أنت تقرأ الآن:

إيمانويل ماكرون: عن الشخصية الفردية كمحدد للسياسة

إيمانويل ماكرون: عن الشخصية الفردية كمحدد للسياسة

محمد صلاح عبد الرازق

تتعدد محددات صياغة السياسة الداخلية والخارجية للدول ما بين عوامل اقتصادية وتاريخية وجغرافية وغيرها، ولكن تبقى القيادة السياسية أحد أهم محددات العملية السياسية بالرغم من رفض عدد من التحليلات إحالة مخرجات العملية السياسية إلى متغيرات السلوك الإنساني الفردي، وبخاصة في الديمقراطيات الكبرى نظرًا للمؤسسية والثوابت الراسخة. 

وبالرغم من تفاوت حجم تأثير شخصية القائد من دولة لأخرى استناداً إلى عدد من العوامل المحيطة، فإنه يبقى عاملًا ذا ثقل كبير لا يمكن إنكاره. فالتاريخ ما هو إلا مسار لأحداث كبرى ومنعطفات عظمى ناتجة عن قرارات مصيرية اتخذها حكام أقوياء أو تخاذل عنها آخرون ضعفاء، فتصبح شخصية القائد السياسي مدخلًا هامًّا لفهم التوجهات السياسية لأي دولة وموقعها من التفاعلات الدولية. 

فهل يمكن مثلًا النظر إلى التحولات الحالية التي تشهدها فرنسا في تفاعلاتها الخارجية وموقعها من النظام الدولي انطلاقًا من الدور الذي لعبته شخصية الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون كعامل أساسي في صياغة علاقات بلاده بالخارج؟ يحاول هذا المقال أن يدافع عن هذه الفكرة.

ماكرون.. موتسارت الإليزيه

ولد إيمانويل ماكرون عام 1977، كان ذكيًّا بشكل ملحوظ، ومحظوظ بشكل غير طبيعي، لديه كبرياء بطريقة مبالغ فيها لا تتناسب مع قدراته، إلا أن أهم ما ميز الصبي عن أقرانه أنه كان يفضل قضاء الوقت مع كبار السن بدلًا من الأطفال، وكان يحرص على تكوين علاقات متساوية معهم.

كان سلوك ماكرون منذ الصغر غريبًّا، مثيرًا للانتباه، يكوّن صداقات مع البالغين، يتناول العشاء مع معلميه ومديري مدرسته، لم يكن يتصرف أو يتحدث كمراهق، وكان شديد الحرص على مظهره، بدا كأنه يسعى للكمال، لم تكن نوايا الصبي تخلو من حب الظهور، كان لديه في سن مبكرة شعور بمصيره الخارق للطبيعة يقابله إصرار على الحصول على ما يريد.

ولعل ما قام به ماكرون الصبي ذو السابعة عشر مع معلمته لمادة الدراما بمدرسة “اليسوعيين” تفضح طموح الصبي الوصولي، وتكشف طموحه بعيد المنال، فقبل مغادرته إلى باريس لاستكمال دراسته، أبلغ مدرسة الدراما “بريجيت ترونيو” أنه سيتزوجها يوماً ما، وكانت بريجيت تبلغ من العمر 39 عامًا حينما وقع ماكرون في حبها، وتزوجها بالفعل بعد عشر سنوات في عام 2007.

هذا التقارب لكبار السن جعله يؤسس علاقة وثيقة مع “جاك أتالي”، مستشار الرئيس الفرنسي السابق “فرانسوا ميتران”، وبتوصية من أتالي انضم ماكرون إلى “بنك روتشيل”، وسرعان ما ترقى الشاب في صفوف البنك ليصبح شريكًا إداريًّا، ثم مليونيرًا، وبات الشاب نبيلًا أرستقراطيًّا.

في مايو 2012 تم تعيين ماكرون نائبًا للأمين العام في قصر الإليزيه الرئاسي، وهو منصب كبير في القصر الرئاسي الفرنسي، وبعدها بعامين، وفي سن 37، تم تعيينه وزيرًا للاقتصاد ليكون بذلك أصغر وزير للاقتصاد في تاريخ فرنسا، لكنه كان يسعى لكسر رقم قياسي أهم، أن يكون أصغر رئيس في تاريخ بلاده، وباتت الحياة لماكرون سمفونية أسطورية يعزفها “موتسارت الإليزيه” كما أطلق عليه الصحفيون.

الوصول السهل إلى الرئاسة

على الرغم من أن ماكرون كان يبلغ من العمر ما يقرب من 40 عامًا حين انتخب رئيسًا لفرنسا، فإنه كان طفلًا مدللًا من ساسة باريس المخضرمين. ففي منتصف مايو من عام 2017 انتخب الفرنسيون إيمانويل ماكرون رئيسًا لهم، في أكثر الانتخابات إثارة للدهشة في فرنسا الحديثة. أكد المراقبون أن فوزه أمر مستبعد وغير متوقع، إلا أن الشعب الفرنسي كسر عادته الإنتخابية، فقبل وصول ماكرون للحكم كان الفرنسيون ينتخبون صقور العمل العام، يختارون الرؤساء من أروقة الأحزاب والوزارات السيادية، تقع أعينهم على العجزة السياسيون الذين تتشابك تجاربهم مع آمال الشعب وتاريخ الوطن، يتعمدون أن يكون قائدهم شخصية كاريزماتية موهوبًا في التواصل معهم، وزعيمًا سياسيًّا يرسم مسار أمتهم.

ماكرون هو المكافئ الفرنسي لترامب. كان اختياره من الناخبين ليس اقتناعًا به كسياسي مخضرم، وإنما خوفًا من البديل اليميني المتطرف، وهربًا من السياسي التقليدي، ورغبةً في تجديد دماء السياسة الفرنسية، ما جعل انتخابه يبدو حتميًّا، وهكذا جلس المصرفي الشاب في مكان “ديجول” ليكون أصغر رؤساء فرنسا سنًّا، وليحل سياسيًّا شابًّا في أرض النبلاء السياسيين ذوي الشعر الرمادي المصبوغ.

سعى ماكرون لتوظيف سلوكه الوصولي الانتهازي مع الشعب. فقد حاول تبجيل الطبقة المتوسطة وتملّقها، لكنه لم يكن قادرًا على التواصل مع الطبقة العاملة. سعى للعب دور القائد الشعبوي، لكنه فشل، وسقطت صورته الذهنية لدى الفرنسيين بأنه شاب صغير سوف يجلب نسمة من الهواء النقي للسياسة الفرنسية ويسعى بصدق إلى إصلاحات اقتصادية، واستصغره الفرنسيون، وتجلى استهتار الشعب له في حوادث الصفع المكررة التي تعرّض لها أمام الجموع، والتي كان آخرها في منتصف العام الحالي، حيث قام شاب بصفع الرئيس على وجهه في أثناء ترحيبه بحشد في سياق إجرائه جولة جنوب البلاد، هاتفًا: “تسقط الماكرونية”.

الرئيس المهزوز 

شهدت فرنسا من الداخل منذ بداية الحقبة الماكرونية حالة من التفاعلات الاجتماعية والتغيرات السياسية بشكل متصاعد ومركّب، فبعد عام من تولّي ماكرون الرئاسة تم تشكيل حركة “السترات الصفراء” المطالبة بالعدالة الاقتصادية، وبحلول نهاية عام 2019 بدأت سلسلة أخرى من الاحتجاجات ضد الرؤية الاقتصادية للرئيس، وفي العام الحالي شهدت فرنسا أزمة سياسية بأبعاد دولية، حيث خرج مئات الآلاف من المسلمين في جميع أنحاء العالم يردون على الرئيس الفرنسي وينتقدون دفاعه عن الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد، وخططه لتنظيم طريقة ممارسة المسلمين في فرنسا، بل وصل الأمر إلى حد رد رؤساء الدول الإسلامية على ماكرون منتقدين تعاطيه مع الأزمة بشكل تغافل حقوق المسلمين وغيرتهم الدينية.

وفي الآونة الأخيرة تعرّضت حكومته لضغوط بسبب تعاملها مع جائحة فيروس كورونا، وحاول مجموعة من الحقوقيين مقاضاة رئيس الوزراء “جان كاستكس” بسبب سياسته الخاصة بمواجهة الجائحة، والتي قالوا إنها أعطت الأولوية للاقتصاد على الصحة العامة.

وخارجيًّا لم يختلف الأمر كثيرًا، حيث ينظر قادة العالم إلى ماكرون باعتباره “رئيسًا ضعيفًا ومهزوزًا”، وما لفرنسا من قوة حضور في وجوده، فعلاقته معهم ليست علاقة متكافئة، فأمريكا التي كان ينظر إليها باعتبارها حليفًا تقليديًّا للفرنسيين أدارت ظهرها للرئيس الشاب الجديد، فيما انفردت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بزعامة القارة العجوز بعد أن كانت تتقاسمها مع رجل فرنسا الأول، وتصدرت المشهد الأوروبي باعتبارها زعيمة موثوقة ومطّلعة جيدًا ومتمكنة بهدوء من إدارة التسويات وبناء توافق في الآراء بين شركاء الاتحاد الأوروبي، في تهميش واضح لباريس ماكرون.

أما بريطانيا التي كانت تعيش حالة من الفوضى والتعثر على خروجها المؤلم من الاتحاد الأوروبي، فكانت أكثر الدول التي تنظر لماكرون نظرة تكبر واستعلاء، ولعل صورة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في أثناء لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أول زيارة له لباريس خير مثال على الاستعلاء البريطاني، حيث وضع الأول قدمه على طاولة الثاني في مشهد أثار غضب الفرنسيين على رئيس الوزراء المتغطرس ورئيسهم الضعيف على حد سواء.

لكن الصفعة الأخيرة والأقوى التي تلقاها ماكرون، وعكست بشكل كبير اهتراء صورته ومكانته بين زعماء العالم، فكانت إلغاء أستراليا اتفاق صفقة غواصات مع فرنسا والإعلان في نفس اليوم عن صفقة بديلة مع الولايات المتحدة وبريطانيا، الأمر الذي عدته فرنسا خيانة للثقة، والذي عده المتابعون للمشهد حلقة جديدة في سلسلة سقوط فرنسا ماكرون من هرم زعماء العالم. 

سقوط الماكرونية

لم ينعكس حضور ماكرون الضعيف على علاقاته في المحيط الغربي فقط، وإنما امتد أيضًا إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث مناطق نفوذ تاريخية لفرنسا، وباتت تخسر قلاعها التقليدية، وبشكل خاص في إفريقيا. ولعل أبرز مظاهر الخفوت الفرنسي في إفريقيا هو أزمتها الأخيرة مع الجزائر على خلفية تصريحات غير محسوبة أدلى بها ماكرون بأن الجزائر لم تمتلك أمة موحدة قبل الاستعمار الفرنسي لها، وجاء الرد الجزائري قاسيًّا باستدعاء سفيرها في فرنسا، وغلق المجال الجوي أمام الطائرات الفرنسية العسكرية. 

بالاتجاه نحو الجنوب الغربي قليلًا أطلق الرئيس ماكرون تصريحات شكك فيها في شرعية مؤسسات الجمهورية في دولة مالي، ما أدى إلى سحب مالي سفيرها في فرنسا احتجاجًا على هذه التصريحات. وتهدد سياسة الرئيس المتهورة إزاء إفريقيا بزعزعة النفوذ الفرنسي في القارة السمراء التي تعد ظهيرًا عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا تستند إليه فرنسا كقوة دولية عظمى.

ولم تقتصر الأزمات على إفريقيا، بل في الشرق الأوسط تشهد علاقة فرنسا بتركيا توترًا كبيرًا نتيجة المناوشات بين الرئيس ماكرون والرئيس التركي رجب أردوغان بعد هجوم ماكرون الدائم على سياسة أردوغان في عدد من الملفات المتقاطعة بين البلدين، وهو الذي دفع أردوغان إلى التشكيك في صحة ماكرون العقلية، والدعوة إلى مقاطعة البضائع الفرنسية. وبالرغم من عودة العلاقات بين تركيا وفرنسا إلى التحسن، فإن أردوغان وماكرون لا يزالان خصمين عنيدين. 

وفي النهاية يمكن القول إن وصول الرئيس ماكرون إلى سدة الحكم في فرنسا صاحبه إخفاقات كبيرة لفرنسا في الخارج، كانت شخصية الرئيس التي انعكست على صياغة توجهات بلاده عاملًا رئيسًا لها.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter