أنت تقرأ الآن:

العمارة الإسلامية.. ألف وأربعمائة عام من الإبداع

العمارة الإسلامية.. ألف وأربعمائة عام من الإبداع

مقدمة:

حوّل الإنسان حاجته الفطرية إلى المسكن لتصبح مجالًا للإبداع والتفرد والتعبير عن الثقافة والمزاج والشعور، فأصبح لكل حضارة نمط خاص بها من المعمار، وهوية بصرية متميزة، كأنها “براند حضاري”، يسهل التعرف على هذه الثقافة في عمقها وغناها. وتقدم الحضارة الإسلامية لنا مثالًا برّاقًا على قدرة المعمار على التعبير عن الشخصية، بالأشكال الهندسية المميزة لهذا المعمار، والتي يمكن التعرف إليها في أي سياق، والتي أصبحت منهلًا مدهشًا لأي إنتاج بصري، حتى بالنسبة إلى حضارات أخرى.

في هذا التقرير نتعرف إلى أهم الجوانب المميزة لهذا المعمار، ونأخذ جولة سريعة في تاريخه، ونرى كيف استطاع أن ينتج تنوعًا شكليًّا كبيرًا، انطلاقًا من مجموعة بسيطة من الأشكال ومبادئ التصميم.

أبرز خصائص العمارة الإسلامية:

القباب:

القباب من العناصر التصميمية البارزة في المعمار الإسلامي، وتُعد قبة الصخرة التي تم تشييدها عام 72هـ/691م أقدم مثال معروف للقبة في العمارة الإسلامية. القبة عنصر أساسي عادة في تصميم المساجد، وهذا لأسباب مختلفة بعضها وظيفي وبعضها رمزي، فالقبة تعطي انطباعًا بالتصاعد والحركة الرأسية للأعلى، ما يجعل المؤمن يعيش جوًّا من السمو الروحي في عبادته داخل المسجد.

مع هذا، لم يقتصر بناء القباب على المساجد فقط، وإنما في القصور والمدارس والأضرحة والخانات والحمامات والأسواق وغير ذلك.

المشربيات:

المشربية عنصر معماري يتمثل في بروز الغرف بالطابق الأول أو ما فوقه، ليمتدّ فوق الشارع أو داخل فناء المبنى (في البيوت ذات الأفنية الوسطية). تُبنى المشربية من الخشب المنقوش والمزخرف والمبطّن بالزجاج الملون.

تعدّ المشربية إحدى عناصر العمارة التقليدية الصحراوية في البلاد العربية الحارّة، بدأ ظهورها في القرن السادس الهجري (الثالث عشر الميلادي) إبّان العصر العباسي، واستمر استخدامها حتى أوائل القرن العشرين الميلادي.

تستخدم المشربية لإدخال كميات كثيرة من الضوء غير المباشر، وتمنع الإشعاع الشمسي المباشر المصحوب بدرجات حرارة عالية من الدخول عبر فتحاتها، وبالتالي قدمت المشربية إنارة ذات كفاءة عالية دون زيادة درجات الحرارة في الداخل، كذلك أسهمت بزيادة تدفق الهواء بنسبة عالية، وبالتالي زيادة التهوية والتبريد للغرف.

العقود:

العقود من أهم العناصر التي اعتنى فيها المعماري المسلم وتفنن في صنعها، حيث يتم استخدام العقود عنصر تحميل رئيسًا، حيث يعتمد عليها في الربط بين الأعمدة في حمل السقوف والقباب.

استخدم المسلمون أنواعًا مختلفة من العقود في كل عصر، وحسب الإمكانات والذوق العام، ويُقال إن أنواع العقود في العمارة الإسلامية تبلغ 42 عقدًا، ومن بين هذه الأنواع: العقد المدبب، عقد نعل الفرس، العقد ذو الفصوص، العقد المزين بالمقرنصات، العقد الفارسي، والعقد المستقيم.

المآذن:

تدلّ المآذن على مكان العبادة “المسجد” ومنطلق الأذان لإعلام الناس بدخول أوقات الصلاة، وهي تنتصب في كل مدن العالم الإسلامي صاعدةً نحو السماء، وتعد ربما المَعلم البصري الأبرز الذي يصدح فورًا بالهوية الدينية للمكان وحضارته الإسلامية ومعمارها الديني المميز.

ظهرت المآذن للمرة الأولى في دمشق، حيث أُذّن للصلاة من أبراج المعبد القديم الذي قام على أنقاضه في ما بعد المسجد الأموي، وكانت هذه الأبراج هي الأصل الذي بُنِيَتْ على منواله المآذن الأولى في العمارة الإسلامية.

تاريخ العمارة الإسلامية:

بما أن المساجد هي مركز المعمار الإسلامي وأبرز معالمه، فإن تاريخ العمارة الإسلامية هو تاريخ لتطور بناء المساجد. صحيح أن كثيرًا من المنشآت الأخرى قد استفادت من الأشكال المعمارية التي تطورت أولًا في بناء المساجد بعد ذلك، وأن كثيرًا من المباني التجارية والمتاحف والمؤسسات الحكومية اليوم توظف عناصر تصميم إسلامية، إلا أن المسجد يظل مع ذلك أهم شيء من بين هذه المنشآت.

أول مسجد في التاريخ الإسلامي كان المسجد النبوي بالمدينة المنورة، والذي بناه المسلمون الأوائل عام 622م، أو العام الأول للهجرة. كان المسجد النبوي متصلًا ببيت الرسول ﷺ وعمل مكانًا للعبادة ومركزًا لاجتماع المسلمين، وكان بسيط التصميم، حيث تكوّن فقط من بهو مستطيل واسع مبنيٍّ بالطوب اللبن، حيث تبلغ أبعاده 53 مترًا في 56 مترًا.

تعرض المسجد لعمليات توسيع متتالية في القرنين السابع والثامن، ثم تعاقب الخلفاء على تطويره وتحسين بنائه، فوسّعه الوليد بن عبدالملك بن مروان، ثم طوره المهدي والمأمون والمتوكل ومن تلاهم من خلفاء المسلمين. وفي العصر الحديث، أضاف الملك فيصل رحمه الله، والملك فهد من بعده، مساحة هائلة للمسجد. وفي 2012، بدأت عملية تطوير جديدة تستمر إلى اليوم تحت رعاية الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، والتي سيتمكن المسجد بعدها من استيعاب مليوني مصلٍّ.

دمجت عمارة العصر الأموي بعض عناصر العمارة البيزنطية والساسانية، لكن بصورة جديدة ومبتكرة، ويبدو أن الأمويين كذلك أعادوا استخدام بعض المباني التي انتمت سابقًا إلى الغساسنة (عرب الشام). استقدم الخلفاء الأمويون حرفيين وبنّائين مهرة من جميع أنحاء الخلافة الإسلامية، وشجعوا المهندسين على التجريب والإبداع، وعدم التمسك بالتقاليد القديمة في التصميم. لهذا يعد المعمار الأموي إلى اليوم تحفة من تحف المعمار الإنساني.

أضاف الأمويون المحراب في المرة الأولى إلى تصميم المساجد، ومن آثارهم التي تقف شاهدة حتى اليوم على هذا الإبداع، وإن كانت تعرضت هي الأخرى طبعًا لتطوير كبير بطول التاريخ الإسلامي: مسجد قبة الصخرة، والمسجد الأقصى، والجامع الكبير بدمشق (المسجد الأموي).

حافظ العباسيون على عناصر التصميم التي ابتكرها الأمويون، وزادوها تطويرًا، ومن بين هذه العناصر مثلًا القنطرة، والزخارف الجصية، وتزيين الحوائط بالدهان. أول نماذج العمارة العباسية هو مسجد الخليفة المنصور ببغداد، والذي لم يعد قائمًا للأسف، لكن اليوم نجد جامع سامراء الكبير الذي بناه المتوكل وجامع أبو دلف، ولهذين المسجدين كذلك مآذن حلزونية، تلك المآذن لا توجد في العراق خارج هذين المسجدين.

لم تتعرض هذه المساجد للتطوير لاحقًا، وتعد صورها الحالية معبرة عن تصميمها الأصلي.

لم يكن استيلاء العباسيين على الخلافة الإسلامية نهاية للأمويين، فقد استطاع فرع من بني أمية أن يأخذ الأندلس بعد سقوط الخلافة بستّ سنوات عام 756م، فنشأت إمارة قرطبة، وبلغت أوج مجدها في القرن العاشر. في هذه الفترة بنى الأمويون جامع قرطبة الكبير، وهو أول نماذج العمارة الأندلسية، والتي جاءت متأثرة تأثرًا كبيرًا بعمارة الشمال الإفريقي والمغرب خصوصًا، حيث تحول مسجد قرطبة لاحقًا إلى كاتدرائية قائمة إلى اليوم، وتعد من أبرز معالم العمارة الإسبانية.

في نفس هذه الفترة تقريبًا كان الفاطميون في مصر يلجؤون أيضًا إلى تقنيات بناء جديد نسبيًّا، وأول آثارهم الكبيرة كان الجامع الأزهر بالقاهرة، والذي تأسس مع تأسيس المدينة، وبعد ذلك بنوا أيضًا جامع الحاكم بأمر الله، ومسجد الأقمر بواجهته المزخرفة، ومشهد السيدة رقية، إضافةً إلى أسوار المدينة نفسها وبواباتها الشهيرة التي تظل قائمة في أماكنها إلى اليوم: باب الفتوح وباب النصر وباب زويلة.

في جانب آخر من العالم الإسلامي، كان التيموريون في إيران يطورون أيضًا أسلوبًا خاصًّا في المعمار والتخطيط الحضري، نرى أجمل تجلّياته في تحف سمرقند المغطاة بالخزف، وفي المقرنصات الملونة شديدة التعقيد. امتد المزاج الإيراني في التصميم كذلك إلى أوزبكستان وكازاخستان وكل وسط آسيا، بل وصل حتى إلى الهند، والتي تأثرت معالمها الإسلامية كثيرًا بالمعالم الإيرانية، لكنها لاحقًا أنتجت هي الأخرى أسلوبها المتميز، الشهير خصوصًا بالتماثل السيمتري التام، وبالواجهات الملساء والقِباب المدبّبة والألوان الساطعة.

وبحلول القرن الثاني عشر كان تأثير السلاجقة الأتراك الذين حكموا هذه المنطقة، أي إيران ووسط آسيا، يمتد إلى الأناضول والشام، لهذا أصبحت مدنًا مثل الموصل وديار بكر وحسن كيف وماردين مراكز مهمة للمعمار في هذه الفترة، وامتد تأثير الأساليب المعمارية المستخدمة فيها لعصور لاحقة في سوريا وتركيا. من أبرز معالم هذه التصاميم جامع ديار بكر الكبير، الذي بُنِيَ في القرن السابع وأعيد بناؤه في القرن الثاني عشر. وتتميز هذه الفترة بإعادة إحياء التصاميم الكلاسيكية للعصر الأموي، لكن بدرجة أكبر من التعقيد والزخارف.

استوعبت الخلافة العثمانية كل التأثيرات السابقة عليها، فجاء تراثها المعماري متأثرًا بالعمارة السلجوقية والبيزنطية والإيرانية، إضافة إلى تقاليد معمارية أخرى من داخل العالم الإسلامي وخارجه. وفي هذه الحقبة نبدأ التعرف إلى معماريين محددين بأسمائهم، حيث نعرف اليوم أن معمار سنان، وهو مهندس عثماني، كان ذا شأن كبير عند السلطان، وقد أشرف على تصميم وتنفيذ جامع السليمانية في إسطنبول، وجامع السليمية في أدرنة.

أما في العصور العثمانية المتأخرة، وبداية من القرن الثامن عشر، فقد بدأ المعمار العثماني التأثر بمعمار عصر الباروك الأوروبي، ما يمكن رؤيته بوضوح مثلًا في جامع نور عثمانية، والذي تتجاور فيه الزخارف الإسلامية التقليدية مع الزخارف الغربية، وفي العقود الضخمة التي تدعم قبته الكبيرة.

ومع قدوم القرن التاسع عشر ونمو الحركات الوطنية في كل بلد من البلدان العربية والإسلامية، بدأ المزاج المعماري الاستفادة من العناصر التصميمية المحلية وإدماجها في التراث المعماري الإسلامي، لينتج نمطًا تصميميًّا “وطنيًّا” في هذه البلاد. استعاد المصريون مثلًا التقاليد المملوكية لإنتاج نمط متميز عن العمارة العثمانية، وكذلك عن العمارة الأوروبية، واستخدم هذا الدمج في تصميم عدد من المساجد والمنشآت، مثل مسجد الرفاعي ومسجد أبي العباس المرسي، ومتحف الفنون الإسلامية.

ولا يمكن أن نرى هذا الدمج بين الجديد والقديم أكثر مما نراه في المعمار الإسلامي في إفريقيا الصحراوية وجنوب الصحراء، حيث تُبنى المساجد إلى اليوم بتقنيات وتصاميم تقليدية متأثرة بالثقافة المعمارية السابقة على الإسلام.

العمارة الإسلامية اليوم:

بهذا التراث الطويل الذي يمتد إلى 1400 عام في الماضي، وأكثر بالنسبة إلى التقاليد المعمارية التي استفادت كذلك من المعمار السابق على الإسلام، يجد المصممون المعاصرون أنفسهم أمام خصوبة هائلة تسمح لهم بالتوظيف والاقتباس وإعادة الاكتشاف. وتتسابق الدول الإسلامية اليوم في إعادة قراءة التراث المعماري الإسلامي، وإنتاج تحف معاصرة لها هوية إسلامية واضحة، سواء في بناء المساجد أو المتاحف أو المنشآت العامة.

تكفي الإشارة في هذا السياق إلى مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي، وجامع الراجحي في الرياض، ومسجد الصحابة في شرم الشيخ، إضافةً إلى تصميمات أكثر تجريبية أو معاصرة، مع تأثرها بالتراث الإسلامي، مثل متحف الفن الإسلامي في الدوحة، ومسجد ناجي الهمشري في عمّان.

لتحميل التقرير:

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter