراء منظومة أسلحة متطورة من روسيا، وكانت النتيجة أن طردت تركيا من برنامج مقاتلات “F-35” بقيادة الولايات المتحدة.

وفي ظل مواقفها التي يمكن وصفها بالانحياز إلى الجانب الروسي، لم تسلم تركيا من التحديات المتلاحقة التي تخلقها روسيا على الساحة الدولية، ولم تنجُ من عزلة دولية فرضها عليها الغرب بسبب هذا الانحياز.

أملًا في التخلص من زيادة عزلتها الدولية، بدأت محاولات تركيا بشكل حثيث في التقرب من الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة جو بايدن لتحسين العلاقات التي تجلت في اجتماع رئيسي البلدين على هامش قمة “النيتو” في يونيو من العام الماضي، لكن الإدارة الأمريكية ربما أجلت قرار تحسين علاقاتها مع تركيا إلى ما بعد الانتخابات التركية العام المقبل التي قد تشهد استمرار النظام الحالي أو نهايته.

وتتجهز تركيا لاقتطاف فرصة احتمالية انقطاع إمدادات الغاز الطبيعي الروسي عبر بيلاروسيا وأوكرانيا إلى الداخل الأوروبي من خلال خط أنابيب “نورد ستريم 2“، لإثبات قدرتها أمام الغرب على تعويض هذه الخسارة، بتوصيل إمدادات الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب التركية “بلو ستريم” و”ترك ستريم”، ما يعزز دورها الحيوي كدولة عبور للغاز إلى أوروبا. 

وتسعى تركيا إلى تنشيط علاقاتها مع حلف شمال الأطلسي من خلال التلميح الدائم إلى دعم أوكرانيا. السؤال هنا: في حالة إعلان بوتين الحرب على أوكرانيا، هل ستساعد تركيا الولايات المتحدة لصد الغزو الروسي، أم إنها مجرد تلميحات قد تُفهم بأكثر من معنى؟

الخيط الرفيع

يمكن الإجابة عن هذا السؤال بدايةً من المنطلق الذي دفع تركيا إلى الانضمام لحلف “النيتو” في الأساس عام 1953، والاقتراب تدريجيًّا من الولايات المتحدة، وهو خوفها من التهديد العسكري للاتحاد السوفييتي سابقًا خلال الحرب الباردة. هذه المخاوف دفعت تركيا كذلك إلى الاهتمام بالبحر الأسود الذي كان البوصلة في توجيه رؤيتها الاستراتيجية للعلاقات مع روسيا وأوكرانيا وفقًا لاتفاقية “مونترو” التي عقدت في “مونترو” غرب سويسرا عام 1936، حين مُنحت تركيا السيطرة على مضيقي “البوسفور” و”الدردنيل”، ونظمت عبور السفن الحربية في وقت السلم، وضمنت حرية مرور السفن المدنية، وحظرت الوجود البحري الدائم للدول التي لا تقع على البحر الأسود. وبالتالي، ترى تركيا أولوية في الحفاظ على توازن القوى بين الدول المطلة عليه التي تضم الدول الثلاث، إضافةً إلى جورجيا وبلغاريا ورومانيا، حيث توددت إلى هذه الدول لتكثيف نفوذها ضد القوة العسكرية الروسية منذ نهاية الحرب الباردة. 

على الرغم من وجود أساطيل بحرية في البحر الأسود لكل الدول المطلة، فإنه صغيرة نسبيًّا إذا قورنت بحجم الأساطيل البحرية التركية والروسية، واستيلاء روسيا على البنية التحتية لأوكرانيا في البحر الأسود والعديد من سفنها البحرية عند ضمها شبه جزيرة “القرم”، أضعفت الهيمنة التركية على المنطقة. 

في إطار تلك الرؤية، يمكن اعتبار “البحر الأسود” منطقة نفوذ مشتركة بين روسيا وتركيا، لكن لا يزال مضيق “البوسفور” تحديدًا الذي تسيطر عليه تركيا هو المدخل البحري الوحيد إلى البحر الأسود. 

باعتبارها عضوًا في حلف “النيتو”، من المفترض أن تواجه تركيا روسيا، حيث وصلت الأزمة إلى مواجهة حتمية، وأن تطبق سياسة العقوبات على موسكو، ما يضع تركيا في معسكرها الطبيعي مع حلف شمال الأطلسي، وحينها ستصبح مسألة تصدير الطائرات بدون طيار إلى أوكرانيا مسألة شائكة، حتى وإن كانت هذه الطائرات لن تقلب موازين الحرب كليًّا لصالح “كييف”، لكنها ستمنح الجيش الأوكراني قدرات إضافية. 

وما يزيد هذا السيناريو تعقيدًا متانة العلاقات الثنائية والمشاركة الدبلوماسية بين تركيا وروسيا، والتي توطدت منذ محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016. 

إذا كان السيناريو المطروح هو مواجهة تركيا روسيا أولًا باعتبار أن الجيش التركي ثاني أكبر جيش في الحلف، وثانيًا بحكم القرب الجغرافي، خصوصًا في ظل عدم احتمالية صمود الجيش الأوكراني في مواجهة الجيش الروسي في حرب ذات نطاق واسع، فإن تركيا ستضطر إلى تحمل العواقب المباشرة التي قد تخلّفها الحرب، مثل استقبال الملايين من اللاجئين الأوكرانيين، إضافةً إلى أن توازن القوى في “البحر الأسود” قد يختل لصالح روسيا التي تطور نشاطها العسكري هناك بشكل متزايد.

لا تريد تركيا أن توضع في موقف يحتّم عليها الاختيار بين روسيا وأوكرانيا. فالاشتباك مع روسيا لن يعد مواجهة محددة في إطار أزمتها مع أوكرانيا فقط، فسيتعين على تركيا إعادة ترتيب أوراقها على الساحات الدولية الأخرى، وإن سحبت دعمها لأوكرانيا، فإنها لا تفقد سوقًا مزدهرةً للصناعات الدفاعية فحسب، بل ربما يفهم المجتمع الدولي تراجعها باعتباره تخليًا عن أصدقائها.  

وإذا كانت تركيا تتفهم المخاوف الأمنية الروسية من التقارب الأوكراني-الغربي، فهي في الوقت نفسه لا تستطيع فرض وجهة نظرها على احتمالية انضمام أعضاء جدد مثل أوكرانيا للحلف، لكن يمكنها لعب دور فعال بخصوص بدء نقاش حول طبيعة التحالف الأمني الغربي بالقرب من الحدود الروسية، باعتبار أن ما قرره “بوتين” تغيير في المعادلة الأمنية في المنطقة فقط، وليس بدءًا لحرب عسكرية حدد موعدها مسبقًا منتظرًا اللحظة الحاسمة.  

لن تستطيع تركيا المراهنة بعلاقتها مع روسيا بالتصدي لها عسكريًّا إذا شنت الحرب ضد أوكرانيا، حيث ستتعرض حينئذ لخسارة جيوسياسية في كثير من الجبهات على الساحة العالمية. وعلى الصعيد الاقتصادي ستزداد المعاناة، إذ تحتاج تركيا إلى العملة الأجنبية التي ينفقها السياح الروس الذين يمثلون النسبة الأكبر من السياح قبل انتشار جائحة “كورونا”، وذلك بعد اتجاه السياح الأوروبيين إلى اليونان وإسبانيا. وحاجة تركيا إلى إنعاش الاقتصاد من خلال قطاع السياحة أضحت ملحّة تحضيرًا للانتخابات الرئاسية التركية العام المقبل.

وبالتالي، قد تدعم تركيا أوكرانيا من وراء الكواليس، أو قد تطالب الغرب بتقديم ضمانات نافذة لمواجهة الرد الروسي على تركيا داخل الجبهات المفتوحة بينهما على الساحة العالمية، لكنها تبدو سيناريوهات غير قابلة للتنفيذ في ظل المواجهة الحتمية لتركيا مع روسيا إذا بدأت الحرب. وفي إطار سعي تركيا إلى تحقيق قدر أكبر من النفوذ على مناطق مثل “البلقان” و”القوقاز” و”أذربيجان”، ستبقى وحيدة في مواجهة معقدة مع روسيا في ظل عدم رغبة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي بفتح جبهات جديدة هناك.

في حالة بدء الحرب، لن يكون الغموض التركي مريحًا بالنسبة لكلا الجبهتين الروسية أو الأمريكية، وسيستمر الضغط في مواقف ستضطر فيها تركيا على إثرها إلى اتخاذ موقف حاسم. وبالتالي، من المحتمل أن تنتهي الأزمة بتسويات أمنية جديدة مقبولة لدى روسيا والغرب بوساطة تركية تمكّنها هي الأخرى من اقتناص فرصة لإثبات نفسها كقوة عظمى تستحق المزيد من التقدير. فإذا كانت روسيا تشعر بأنها تستحق مكانة أفضل مما هي عليه بعد تسوية ما بعد الحرب الباردة، فيبدو أن تركيا تقاسمها نفس المشاعر، وتتسارع الدولتان في استغلال أكبر قدر من الثقل الجيوسياسي تحضيرًا لعالم متعدد الأقطاب لا يسيطر فيه الغرب وحده على المشهد السياسي. 

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter