المدونة الجنيه المصري.. حكاية خسارة مستمرة Nuqta Doc منذ سنة واحدة كان الجنيه المصري من أسوأ العملات أداءً عام 2023، حيث فقد أكثر من نصف قيمته مقابل الدولار الأمريكي منذ بداية العام. تعرضت العملة لضغط مستمر من عدة عوامل خارجية وداخلية، مثل الحرب في أوكرانيا والأزمة المالية العالمية واتفاقية صندوق النقد الدولي والتحديات الاقتصادية والسياسية المحلية. بدأ الجنيه عام 2022 بقيمة حوالي 15 جنيهًا للدولار، لكنه سرعان ما واجه صدمة كبيرة عندما غزت روسيا أوكرانيا في أواخر يناير، ما أدى إلى هلع اقتصادي عالمي وارتفاع أسعار النفط. وشهدت مصر، التي تعتمد بشكل كبير على تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية وواردات الطاقة والغذاء، تدهوراً سريعاً في ميزان مدفوعاتها حيث سحب المستثمرون مليارات الدولارات من أسواق خزينتها وارتفعت فاتورة وارداتها. اضطر البنك المركزي المصري، والذي حافظ على نظام سعر الصرف ثابتًا مدة عامين، إلى خفض قيمة الجنيه بنسبة %16 في 21 مارس محاولًا وقف استنزاف احتياطياته من النقد الأجنبي. لم تكن تلك المرة الأولى التي ينخفض فيها سعر الجنيه المصري في القرن الحالي، فقد شهد الجنيه عدة فترات من انخفاض قيمة العملة في العقد الماضي، ما يعكس الاضطرابات الاقتصادية والسياسية في البلاد. كان الجنيه مستقرًّا عند حوالي 5.85 جنيهات للدولار حتى عام 2011، عندما أثارت ثورة 25 يناير موجة من الاضطرابات الاجتماعية والتهديدات الأمنية التي قوّضت ثقة المستثمرين وتدفقات النقد الأجنبي. قام البنك المركزي المصري بتخفيض قيمة الجنيه عدة مرات إلى 6.1 و7.1 جنيهات. وأخيراً 7.7 جنيهات عام 2015، أي أقل من الكرونة الدنماركية ودولار هونج كونج والبوليفار الفنزويلي. وصل الجنيه إلى أدنى مستوى له في أكتوبر 2016، عندما قرر البنك المركزي تعويمه كجزء من اتفاقية صندوق النقد الدولي، ما تسبب في انخفاضه بنسبة %15 في اليوم الأول ووصوله إلى مستوى قياسي بلغ 23 جنيهًا للدولار في التعاملات الخارجية. إلا أن خفض قيمة العملة الجديد لم يوقف الانزلاق الساحق لقيمة الجنيه، حيث يتوقع السوق مزيدًا من الانخفاض في قيمة العملة في ظل الارتفاع المستمر للدولار مقابل عملات الأسواق الناشئة الأخرى وشركاء مصر التجاريين. حاول البنك المركزي الدفاع عن الجنيه بفرض قيود على الواردات ورفع أسعار الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس في أبريل، لكن هذه الإجراءات أثبتت عدم فاعليتها وتكلفتها للاقتصاد. ارتفع معدل التضخم إلى %24.5 على أساس سنوي في ديسمبر، ما أدى إلى تآكل القوة الشرائية للمستهلكين والشركات. تباطأ النمو إلى %2.5 في السنة المالية 2022/23، مقارنةً بـ%5.6 في العام السابق. اتسع عجز المالية العامة إلى %12 من الناتج المحلي الإجمالي، حيث اضطرت الحكومة إلى زيادة الدعم وتكاليف خدمة الديون. وفي أكتوبر 2022، أعلن البنك المركزي تحولًا كبيرًا في السياسة، والانتقال إلى نظام سعر صرف أكثر مرونة من شأنه أن يسمح لقوى السوق بتحديد قيمة الجنيه. كان هذا القرار جزءًا من متطلبات اتفاقية صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار التي توصلت إليها مصر في أغسطس، بعد شهور من المفاوضات. يُنظر إلى صفقة صندوق النقد الدولي على أنها خطوة إيجابية نحو استعادة استقرار الاقتصاد الكلي وجذب الاستثمار الأجنبي، حيث تضمنت أيضًا ضبط أوضاع المالية العامة والإصلاحات الهيكلية ودعم التمويل الخارجي من الشركاء الدوليين. لكن الانتقال إلى نظام سعر الصرف المرن لم يكن سلسًا، حيث انخفض الجنيه بنسبة %15 أخرى في 27 أكتوبر، ووصل إلى مستوى قياسي منخفض بلغ 23 جنيهًا لكل دولار في التعاملات الخارجية. أصيب السوق بخيبة أمل بسبب حجم صفقة صندوق النقد الدولي، والتي كانت أقل من المتوقع، وبسبب الافتقار إلى الوضوح حول كيفية إدارة البنك المركزي تقلبات أسعار الصرف. تدخل البنك المركزي المصري بشكل متقطع في السوق، لكنه لم يقدّم أي توجيه أو هدف واضح للجنيه. غذت حالة عدم اليقين المضاربة واكتناز الدولارات، ما أدى إلى نقص العملة الأجنبية في الأسواق الرسمية والموازية. استمر الجنيه في الانخفاض طوال شهري نوفمبر وديسمبر، حيث وصل إلى معدل 30 جنيهًا مقابل الدولار بحلول نهاية العام. أدى انخفاض قيمة العملة إلى زيادة الضغوط التضخمية وزيادة السخط الاجتماعي، حيث ارتفعت أسعار السلع والخدمات الأساسية بشكل كبير. واجهت الحكومة احتجاجات وإضرابات من مختلف القطاعات للمطالبة برفع الأجور والإعانات، كذلك أصبح الوضع السياسي أكثر توترًا، حيث اتهمت أحزاب المعارضة وجماعات المجتمع المدني الحكومة المصرية بسوء إدارة الاقتصاد. التوقعات لعام 2023 قاتمة للجنيه المصري، حيث يتوقع معظم المحللين مزيدًا من الانخفاض أمام الدولار. على سبيل المثال، موقع WalletInvestor.com، والذي يوفر تحليلات وتوقعات للعملات المختلفة يتوقع أن يصل سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الجنيه المصري إلى 36.86 بنهاية عام 2024 و43.99 بنهاية عام 2025. وهذا يعني أن الجنيه المصري سيفقد أكثر من نصف قيمته خلال خمس سنوات. من المتوقع أن تظل الأسباب الرئيسة لانخفاض قيمة العملة دون تغيير: الدولار القوي، وميزان المدفوعات الضعيف، والتضخم المرتفع، والنمو المنخفض. قد توفر صفقة صندوق النقد الدولي بعض الراحة، لكنها تنطوي أيضًا على شروط صعبة قد يكون من الصعب تنفيذها وسط الاضطرابات الاجتماعية والتهديدات الأمنية. قد يضطر البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة بشكل أكبر لكبح جماح التضخم ودعم الجنيه، لكن هذا سيضرّ أيضًا النمو والاستثمار. مستقبل الجنيه المصري غير مؤكد ويعتمد على عوامل كثيرة خارجة عن إرادته. هل ستتمكن مصر من استعادة الثقة بعملتِها واقتصادها؟ هل ستكون قادرة على تأمين تمويل خارجي كافٍ لتغطية احتياجاتها؟ هل ستكون قادرة على تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي دون المساس بالاستقرار الاجتماعي؟ هل ستكون قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية التي قد تنشأ؟ كلها أسئلة سيجيب عنها المستقبل، لكن حتى ذلك الحين، لا نملك إلا تمني السلامة. شارك هذا المقال أضف تعليقك إلغاءلن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *التعليقاسمك * E-mail * Web Site احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.