المدونة السبرانية: هل تهدد إبداع البشر؟ Nuqta Doc منذ 3 سنوات محمد سمير مصباح “أنت حطمت روحي عصارة الأبدية حيوية شفتيّ” هذه الأبيات من قصيدة غنائية يابانية بعنوان “روح” كتبها الشاعر “راي كيرزويل السبراني”، بعد قراءة قصائد لجون كيتس وويندي دينيس. هذه السطور السابقة قد لا تلفت انتباهك أو تبهرك. أعذرك في هذا، لأنك لم تكن تعلم أن كاتبها ليس بشريًّا، وإنما كتبها برنامج كمبيوتر صممه المخترع وعالم المستقبليات الأمريكي ريموند كيرزويل. أطلق على برنامجه اسم “RKCP”، أي شاعر راي كيرزويل السبراني، ومهمته استخدام تقنيات نمذجة اللغة لكي ينتج شعرًا مبتكرًا بشكل كامل. يقرأ RKCP مختارات من قصائد لشاعر معين أو مجموعة شعراء، فينتج نموذج لغة من أعمال هذا الشاعر معتمدًا على نماذج “ماركوف” التي يمكن من خلالها الوصول إلى تنبؤات ونتائج مستقبلية عدة بناءً على حدثٍ ما أو معطياتٍ محددة. ويستخدم خوارزمية تكرارية لتوليد الشعر على نحو يمكّنه من الوصول إلى أسلوب لغة وأنماط إيقاع وبنية قصيدة تشبه المؤلفين الأصليين الذين تم تحليل قصائدهم، وبالتالي يكتب البرنامج قصائد مبتكرة مستوحاة من روح القصائد الأصلية أو من أسلوب الكاتب أو الكتاب الذي تم تحليله، إضافةً إلى تزويد النظام بقواعد صارمة تمنعه من انتحال أعمال غيره. بدايات السبرانية ظهرت السّبرانية كعلمٍ حديث في بداية أربعينيات القرن العشرين. عندما نشر “أرتورو روزنبلوث” و”نوربرت وينر” و”جوليان بيجلو” مقالًا بعنوان “السلوك والغرض والغائية” (1943)، والتي كان هدفها الرئيس تحقيق الدراسة السلوكية للأحداث الطبيعية وتصنيف السلوك وتأكيد أهمية مفهوم الهدف. كانت نتيجة هذا البحث وغيره من التجارب والأبحاث، هي مفهوم التكرار الذاتي، والذي تبناه علم التحكم الآلي “السبرانية” كمفهوم أساسي. من وقتها سارت السبرانية في علاقات متبادلة بين البشر والآلة. جاءت الخطوة الأولى للأمام من الآلة إلى الكائن الحي، حيث تم نقل أفكار التغذية الراجعة والنهائية (Feedback) من واحد إلى آخر، وفتح الطريق للأتمتة (Automation) وأجهزة الكمبيوتر. في الخمسينيات، كانت العودة من الكائن الحي إلى الآلة مع ظهور المفاهيم المهمة للذاكرة والتعرف على الأنماط، والظواهر التكيفية والتعلم، والتطورات الجديدة في علم الإلكترونيات، مثل: (محاولة بناء آلات إلكترونية تحاكي وظائف أعضاء معينة من الكائنات الحية، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات). وبعد ذلك كانت هناك عودة أخرى من الآلة إلى الكائن الحي، أدت إلى تسريع التقدم في علم الأعصاب والإدراك وآليات الرؤية في الستينيات، وشهد معهد “ماساتشوستس للتكنولوجيا” امتداد السبرانية ونظرية النظام ليشمل الصناعة والمجتمع والبيئة. عالم الرياضيات الأمريكي «نوربرت وينر»، وعالم الفسيولوجيا العصبية «وارن ماكولوتش»، والمهندس وعالِم الحاسب الآلي «جاي فوريستر»، أهم موسسي علم التحكم الآلي أو السبرانية. علم التحكم الآلي نظام يدرس الاتصال والتحكم في الكائنات الحية والآلات التي بناها الإنسان. هناك تعريف أكثر فلسفية اقترحه عالم الرياضيات الفرنسي «لويس كوفجنال» في عام 1958، يعتبر فيه السبرانية “فن ضمان كفاءة العمل”. وكان «نوربرت وينر» أعاد اختراع كلمة «السبرانية» في عام 1948 من الكلمة اليونانية «kubernetes»، وتعني الموجّه أو الحاكم أو القبطان أو الدفة. استخدم أفلاطون الكلمة لأول مرة بمعنى “فن التوجيه” أو “فن الحكومة”. علم التحكم الآلي في الواقع له نفس جذر الحكومة: فن إدارة وتوجيه الأنظمة شديدة التعقيد. واستخدم مصطلح السبرانية في ما بعد بطريقة فضفاضة بمعنى “السيطرة على أي نظام يستخدم التكنولوجيا”. لوحات بروح السبرانية ما يقوم به الشاعر السبراني “كيرزويل” ينطبق على الرسام “آرون” الذي اخترعه الفنان البريطاني “هارولد كوهين”، أحد رواد الفن البصري القائم على الكمبيوتر. ينتج “آرون” أعمالًا فنية مُبتكرة تمامًا، بعد أن استغرق كوهين أكثر من ثلاثة عقود في منح برنامجه بيانات ومعلومات حول جوانب الفن المختلفة، كالتشكيل، والرسم، واللون، والمنظور، والتشريح البشري، والأسس البصرية للنباتات، مثل كون الفروع تصبح أرق بشكلٍ متزايد عندما تصبح أطول، وأساليب الفن ومدارسه المختلفة. وعلى الرغم من أن كوهين هو مبتكر هذا الفنان السبراني، فإنه كان يُفاجأ دائمًا بما ينتجه برنامجه. بدأ عمل “كوهين” بشأن “آرون” في عام 1968 بجامعة كاليفورنيا، سان دييغو. أجرى عليه عددًا من التعديلات والإدخالات ليتطور مستواه. فكما هو الحال مع أي فنان، مر نظام “آرون” بمراحل، فالأشكال المبكرة التي تشبه رسومات الأطفال تقدمت إلى شخصيات متعددة الأشكال أو أكثر تعقيدًا. تُعرض أعمال كوهين وآرون في جميع أنحاء العالم، في عشرات المعارض، وتشارك في متاحف كبرى مثل متحف فيكتوريا وألبرت ومعرض الفن الحديث في لندن، وستيديليك في أمستردام. في كتابه “عصر الآلات الروحية” يورد “ريموند كيرزويل” نماذج أخرى لمبدعين سبرانيين، مثل برنامج “بروتاس 1” الذي يؤلف قصصًا أدبية، ابتكره سيلمير برنغسغورد وداف فيراتشي، اللذان علّما برنامجهما كثيرًا من العواطف، مثل الحب والغدر والكراهية، ليؤلف قصصًا تتمحور حول تلك العواطف، وهذا ما يميزه عن بقية المبدعين السبرانيين. كذلك تحدث الكاتبان إيريك بريلوفسن وأندرو مكافي في كتابيهما “السباق ضد الآلة” الصادر عام 2011، و”عصر الآلة الثاني” الصادر عام 2014، عن قدرة الآلة على إنجاز معظم الأعمال التي تعد ممارستها دالًّا على التقدم التقني المتطور على حساب الإنسان، الأمر الذي تحدث عنه أيضًا مارتن فورد في كتابه “صعود الروبوتات”. هل بدأ سباقنا مع الآلة؟ تشير هذه الكتب وغيرها إلى أن ما يحدث في الوقت الحاضر من استخدام برامج حاسوبية أو آلات، يعد منافسة للبشر في مجالات مختلفة، ويؤكد مؤلفوها تفوق الآلة الحتمي على ذكاء الإنسان في المستقبل القريب. ولكن الغريب في الأمر هو حضور الآلة في حقل الإبداع الفني أو الأدبي الذي قد نرى أنه حكر على الإنسان، لأنه يخضع للذائقة والإحساس والمرور بتجارب نفسية وحياتية واكتساب مهارات معينة أو يحتاج إلى الموهبة التي تتفق المعاجم العربية والأجنبية على أنها الاستعداد الفطري لدى المرء للبراعة في فن أو نحوه، أو هي العطية التي يهبها الله للإنسان حتى يبرع في مجال ما. يؤكد “كيرزويل” أن تفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري لم يحدث بعد، ومع ذلك يرى أنه: “مع ظهور كمبيوترات تنافس المخ البشري وتفوقه تعقيدًا، ستظهر قدرة الآلات على فهم الأفكار المجردة”. فالتعقيد الذي يبدو على البشر يرجع إلى تضارب أهدافنا الداخلية، “فالقيم والمشاعر تمثل أهدافًا غالبًا تتعارض مع بعضها، كنتيجة حتمية لمستويات التجريد التي نتعامل معها ككائنات بشرية”. ومن وجهة نظره، عندما تصل الحواسيب إلى نفس مستوى التعقيد ثم تتجاوزه، فسيكون لها أيضًا أهداف ذات قيم ومشاعر ضمنية، لن تشبه بالضرورة القيم والمشاعر نفسها الموجودة لدى البشر. وبالتالي من المتوقع منها وقتها القيام بالأعمال الفنية والأدبية بمستوى احترافي دون الاعتماد على إعادة صياغة أو التأثر بأعمال أخرى تسبقها. في الأمثلة السابقة، كانت البرامج الحاسوبية تحاكي طريقة إبداع الإنسان، ونحن أيضًا قد نتأثر بإبداع الآخرين، فننتج إبداعنا الخاص، ولن نؤلف قصة أو قصيدة تحتوي مشاعر معينة إلا لو كنا اختبرناها من قبل أو تعرضنا لما أثارتها بداخلنا. ولكن في واقع الأمر، حتى إن كانت التكهنات تشير إلى قدرة الآلة على الحلول محل الإنسان، يبدو أن ذلك لن يتحقق قبل أن تتمكن الحواسيب من الاعتناء بنفسها، وتطوير نفسها ذاتيًّا دون تدخّل الإنسان. ربما وقتها أو بعد ذلك بقليل سيتأثر البشر أيضًا بإبداع من سبقوهم من المبدعين السبرانيين، في زمنٍ يتداخل فيه البشر والحواسيب في نسيجٍ واحد. شارك هذا المقال أضف تعليقك إلغاءلن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *التعليقاسمك * E-mail * Web Site احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.