أنت تقرأ الآن:

سير أم كلثوم.. عن صوت بألف وجه

سير أم كلثوم.. عن صوت بألف وجه

شيماء جابر

بصوتها البهي، وهيئتها المهيبة، كانت تطل على الجماهير العريضة، ليلة الخميس الأول من كل شهر، تقف شامخة، بكبرياء كلثومي ممسكة بمنديلها الحريري، تغني بحنجرتها الماسية للهائمين، لتُذهب العقول وتذيب القلوب، فيكون عيدًا فنيًّا من المحيط إلى الخليج.

تم دفعها إلى عالم الشهرة والنجومية في سن مبكرة. أفلتت من وصمة العار الأخلاقية كامرأة ريفية تنتمي إلى مجتمع شرقي الهوى والهوية، تمتهن الغناء في أوائل القرن العشرين، تعمل داخل مجتمع ذكوري في مهنة يسيطر عليها الرجال. بحلول أوائل العشرينيات من القرن الماضي نالت الاستقلال المالي عن عائلتها كحدث استثنائي وقتها، وفي أوائل الأربعينيات نالت سلطة كبيرة على مهنتها عقب فوزها بمقعد نقيب الموسيقيين.

اليوم، هناك كثيرة من الكتب والأفلام الوثائقية والروائية التي عنيت بتحليل ظاهرة “أم كلثوم” ودراستها من جوانب عدة: فنية وشخصية وتاريخية، وذلك عبر بحث الأسباب الكامنة وراء استثنائية رحلة صعودها إلى أعلى مراتب المجد الفني، بالتشابك مع حالة المجتمع المصري وحالة تلقّي الفن والإبداع داخله في تلك الحقبة الزمنية من القرن العشرين.

الاستماع إلى صوت «أم كلثوم» إحدى المتع العظيمة التي منحنا إياها عالم الموسيقى والغناء، رغم مرور قرابة نصف قرن على رحيلها، عند وضعها ضمن سياق الحقبة التاريخية لعصرها، فإن رحلة صعود “كوكب الشرق” هي الأكثر استثنائية بين جميع قصص النجاح الفنية.

لكن لهذه القصة قراءات متعددة اتخذت تمثلاتها المختلفة في بعض أهم كتب السير التي صدرت عن “الست”. بعض هذه السير تقليدي، وبعضها الآخر يحاول بناء سردية بديلة وتجديدية، ويبحث عن المطمور والمسكوت عنه في حياة “أم كلثوم”، لكن كلها يحاول التعبير عن الأثر الذي تركته في نفوس مستمعيها وعشاقها في العالم أجمع.

البحث عن الذات العميقة لكوكب الشرق

اهتمت غالبية تلك الإصدارات بجانب المتن العام لشخصيتها بالتأكيد على التصور الذهني الجمعي الذي عرفناها من خلاله سيدةً للغناء العربي المتوَّجة على عرشه، جانب «تلميع الصورة» أو بناء الأسطورة. 

كان من أبرز تلك الإصدارات المتخصصة كتاب الباحثة البريطانية “فيرجينيا دانيلسون” (Virginia Danielson) الصادر عام 1997 تحت عنوان: «The Voice of Egypt: Umm Kulthūm, Arabic Song, and Egyptian Society in the Twentieth Century»، والذي تحول في العام التالي إلى فيلم وثائقي بعنوان: «أم كلثوم.. صوت يمثل مصر»، قام فيه الفنان “عمر الشريف” بدور الراوي للمادة الوثائقية، قائلًا ضمن سياقه: 

«تولد كل صباح في قلب 120 مليون شخص. يوم بلا أم كلثوم يوم باهت في الشرق».

نقل المترجم “عادل هلال عناني” الكتاب إلى اللغة العربية عام 2005، تحت عنوان: «صوت مصر: أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين»، ونشره المركز القومي للترجمة، ثم أعيد نشره ضمن مشروع مكتبة الأسرة عام 2005، ليكون أول سيرة موضوعية تؤرّخ بأسلوب أكاديمي الحياة الشخصية والمهنية لسيدة الغناء العربي.

وهناك أيضًا كتاب «مذكرات الآنسة أم كلثوم.. ووثائق أخرى» للصحفي “محمد شعير”، والصادر عام 2018 ضمن منشورات سلسلة «كتاب اليوم»، ويضم مجموعة مقالات رأي كتبتها “أم كلثوم” بخط يدها، ونشرتها حينها في بعض الصحف والمجلات المصرية، إضافةً إلى أوراق المعركة القضائية التي دارت بينها وبين “الشيخ زكريا أحمد”، إلى ذلك مذكراتها الشخصية التي أمْلَت تفاصيلها على الصحفي الفني “محمد علي حماد”، ونشرتها صفحات مجلة “آخر ساعة” خلال الفترة من نوفمبر 1937 إلى يناير 1938. الكتاب في مجمله لا يعد مذكرات بمعناها الحرفي المعروف، بل يتناول بعض الجوانب الخفية التي قد لا يعلمها بعضهم عن حياة “أم كلثوم” في إطار الصورة المعهودة عنها.

«ثومة».. ولعبة تفكيك الأسطورة 

في الجانب الآخر كانت هناك محاولات جادة للبحث والتنقيب في الهوامش الخفية لشخصية سيدة الغناء العربي، والخروج من الدائرة الجهنمية إلى الإطار العام المعهود، وذلك عند التصدي لكتابة سيرة شخصية عامة شهيرة شائكة التفاصيل، فدائمًا ما يقف كاتب السير حائرًا أمام معضلة قول كل الحقيقة إلى حد الفضيحة، أو السكوت عن ما حدث وتجاهله، أو الكتابة على طريقة «أنا لا أكذب، لكني أتجمل». 

عن هذا الأمر تقول الأديبة الراحلة “دوريس ليسينغ” في الجزء الأول من مذكراتها «تحت جلدي»: 

«إن من يجلس ليكتب سيرته الذاتية لا بد من أن يطرح على نفسه سؤالاً محوره الحقيقة: كم نبين من هذه الحقيقة؟ وكم نخفي؟ هل نستطيع، أو نريد، أن نُطلع الملأ على أمور حميمة تمسّنا في الصميم ولا تعني غيرنا؟ وإذا أردنا أن نخفي بعض الحقائق، فإلى أي مدى تكون السيرة صادقة؟ ولماذا نكتبها إذن؟».

ينطبق الأمر على كتّاب السيرة بأنواعها كافة (سواء كتبوها سيرة ذاتية عن النفس، أو سيرة غيرية عن الآخرين)، فيكون الانتقاد للمنتج الأدبي أنه جاء عملًا مثاليًّا منمقًا تم إخراجه بعين رقيب، يمتلك مِشرطًا أخلاقيًّا، شديد الحرص على تبجيل صاحب السيرة المكتوبة وتلميع صورته، على حساب مصداقية السيرة والتأريخ الحقيقي لمسيرة الشخصية.

من هذا المنطلق ظهرت في السنوات الأخيرة محاولات متعددة للخروج من إطار المتن العام لشخصية “أم كلثوم”، أو بالأحرى البحث عن الذات العميقة لكوكب الشرق خارج مناطق البحث المألوفة في سيرتها. فقام الكاتب “موسى الشديدي” بأكثر تلك المحاولات جرأةً في كتابه صغير الحجم، والصادر عام 2019 تحت عنوان: «جنسانية أم كلثوم»، بتجاوز «التأليه» والعبور إلى «الجنسانية» في حياة “الست” شائكة التفاصيل.

وهناك كتاب «بوب آرت أم كلثوم.. الحب، الصوت، السلطة»، للكاتب “محمد الحجيري” الذي اختار أن يأخذ منحى آخر في رحلة البحث عن سر عبقرية كوكب الشرق، وذلك عبر دراسة تمثلاتها المختلفة في الفنون الأخرى كفن الغرافيتي وخلافه، مع التركيز بصفة خاصة على الفن التشكيلي. فنجده يقول في مقدمة الكتاب:

«لا أرسم أم كلثوم، ولكني أرسم الوطن من خلالها، عبّرت سيدة الغناء عن الحنين للوطن والأنين، أول شيء أقوم برسمه في لوحتها هو فتحة الفم لأني أريد رسمًا لصوت، وليس أم كلثوم كتعبير أوّلي، وإنما كتعبير ثانٍ».

امتدت محاولات تدقيق هامش الشخصية للكشف عن الجوانب المجهولة لأم كلثوم إلى فن الرواية، فطرح الكاتب لبناني الأصل “سليم نصيب” روايته عنها باللغة الفرنسية عام 1994 تحت عنوان «OUM» (الاسم المختصر المعروفة به في فرنسا، على غرار ثومة في مصر)، متناولًا تفاصيل العلاقة الرومانسية بين “أم كلثوم” وشاعرها المفضل “أحمد رامي” الذي ظهر كشخصية متخيلة تروي أحداث الرواية التي ترجمها “بسام حجار” إلى العربية تحت عنوان: «كان صرحًا من خيال».

وقرر الكاتب الصحفي “محمد بركة” في رواية «حانة الست: أم كلثوم تروي قصتها المحجوبة»، والصادرة عام 2021، استدعاءها من باب مغاير، وذلك في قالب روائي كسيرة متخيلة تكسر جميع تابوهات المتن العام المعهود عنها، فقد كُتبت بضمير المتكلم على لسان شخصية «أم كلثوم المتخيلة»، عبر إعادة نسج حكايتها، وسرد تفاصيل مسيرتها الفنية من زوايا مهجورة لم يتطرق إليها كتّاب كثيرون، بعيدًا عن قداسة هالة كوكب الشرق. فقالت شخصيتها المتخيلة ضمن فصول الرواية:

«لا أعرف متى تتوقفون أنتم المصريين عن تأليه البشر».

أم كلثوم وقصتها المحجوبة

في رواية «حانة الست» قدّم “محمد بركة” رؤيته للذات العميقة والدواخل النفسية لشخصية كوكب الشرق من وجهة نظره، وفقًا لنمط «الخيال التاريخي»، والذي يعمل على استخدام التشابك بين ما هو حقيقي وما هو تخييلي، كما لو كان يتبع منهجية الكاتبة الأمريكية “جوان ديديون” في فن الكتابة حينما قالت:

«الكتابة هي فعل أن تقول أنا. أن يفرض المرء نفسه على آخرين، أن يقول: استمعوا لي، انظروا إلى الأمر بطريقتي، غيّروا آراءكم».

جاءت الرواية كمن يزرع الألغام في طريق القارئ، كلما انفجر لغم فتح بابًا مثيرًا للجدل وإعادة التفكير في رواسخ المتن العام المعهود عن الست، تارةً بالحديث عن جنسانية أم كلثوم مرة أخرى، ثم التطرق إلى علاقاتها الغرامية وزيجاتها المتعددة، وتارةً بتناول جوانب الأنانية والانتهازية والتملق للسلطة في شخصيتها، بعيدًا عن تأليه شخصية كوكب الشرق أو حتى تقديسها، أو بمعنى أكثر دقةً، بعيدًا عن أجواء «الأدب الأخلاقي».

تقوم حبكة الرواية على زيارة شبح أم كلثوم الكاتب لتملي عليه مذكراتها بنفسها، فتشعر بأن الست تجلس طواعيةً على كرسي الاعتراف لتفرغ أفكارها أمام كاتب سيرتها وتطلعه على هامش الحكاية، ويظهر الجزء التاني من عنوان الرواية «أم كلثوم تروي قصتها المحجوبة»، فنجدها تقول ضمن سياق زيارتها المتخيلة للكاتب:

«ستكتبني بحب، فلا تخش أحدًا، قل لمن قد يلومك: عظمة أم كلثوم الفعلية تتجلى عبر اكتشاف الحقائق الخاصة بحياتها، وليس بإضافة مزيد من الأساطير، قل: يا قومي، آن الأوان أن نحبها بطريقة جديدة عبر اكتشاف إنسانيتها».

فكان البطل الحقيقي في رواية «حانة الست» هو التناقضات الإنسانية في حياتها الشخصية بمعزل عن المتن العام المعهود عنها، في خلفية أحداث مسيرتها الفنية الفوارة بالمواقف والشخصيات، كإنسانة من لحم ودم بعيدًا عن الهالة المقدسة لكوكب الشرق. فنجد شخصية “أم كلثوم المتخيلة” تقول:

«لقد تحولتُ إلى تمثال من شمع يقدسه الجميع، هرم من الكريستال ينتصب شامخًا على البعد دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه واختبار ملمسه، لا ذرة تراب، لا سطر شخبطة على الورق المصقول. بعد كل هذه السنوات على صعودي لم تعد تلك الصيغة مريحة، جاء جيل مختلف متمرد، لن يحبني إلا إذا رأى ضعفي، وتحسّس هشاشتي، وعاين على الطبيعة إنسانيتي».

صراع البحث عن الذات العميقة لكوكب الشرق

هكذا نجد أن تعدد الرؤى وتمثلات أم كلثوم في الإنتاج المختلف للكتّاب المهتمين بتاريخها الشخصي والمهني يشير إلى أنها صوت بألف وجه، يحتاج إلى الوقوف على سر استثنائية الخروج من القوالب المحفوظة للوجه أو المتن العام لها، واقتحام الجوانب الخفية لهامش الشخصية، لعلنا نصل إلى إجابة شافية.

فقد كان للست أوجه عدة تختلف عن الوجه الجاد الصارم المعتاد في ظهورها ضمن سياقات المتن العام، كما لو كانت تستدعي نظرية عالم النفس الأمريكي “كارل روجرز” عن الذات الإنسانية التي تحمل عدة تناقضات، وتنقسم بين مفهوم الشخص لصورته المدركة كما يتصورها هو عن نفسه، وصورته الاجتماعية كما يتصورها في عيون الآخرين، فيتفاعل معهم بناءً عليها، وتطلعه على صورته المثالية التي يرنو إلى تحقيقها.

يترجم هذا في الشعور بشيء من «الاغتراب النفسي»، والذي قدمه “إيريك فروم” كحالة لا يشعر فيها الفرد بأنه ليس المالك الفعلي لذاته وطاقته النفسية، بل يشعر بأنه كائن هش ضعيف، يستند كيانه الوجودي إلى قوى خارجية أخرى لا تمت بأي صلة لذاته الحقيقية. وهو ما فسره الدكتور “مصطفى محمود” بشكل أكثر تبسيطًا في كتابه «لغز الموت» حينما قال: 

«العرف والتقاليد والأفكار الجاهزة تطمس الأشياء المبتكرة فينا، وتطمس الذات العميقة التي تحتوي سرّنا وحقيقتنا. ونمضي في الناس وقد لبسنا لهم نفسًا مستعارة من التقاليد والعادات لنعجبهم، وتتكون عندنا بمضي الزمن ذات اجتماعية تعيش بأفكار جاهزة وعادات وراثية ورغبات عامة لا شخصية».

وهو ما يتفق مع شهادات المقربين منها، واللغة نفسها التي استخدمتها أم كلثوم في أثناء تسجيل مذكراتها الشخصية في الإذاعة مع “وجدي الحكيم”، عندما تحدثت عن ذكرياتها مع طبق المهلبية، والمنديل المحلاوي الذي استبدلت به منديلها الحريري الشهير، وتنقلنا إلى عالم متضارب الأمواج من صراعها النفسي مع ذاتها، ومع ذوات الآخرين، وحروبها مع أباطرة الفن والصحافة والسلطة حينها.

يمكن أن نرجع صراع تعدد الرؤى في الكتابة عن “أم كلثوم” بين المتن العام والهامش إلى عدم تطابق ثالوث كتابة فن السير: (المؤلف – السارد – الشخصية) والقدرة على التوليف بين الذات العميقة وتاريخها الشخصي، وذلك وفقًا لنظرية لناقد الفرنسي “فيليب لوجون” (Philippe Lejeune).

“الست” لم تدوّن قصة حياتها إلا عبر مقالات معدودة، تناولت فيها فترات محدودة من حياتها، إضافةً إلى تسجيل إذاعي وحيد ركزت فيه على طفولتها. بالتالي، فجميع ما صدر من كتب سيرة عنها نتاج اجتهادات بحثية قام بها الغير من الأكاديميين والمختصين ورجال الصحافة والكتابة والأدب، في محاولة للتنقيب عن الذات العميقة لأم كلثوم والتعمق في قراءة الهامش الخاص بشخصية مؤثرة في الوجدان الجمعي بثقلها الفني ومكانتها التاريخية الفريدة.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل يمكن النظر إلى كل هذه الإصدارات باعتبارها إنتاجًا جامعًا ومانعًا، تضع نقطة النهاية في رحلة التنقيب عن سر عبقرية “أم كلثوم” والتأريخ المدون لها بين المتن والهامش؟ 

في الواقع يجب أن تكون قراءتها جميعًا باعتبارها طريقة سرد الكاتب لقصة حياة الشخصية الأكثر استثنائية في تاريخ الفن، وفقًا لمخيلته ولغته وأسلوبه وأدواته الخاصة في البحث والتنقيب داخل الأرشيف الشخصي والمهني لأم كلثوم، ولا ينظر إليها كوثيقة تاريخية، وبصفة خاصة الإنتاجات الروائية منها، فالكتابة الروائية في حد ذاتها لا تسجل التاريخ، فهذا ليس دورها، بل تستوجب الابتكار والتخيل الإبداعي، وليس الاعتماد الكلي على الأحداث الحقيقية، وإلا فقدت عنصرها الفني الإبداعي، وتحولت إلى مادة تقريرية خاوية من دون روح.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter