أنت تقرأ الآن:

كيف أصبح الإدمان على استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي مخدرًا من نوع جديد يوازي الكوكايين في قوته؟

كيف أصبح الإدمان على استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي مخدرًا من نوع جديد يوازي الكوكايين في قوته؟

إذا كنت لاحظت في وقت ما أنك لا تستطيع الاستغناء عن متابعة ما يكتبه أصدقاؤك، أو حتى أناس لم يسبق لك أن رأيتهم في حياتك، من آراء بشأن قضية ما على تطبيق فيسبوك، أو صورهم التي يشاركونها عن آخر رحلة سياحية على تطبيق إنستغرام، أو الفيديوهات المرحة التي سجّلوها مع أطفالهم على تطبيق تيك توك، ثم أخذت في الاعتبار أن هذه الممارسات غير صحية، وقررت أن تبتعد ولو لساعات قليلة عن المتابعة، فالأغلب أنك ستصاب بالاكتئاب، وستكتشف أن إقبالك عليها يبدو إقبالًا على نوع من المخدرات.

الحقيقة كالتالي: كلنا مدمنون على متابعة مواقع التواصل بدرجة أو بأخرى. نحن نبحث عن تواصل سريع مع الآخرين، ونفتش عن الاهتمام، ونتشوّق إلى قبول الآخرين لما نقوله مع كل أشكال التواصل عبر شاشات هواتفنا، حتى أصبحت كل ثانية تمر خلال يومنا تحفزنا على فتح إحدى تلك التطبيقات، لتشتت تفكيرنا عما كان يجب علينا أن ننجزه من مهام. ومنذ بداية انتشار فيروس كورونا وتطبيق إجراءات الإغلاق والتباعد الاجتماعي، ازداد الإقبال على استخدام تطبيقات التواصل لتبديد الشعور بالوحدة لتحل محل التفاعلات الاجتماعية اليومية، سواء بحثًا عن الرفاهية، أو أدوات لتسهيل التواصل مع الآخرين في أثناء العمل أو الدراسة من المنزل.  

الإشكالية هنا ليست في إثبات أن متابعة تحديثات تطبيقات التواصل إدمان، لكنها تكمن في أن تلك المتابعة المستمرة تتدخل بشكل كبير في حياة الفرد وقدرته على الإنجاز، وبالتالي، فإن التأثير يشكّل حياته. 

كيف يحدث ذلك؟ قبل الإجابة عن السؤال يجب أن نفهم أن مادة الدوبامين التي يفرزها جسم الإنسان هي الهرمون المسؤول عن الشعور بالرضا والسعادة عن طريق تحفيزنا لإنجاز مهمات نعتقد أنها ستجلب إلينا المتعة. وبالتالي كلما زاد إفراز الدوبامين زاد الإقبال على الشيء واستمراريته. 

الجدير بالذكر أنه بمجرد الانتهاء من فعل ما يحفز هذا الهرمون يتراجع إفراز الدوبامين. وعند الإفراط في استخدام الوسيلة نفسها للحصول على المتعة يقلل الدماغ إفراز مادة الدوبامين، أي تصبح هذه الوسيلة أقل متعة، فيلجأ “المدمن” إلى الاستمرارية في فعل الشيء نفسه بهدف استمرار إفراز الدوبامين ليحصل على متعة أكبر.

كيف يعمل الدوبامين في جسم الإنسان؟

ما يحفز تصرفاتنا كبشر يمكن تقسيمه إلى نوعين: الأول هو ما يجعلنا على قيد الحياة مثل الطعام والنوم وتجنّب ما يؤلمنا، والثاني ما يدفعنا للتعلم يصاحبه مشاعر ممتعة مثل حدث أو نشاط تصنّفه أدمغتنا باعتباره مكافأة، ثم تحسب قيمة هذه المكافأة وتترجمها إلى أفعال، وهو ما يُعرف في دائرة الدماغ بـ”نظام المكافأة”. 

عندما  نتوقع الحصول على مكافأة تنشط الخلايا العصبية، حيث تنتج هرمون الدوبامين الذي يعمل كناقل عصبي مهم بين الخلايا العصبية في الدماغ وبقية الأعضاء، وللنواقل العصبية دور رئيس في تحفيز أو منع نشاط عضو معين من أعضاء الجسم. كذلك يعزز الدوبامين الذكريات المتعلقة بالمكافأة مقويًّا مركز التعلم والذاكرة ومناطق التخطيط في الدماغ، وبذلك يخلق ارتباطات عاطفية بالأنشطة المماثلة، وبالتالي، فإن التأثير يصبح أقوى، ليس عند الحصول على المكافأة نفسها، بل عند توقعها. 

إذن كيف تحدث عملية التعلم بالمكافأة؟ عندما نقوم بشيء جديد نراه مثيراً وغير متوقع  ترتفع إشارات الدوبامين مترقبةً المكافأة، لتواصل ارتفاعها إذا ما كانت المكافأة أكبر من توقعاتنا، ما يجعلنا نقدم على هذا الفعل مراراً، أو تنخفض إذا كانت المكافأة أقل من المتوقع، فنقلل من فعل ما لا يحفزنا.
أما توقع المكافأة بشكل صحيح، فلا يُغيّر في إشارات الدوبامين، ما يعني أننا لم نتعلم أي جديد. وتختلف استجابات الدوبامين من شخص إلى آخر، كذلك تتغير مع التقدم في العمر، فقد يُقدم المراهق على التصرف بشكل أكثر خطورة لأن دماغه لا يزال في مرحلة النضج، وأكثر ميلًا للبحث عن قبول الآخرين.

آلية عمل الدوبامين مهمة في عملية التحفيز على التعلم، لكنها تصبح مضرة في حالة الإدمان الذي يعتمد أيضًا على نظام إفراز نفس الهرمون. على سبيل المثال، فإن إدمان مخدر الكوكايين  أو لعب القمار يفرز الدوبامين، ليس فقط بعد تناول المخدر أو كسب الأموال، بل أيضا في أثناء توقع المكافأة، أي خلال الثواني القليلة قبيل استنشاق المخدر أو عند دوران عجلات لعبة القمار ترقبًا لظهور النتيجة التي صُمّمت عمدًا بتلك الطريقة.  

كيف تعمل تطبيقات التواصل الاجتماعي؟

تطبيقات التواصل الاجتماعي تعتمد بشكل كامل على الاستفادة من الدوائر العصبية عينها التي تستخدمها ألعاب القمار ومخدر الكوكايين لضمان إقبالنا المتواصل لها، مستغلةً سلوك المستهلك. فغير المتوقع والمفاجئ سمة مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث لا يمكن للمستهلك أن يتوقع ما إذا كانت النقرة التالية ستجعله يبتسم ويضحك من كثرة التعليقات والإعجابات والأخبار السعيدة، أو ستجعله يغرق في حزن وشكٍّ في نفسه وغضب من تلقيه القليل من التعليقات والإعجابات وكثيرًا من الأخبار السيئة. إنها حقًّا لعبة قمار مصغرة في متناول أيدي الكبير والصغير. ومع توفّر تطبيقات التواصل مجانًا، والتي تعتمد في أرباحها على أموال المعلنين، فالمستهدَف دائماً هو اهتمامك ووقتك، والهرمون الذي ينشّط نظام المكافأة في دماغك. 

على الرغم من أن تأثير استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي أقل من تأثير ألعاب القمار من حيث الأثر الكيميائي على الدماغ، فإن التطبيقات تستخدم الميزة العصبية ذاتها التي يستخدمها مالكو الكازينوهات، وهي الترقب الشديد خلال اللحظات الفاصلة بين اللعب والنتيجة بهدف زيادة نشاط مادة الدوبامين في الدماغ، مع الحفاظ على التوازن بين الخسارة والمكسب التي تجعل أدمغتنا مشغولة طول الوقت لأن الحصول على نتائج سلبية قد يجعلنا نفقد الرابط بين القيام بهذا النشاط وإفراز الدوبامين. 

وعند تطبيق تلك المعادلة على مواقع التواصل نستخلص التالي: نحن نكتب آراءنا أو نشارك صورنا، ثم نترقب الإشعارات التي تحمل ردود الأفعال المتباينة بين مؤيد ومعارض، فنستمر في استخدام تلك التطبيقات بحثًا عن القبول الاجتماعي لدى الآخرين، أو إلى الدفاع عن آرائنا إن كان هناك من يعترض عليها. 

نتيجة لذلك نستمر في استخدام تلك التطبيقات، متوقعين استقبال مكافأة، مع الوضع في الاعتبار مجانية استخدام التطبيقات وقتما أردنا، فيشكل ذلك حافزًا آخرا أكثر جاذبية. 

هذا النمط  يسمى “التعزيز المتقطع”، أي منح مكافأة من وقت إلى آخر بدلًا من الحصول عليها في كل مرة، زيادةً للتشويق، لأنك لا تعرف متى ستحصل على المكافأة. فإن كنت ستفوز أو تخسر كل مرة، فأين متعة اللعب؟ هذا دور اللوغاريتمات.

وتعتمد تطبيقات التواصل على توطيد فكرة عدم تفويت الأحداث الاجتماعية للآخرين والرغبة الدائمة في معرفة التجارب الإنسانية ليصبح الخوف من عدم مواكبة الأحداث نوعًا من أنواع القلق المتعارف عليها والمنتشرة بشكل كبير بين رواد هذه التطبيقات التي تطلعنا على الأحداث التي كان يمكن أن تفوتنا إذا ما قورنت بالحياة الاجتماعية الحقيقية، فتحفز مشاعر عدم الكفاءة والوحدة والقلق من خلال إضفاء مشاعر زائفة بالمشاركة، كأنه تواصل طبيعي، لنغرق بعدها في سيناريوهات متخيلة نقارن فيها أنفسنا بالآخرين، ما يقلل من ثقتنا بأنفسنا وتقدير الذات، حيث نشعر بأن الآخرين ينجزون أكثر مما ننجزه نحن عند المقارنة بين الصورة المثالية التي يشاركها الآخرون، والحقيقة الواضحة التي نعيشها.

تحوّل استخدامنا لتلك التطبيقات إلى واجهة لتقديم نسخة أفضل وأمثل لنا، غير حقيقية أو موجودة في غالبية الأحيان، كي نكون أكثر جاذبية للآخرين. وإن وجدت بشكل جزئي، فالصورة التي نُصدّرها هي الجزء الأمثل من الحقيقة.

رحلة البحث عن حلول

محاولات الظهور بالصورة المثالية أو تشتيت الانتباه عما كان يجب أن ننجزه من عمل حقيقي كي نتابع ما يفعله الآخرون ليست فقط النتيجة التي قد يترتب عليها الاستمرارية في متابعة منصات التواصل الاجتماعي بشكل متكرر ظناً منا أن هذا سيبهجنا، بل إن هذا الهوس بالشعور الفوري بالرضا والسعادة يجعل الدماغ يتنازل عن مهمته الطبيعية في التخطيط للمستقبل ومهارة حل المشكلات، ليُجبَر على تفسير المشاعر المفرطة طوال الوقت، أو ليدفعنا إلى الهروب من صعوبة الحياة اليومية إلى سهولة تطبيقات التواصل كطريقة لمساعدتنا على مواجهة مشكلة ما في الحياة الاجتماعية أو العملية، ما يجعلنا أقل قدرة على مجابهة الإحباط والألم، والتعامل مع مشاعرنا، سواء الإيجابية أو السلبية، فنصبح أكثر هشاشة في معالجة المشاعر الحزينة، لاهثين دومًا وراء الشعور بالبهجة والمتعة اللحظية.

تقول الدكتورة آنا ليمبك، رئيس عيادة طب الإدمان للاضطرابات المتزامنة بجامعة ستانفورد، إن الحل للقلق الذي يصاحب تقليلنا استخدام منصات التواصل هو الإرادة القوية في الاستمرار في هذا الابتعاد لفترات بهدف استعادة ضبط مسارات عقولنا ومعرفة تأثير اعتمادنا على هذه التطبيقات، كي نستوعب كيفية الاستمتاع بها بطريقة معتدلة. فالأفضل تحديد أوقات معينة خلال اليوم أو أيام العطلة الأسبوعية لتصفّح هذه المواقع لنعود تدريجيًّا لاستخدامها باعتدال، فمن الأسهل الانتقال من الحرمان إلى الاستخدام المعتدل أكثر من الانتقال من الاستخدام المفرط إلى الاعتدال. 

قد تأخذ تلك المرحلة كثيرًا من الوقت، لكنها تستحق المحاولة، حيث أكدت الدراسات العلمية أهمية راحة العقل بين الأنشطة المختلفة لضبط التزامن بين الأجهزة المختلفة من العقل بسبب اختلاف إيقاعها، كي يقوى العقل على خلق أفكار إبداعية والشعور بالصحة النفسية. ونصحت الدكتورة آنا باستبعاد تطبيقات التواصل وممارسة أنشطة أخرى تُنتج مادة الدوبامين في عقولنا لنحصل من خلالها على متعة تدوم بعد القيام بها، كالجري أو التحدث إلى شخص ما أو قراءة كتاب شيق.

هجر تطبيقات التواصل أو تنحية الهاتف جانبًا في أثناء أوقات العمل أو خلال مشاهدة فيلم يعجبك أو استخدام برامج تمنع الاشعارات المفاجئة للتطبيقات ليست مهمة سهلة. على الرغم من أن الإدمان على استخدام تطبيقات التواصل ليس معترفًا به رسميًّا كاضطراب، أي إنه لا يزال مستبعَدًا في التصنيف الرسمي للأمراض والاضطرابات العقلية، فلا توجد معايير تشخيص رسمية في التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض والمشكلات المتعلقة بالصحة، وهو تصنيف تقوم منظمة الصحة العالمية بنشره على أساس الأعراض والعلامات والمسببات للأمراض. فإن بعض الأبحاث تؤكد أن الاعتماد على تطبيقات التواصل يضر بالصحة العقلية ويسبب الاكتئاب والقلق عند الاستخدام المفرط لها.

إذن، فالمعادلة المثالية هي استغلال فرص التواصل التي أتاحتها تطبيقات التواصل الاجتماعي التي يمكن الاستفادة منها لتوطيد العلاقات مع الآخرين، بالتوازي مع التعلم من خلال تجاربنا مع العالم الواقعي، إضافةً إلى تخصيص وقت للتفكير والتأمل في مشاعرنا الحقيقية لمساعدتنا على بناء علاقات حقيقية أقوى مع الناس، وهذا كله منوط بقوة إرادة كل فرد منا.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter