أنت تقرأ الآن:

الغزو الروسي لأوكرانيا.. كيف يحاول بوتين إثبات نفسه خصمًا جديرًا بالولايات المتحدة؟

الغزو الروسي لأوكرانيا.. كيف يحاول بوتين إثبات نفسه خصمًا جديرًا بالولايات المتحدة؟

في ضوء تجمّع قوات روسية تقدر بحوالي 100 ألف جندي على الحدود الأوكرانية، ناقش قادة الدول الأوروبية مع بعض الدول الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي منظمة عسكرية دولية تشكل نظامًا للدفاع الجماعي تتفق فيه الدول الأعضاء على الدفاع المتبادل في حالة هجوم أطراف خارجية على أحد أعضائها، معلومات استخباراتية أمريكية ترجّح نية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا في أواخر يناير أو بداية فبراير من العام القادم،  مستعدًّا لاحتلال طويل الأمد، داعمًا قواته بما يقرب من 100 مجموعة استراتيجية جاهزة للانتشار خلال ساعة واحدة بعد إطلاق إشارة بدء الغزو. 

هذه المجموعات عبارة عن كتائب ذات تشكيل مؤقت ومرن، تتكون من جنود مجهزين بالبنادق الآلية بصحبة الدبابات، إضافةً إلى وحدات مدفعية ودفاع جوي ودعم فني ولوجستي للعمليات الهجومية، ومغطاة بمجموعات طيران لتنفيذ المهمات المحددة بدقة.

استدعى الجيش الروسي سرًّا عشرات الآلاف من جنود الاحتياط بشكل لم تعهده روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، وأوكل إليهم مهمة تأمين الأراضي في مرحلة ما بعد تنفيذ المجموعات الاستراتيجية مهمتها. وجندت روسيا عملاء لخلق حالة من عدم الاستقرار عبر نشر الأخبار الكاذبة التي تستهدف أوكرانيا، فتثير موجة من الاحتجاجات والاضطرابات الداخلية التي تُظهر أن الشعب غير راضٍ عن الحكومة. هنا أيقن رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية كيريلو بودانوف، أن روسيا بدأت الحرب النفسية التي تهدم قدرة بلاده على القتال، وهي الخطوة الكلاسيكية للرئيس بوتين، والتي تسبق الهجوم العسكري. إذ ادّعى أن الاحتجاجات الواسعة التي اجتاحت بعض الدول الأوروبية ضد الإجراءات الاحترازية لوباء كورونا، والاضطرابات الاقتصادية، وعدم استقرار إمدادات الطاقة، والأزمة المفتعلة للاجئين على الحدود البيلاروسية-البولندية لتهريبهم إلى حدود الاتحاد الأوروبي من تدبير روسيا.

سافر وزير الدفاع الأوكراني ألكسي يوريفيج ريزنيكوف، إلى الولايات المتحدة، وطلب المساعدة من وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في حماية المجال الجوي لبلاده، وسواحلها، مؤكدًا مخاوف الاستخبارات الأمريكية بشأن نية روسيا. وسافر وزير الخارجية الأوكراني دميترو أيفانوفيج كوليبا، إلى بروكسيل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، طلبًا لمزيد من المساعدة والدعم لحماية بلاده التي صارت هدفًا مؤكدًا لروسيا.

وصف المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، هذه الاتهامات بالهستيريا المفتعلة والمنافية للمنطق وغير اللائقة. بعدها، نفى بوتين نيته غزو أوكرانيا، لكنه بدا مرتاحًا إلى أن أفعاله لفتت انتباه الولايات المتحدة وحلفائها، ووصفهم بـ”الفشلة” في التعامل مع ملف أوكرانيا باعتبارها “خطًّا أحمر” بالنسبة إلى روسيا. 

بغض النظر عن نفي بوتين الاتهامات الأمريكية، فإن تحركاته على الحدود الروسية-الأوكرانية مفهوم منها أن بإمكانه سحق أوكرانيا، ولن تستطيع الولايات المتحدة ولا الدول الأوروبية الدفاع عنها، ولفت انتباه الولايات المتحدة إلى أن روسيا قوة عظمى لا يمكن تهميشها أو وضعها في ذيل جدول أعمالها، حيث يمكنها إثارة المتاعب في الأماكن التي تراها أولوية لمصالحها القومية في حالة تجاوز الخطوط الحمراء. السؤال هنا: لماذا تمثل أوكرانيا خطًّا أحمر بالنسبة إلى بوتين؟

أوكرانيا.. خط أحمر

في عام 2014 لم تكن مهمة بوتين الأصلية هي ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، بل كانت غزو أوكرانيا بأكملها، إذ يعتبرها جزءًا من روسيا، ولا يشعر بارتياح كلما تواصلت مع الغرب، خصوصًا حينما وصل الأمر إلى المباحثات حول المشاركة العسكرية لأوكرانيا في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
على الرغم من تصريحه بعدم رغبته في الحرب، وانتقاده للولايات المتحدة وحلفائها التي تتوسع في البنية التحتية العسكرية في أوكرانيا وتدريب الجيش الأوكراني، وتكثّف المهام العسكرية البحرية في البحر الأسود، وتصعّد من العمليات الجوية على الحدود الروسية، فهو يفضّل إبقاء حالة التأهب التي تتبعها هذه الدول لأطول فترة ممكنة كي لا تعتقد أن روسيا تنوي مهاجمة أوكرانيا، مع إصراره على وقف تعاون دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) مع أوكرانيا.

ترى روسيا أن أوكرانيا بلد استراتيجي لأمنها القومي، وذلك لأسباب عدة: مساحتها الشاسعة، وعدد سكانها الكبير، وموقعها الجغرافي الفاصل بين روسيا والقوى الأوروبية ذات الثقل، ودورها السابق كمركز اقتصادي في عصر الإمبراطورية الروسية، وبعدها أيام الاتحاد السوفييتي، إضافةً إلى الروابط الثقافية والدينية واللغوية العميقة التي تربط البلدين.

ويعتبر بوتين الملف الأوكراني مسألة شخصية، إذ فشل في إخضاع أوكرانيا خلال عقدين كاملين من حكمه. في عام 2004، وفي أثناء الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، تدخلت روسيا بهدف دعم المرشح الموالي لبوتين، فيكتور يانوكوفيتش، ضد المرشح الموالي للغرب، فيكتور يوشينكو الذي تعرض لمحاولة اغتيال قبل أسابيع قليلة من عملية التصويت، لكنه نجا بحياته مع تشوهات بالغة، ولم يُعرف من يقف وراء عملية الاغتيال. تم تزوير الانتخابات لحساب فيكتور يانوكوفيتش، فاجتاحت البلاد مظاهرات غاضبة نتج عنها إعادة عملية التصويت التي فاز فيها فيكتور يوشينكو. اعتبر بوتين فوز أحد الموالين للغرب نكسة في تاريخه السياسي.

لم يمل بوتين من محاولاته، وعاد لينتقم في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية لعام 2010 التي أعلنت فوز المرشح الموالي له، فيكتور يانوكوفيتش، لكنه خيّب كل آمال بوتين، إذ بدأ التفاوض مع الاتحاد الأوروبي حول اتفاقيات مهمة من أجل تعزيز العلاقات الأوكرانية-الأوروبية. ومع القبضة الحديدية التي واجه بها الاحتجاجات الواسعة في العاصمة الأوكرانية كييف في عام 2014، وغيرها من المدن ضد فساده، هرب قبل ساعات من إطاحة البرلمان الأوكراني له. 

بعدها، شن بوتين حربًا في شرق أوكرانيا محتلًّا شبه جزيرة القرم لإنقاذ ما تبقّى من إرثه الاستراتيجي داخل أوكرانيا. لكن ضم شبه جزيرة القرم لم يأت بالنتائج التي أرادها بوتين، بل عزز التوجه الأوكراني للغرب، وزاد حينها من عزلة روسيا في المجتمع الدولي. 

ومن خلال خبرة بوتين بعد ضم شبه جزيرة القرم، يدرك جيدًا نتائج محاولة احتلال أوكرانيا عسكريًّا. فهو سيعارض المجتمع الدولي، وستفرض الدول الغربية مزيدًا من العقوبات التي قد تضر بالاقتصاد الروسي، مع احتمال اشتعال مواجهات عسكرية. 

السؤال هنا: لماذا تتوقع الدول الغربية الغزو الروسي لأوكرانيا في هذا الوقت بالتحديد؟

الوقت المناسب

كاد بوتين يغزو أوكرانيا في إبريل من العام الحالي، لكنه لم يُقدم على تلك الخطوة لسبب مجهول، ربما أجّلها لظروف مواتية، لكنه يمهد الطريق إلى هدفه ليقترب من اللحظة الحاسمة.

عند تولّي جو بايدن منصبه الجديد منذ بداية العام الحالي، لم يعتبره بوتين صديقًا لروسيا لأنه يدعم أوكرانيا ضد ضمها إلى روسيا، إذ ردد في خطاباته خلال الحملات الانتخابية أن روسيا ستدفع ثمن أفعالها السيئة مثل غزوها شبه جزيرة القرم في عام 2014، وتدخلها في الانتخابات الأمريكية عامي 2016 و2020، ثم قرصنتها الإليكترونية عام 2021 لشركة “سولارويندز” التي تستخدم منتجاتها الوكالات الفدرالية والحكومية الأمريكية والشركات الأمريكية الكبرى. 

في ظل كل هذه التطورات الكفيلة بتدهور العلاقات الأمريكية-الروسية، كتب بوتين في يوليو من العام الحالي مقالة عبرت عن اهتمامه بأوكرانيا بشكل لم يسبق أن عبر عنه منذ احتلاله شبه جزيرة القرم. فلقد أكد أن أوكرانيا لم تكن يومًا ما دولة مستقلة، وما يعرف الآن بأوكرانيا المستقلة ليس له أساس في التاريخ، بل تم تنفيذه على يد أعداء روسيا ليكون سلاحًا ضدها، وأوكرانيا تفتقر إلى هوية عرقية وثقافية ودينية ولغوية لأنها تابعة لروسيا، حتى إن اسمها مشتق من الكلمة الروسية “هامش”، أي إنها تدور في فلك بلدها الأم روسيا، وازدهار أوكرانيا يتحقق فقط بعودتها إلى حضن روسيا. 

يبدو أن الولايات المتحدة فهمت ما يمكن أن يدور في عقل بوتين، وبدأت تتخذ وضع الاستعداد في حال شنت روسيا حربًا، من خلال تسيير دوريات عسكرية بحرية مستمرة بالتعاون مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) في البحر الأسود، وإرسال جنودها إلى أوكرانيا في مهمات تدريبية بمشاركة القوات البريطانية، وإرسال شحنات كبيرة من الصواريخ الأمريكية المضادة للدبابات. إثر هذه التحركات تعجبت روسيا من النشاط العسكري للدول الغربية على حدودها مع أوكرانيا دون سبب واضح.

ربما يكون السبب غير واضح لروسيا باعتبار أن نشاطها العسكري على نفس الحدود حق لها، لكن السبب أوضح للولايات المتحدة باعتبار أن روسيا باتت مستعدة لتنفيذ طموحها. فعلى الرغم من تأثرها بالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليها الدول الغربية، عاد الاقتصاد الروسي إلى الاستقرار شيئًا فشيئًا بسبب الأرباح التي يجنيها من خط أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم 2” الذي يصب في ألمانيا، إذ تعتمد عليه مصدرًا للطاقة، حتى مع الارتفاع المطرد في سعره لعدم وجود بدائل حقيقية، وكذلك يمكنها استخدامه كسلاح ضغط في الحصول على تسوية ما في المستقبل لتوطيد نفوذها في أوكرانيا، يمكن للدول الأوروبية أن تختار ما بين موافقتها على التسوية أو دعم أوكرانيا.

وبفضل الجهود الدبلوماسية الروسية التقى بوتين بالرئيس الأمريكي جو بايدن في يونيو من العام الحالي رغبةً في بناء علاقات استراتيجية. حصل بوتين على ما أراد عندما أعلن بايدن أن بوتين “خصم جدير”، واستأنف المباحثات مع الولايات المتحدة بعد قطيعة بدأت منذ الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم. مع ذلك، فإن الملف الأوكراني لايزال عالقًا، ويمكنه أن يعكر صفو العلاقات الروسية-الأمريكية إذا لم يتم حله.

تمهيد الطريق   

لكن مع تحول اهتمام واشنطن إلى الصين، وتركيز مواردها في منافستها، يؤمن بوتين بأن ملف أوكرانيا أصبح هامشيًّا بالنسبة إلى الولايات المتحدة. إضافةً إلى انشغال دول الاتحاد الأوروبي في النقاش حول “سياسة الاستقلال الاستراتيجي” التي توطد قدرتها على الدفاع عن نفسها دون الاعتماد كثيرًا على الولايات المتحدة، يبدو الوقت مثاليًّا لحل هذه الأزمة العالقة بالقوة ما دامت المباحثات الدبلوماسية غير قادرة على إيجاد حل سلمي. 

لا تجزم الدول الغربية برغبة بوتين في غزو أوكرانيا، بل تخمن ذلك، إذ لم تعلن روسيا عن ذلك بعد. ولن تبخل الولايات المتحدة في ممارسة ضغوط اقتصادية ودبلوماسية ضد بوتين أو إمداد أوكرانيا بالمعدات العسكرية لصد القوات الروسية في حالة الحرب. إذ صرحت مساعدة وزير الخارجية السابق للشؤون الأوروبية والأوروبية الآسيوية في وزارة الخارجية الأمريكية، فيكتوريا نولاند، في نوفمبر من العام الحالي أن التزام الولايات المتحدة “صارم” بشأن سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها. لكنها لم تقدم لأوكرانيا أي التزامات أمنية رسمية رغم إلحاح كييف على انضمامها لحلف شمال الأطلسي (الناتو). 

عدم مصداقية الإدارة الأمريكية مع السلطات الأوكرانية قد تستغلها روسيا لتمهيد الطريق كي تصل إلى اللحظة الحاسمة في حال اعتماد أوكرانيا على الغرب في صد الهجمات المحتملة.

على الرغم من أن بوتين لا يعتقد أن هذه الخطوة سهلة وغير مكلفة، ففي حالة استمرار تطور العلاقات الأوكرانية مع الغرب، واستخدام الأراضي الأوكرانية على غير رغبتها في خدمة الولايات المتحدة، فإن رد الفعل المناسب لها هو القوة، إذ يصبح الخيار العسكري أقل تكلفة مما سيكون عليه في المستقبل. 

لطالما سعى بوتين لاستعادة دور بلاده التي فقدته بعد الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق، وهو بناء نظام إقليمي تتمتع فيه روسيا والولايات المتحدة بالتساوي كقوتين أمنيتين في القارة الأوروبية. هذه التسوية لن تتحقق بالإقناع أو الدبلوماسية التقليدية. لهذا السبب ربما يكثف بوتين جهوده في إطار إخافة الدول الأوروبية من خلال عمل عسكري كبير يجعلها تقبل بتسوية جديدة مع روسيا، فبعض هذه الدول تؤمن بأنها أصبحت أولوية ثانوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter