أنت تقرأ الآن:

لماذا لا تتفق الدول الأوروبية على إعلان الغاز الطبيعي والطاقة النووية مصادر للطاقة التي لا تضر البيئة؟

لماذا لا تتفق الدول الأوروبية على إعلان الغاز الطبيعي والطاقة النووية مصادر للطاقة التي لا تضر البيئة؟

في إبريل عام 1986 في أوكرانيا التي كانت حينها جزءًا من الاتحاد السوفييتي السابق، انتبه رئيس الفريق المناوب في محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية إلى ارتفاع درجة الحرارة بسبب خطأ في التشغيل، حيث تم إغلاق توربينات المياه المستخدمة في تبريد اليورانيوم بعد الاختبار الدوري لانقطاع الكهرباء. 

أدى الخطأ إلى إحداث موجة انفجار كيميائية، فانتشر التلوث على أجزاء كبيرة من البلاد. وكانت النتيجة وفاة 31 شخصًا على الفور، وإصابة 600 ألف من المشاركين في إطفاء الحرائق بجرعات عالية من الإشعاع النووي، وتعرّض ما يقرب من 8,400,000 شخص في بيلاروسيا وروسيا وأوكرانيا للإشعاع، إضافةً إلى تسببه في استمرار بقايا التعرض الإشعاعي في المنطقة. 

بقيت هذه الكارثة عالقةً في الذاكرة الجماعية للبشرية، وأضحت مثالًا حيًّا على ما يمكن أن تتسببه محطات الطاقة النووية من أضرار مباشرة على الإنسان.  

بعد أكثر من ثلاثة عقود، عشية رأس السنة الحالية، قدمت المفوضية الأوروبية، المؤسسة التنفيذية للاتحاد الأوروبي المسؤولة عن اقتراح التشريعات وتنفيذ القرارات، مسودة مقترح بشأن المضي في تصنيف الغاز الطبيعي والطاقة النووية ضمن الأنشطة الاستثمارية المستدامة بيئيًّا. قاد وزير الاقتصاد وحماية المناخ الألماني “روبرت هابيك” حملة ضد المقترح بعاصفة من الانتقادات والاتهامات بالتضليل، مشككًا في فاعلية المقترح اقتصاديًّا. 

لم يسلم الوزير من اتهامات أعضاء المفوضية الأوروبية بوأد المقترحات من خلال تأخير متعمد في إصدار القواعد الفنية لدليل الاستثمار الأخضر، وهي مجموعة الإرشادات التي تشجع المستثمرين على ضخ أموالهم في مشروعات من شأنها التقليل من التغير المناخي الذي يتفاقم بفعل الممارسات الاقتصادية المضرة بالبيئة من أجل تحقيق هدف الاتحاد الأوروبي بإنهاء انبعاثات الكربون على أراضيه نهائيًّا بحلول عام 2050، ضمن أهداف التنمية المستدامة على الصعيد العالمي.

الاتهامات المتبادلة أحدثت شرخًا بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ففي النمسا، اتخذت الحكومة موقفًا معاديًا ضد المفوضية الأوروبية، وهددتها بمقاضاتها إذا استمرت على موقفها من تصنيف الغاز الطبيعي والطاقة النووية طاقة نظيفة، وأعلنت دراسة الوضع القانوني لهذا المقترح، حيث أكدت وزيرة شؤون حماية البيئة والمناخ “ليونورا جيفيسلر” أن دخول الغاز الطبيعي والطاقة النووية التصنيف يضر البيئة والمناخ، ويدمر مستقبل الأجيال المقبلة. ووصفت المقترح بأنه “عملية ضبابية تحاك خيوطها تحت جنح الليل”، وهي نفس العبارة التي رددها وزير الطاقة في لوكسمبورغ “كلود تورمز” الذي وصف المسودة بالاستفزازية. 

وأكد قادة سياسيون في هولندا أن هذا التصنيف يستنزف مجهودات الاتحاد الأوروبي في ريادته لقضية التصدي للتغير المناخي، حيث يرسل موافقة ضمنية إلى بقية دول العالم باتباع الخطوة نفسها، الأمر الذي تم رفضه سابقًا عندما اقترحها الاتحاد الإفريقي. كذلك عبرت البرتغال والدانمارك وإسبانيا عن مخاوفها بشأن تراكم النفايات المشعة التي تنتجها محطات الطاقة النووية، فمن الأفضل توجيه الاستثمارات التي تقدر بتريليونات الدولارات إلى الوجهة الصحيحة.

الانقسام الحاد في وجهات نظر الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ربما لا يكفل للدول المعارضة تأمين الأغلبية اللازمة لعرقلة هذا المقترح. ففرنسا وجمهورية التشيك والمجر وعدد من حكومات وسط أوروبا وشرقها وجنوبها، مثل بولندا والمجر وبلغاريا ورومانيا، تدعم تصنيف الغاز الطبيعي والطاقة النووية كمصادر للطاقة التي تناسب المرحلة الانتقالية من المصادر التي تضر البيئة إلى المصادر النظيفة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الهيدروجينية. بينما تخطط الحكومة الألمانية للتخلي تمامًا عن الطاقة النووية، فلقد أغلقت نصف المحطات النووية على أراضيها تمهيدًا للتخلص من التكنولوجيا النووية بحلول نهاية العام الحالي، يرى سكرتير فرنسا المكلّف بالشؤون الأوروبية “كليمان بون” الطاقة النووية المصدر الوحيد الذي يكفل للاتحاد الأوروبي هدفه في القضاء على انبعاثات الكربون.

التفاصيل والشروط المصحوبة بالمقترح، والتي يجب أخذها في الاعتبار عند استخدام الغاز الطبيعي والطاقة النووية، ربما تخلق لغطًا كبيرًا، حيث تحصر استخدام الغاز الطبيعي كمصدر طاقة مستدام في حالة عدم القدرة على توليد نفس الطاقة باستخدام مصادر متجددة أخرى. إضافةً إلى ذلك ينبغي تفعيل الخطط، وبتواريخ محددة، للتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة أو غازات أخرى منخفضة الكربون. كذلك لا بد من أن تتعامل الدول بكفاءة مع النفايات المشعة للسماح لها باستخدام الطاقة النووية.

إنها حالة ضبابية خيمت على علاقات العائلة الأوروبية التي انقسمت إلى فريقين: مؤيدي استخدام الغاز الطبيعي والطاقة النووية بقيادة فرنسا، والمعارضين لتصنيفها كمصادر للطاقة المستدامة بقيادة ألمانيا.

انقسام العائلة الأوروبية

اتفقت الدول الأوروبية على إصدار قانون تصنيف الأنشطة الاقتصادية المستدامة في يوليو عام 2020 في إطار “الاتفاق الأخضر الأوروبي” الذي يهدف إلى منع ظاهرة الغسل الأخضر، وتوجيه المستثمرين إلى خيارات اقتصادية أكثر محافظة على البيئة. الإشكالية هنا أن المشرّعين تركوا التفاصيل الفنية التي تحكم المسألة القانونية لمناقشتها من خلال ما يعرف بالقوانين المفوضة، وهي قوانين لا تخضع للمستوى الرقابي الوزاري أو البرلماني نفسه. وبالتالي، طغت خلافات حادة بين قادة دول الاتحاد الأوروبي خلال اجتماعهم في “بروكسيل” وصلت إلى حد الإحجام عن إصدار بيان مشترك حول سياسة الطاقة.

ليس مدهشًا قيادة فرنسا لحركة تأييد استخدام الطاقة النووية داخل الاتحاد الأوروبي، باعتبارها الدولة الأكثر استخدامًا وإنتاجًا لهذا المصدر، حيث تؤمّن 70% من احتياجاتها من الكهرباء من خلال الطاقة النووية، وتنوي بناء مفاعلات نووية جديدة لسد احتياجاتها المستقبلية، وترأّسها للدورة الحالية لمجلس الاتحاد الأوروبي حتى منتصف شهر يونيو للعام الحالي، يمكّنها من الضغط بشكل أكبر لصالح القضايا التي تهتم بترويجها. 

في الوقت نفسه، تدرك الحكومة الفرنسية جيدًا مدى حساسية القرار الذي لا تنوي التراجع عنه، وحتمية الصدام مع الحكومة الألمانية الجديدة المتحالفة مع “حزب الخضر” الذي يقود حملات فعالة للتخلص نهائيًّا من الطاقة النووية.

من وجهة نظر ألمانيا محاولات فرنسا لمساواة الألواح الضوئية وتوربينات الرياح كمصادر للطاقة المتجددة بالمفاعلات النووية ليس فقط تحريفًا للحقيقة، بل احتيال واضح. على الرغم من إدراك ألمانيا أن المفاعلات النووية لا تنتج انبعاثات كربونية بمجرد إنتاجها للطاقة الكهربائية، فإن استدامة مصادر الطاقة لا تقاس فقط بتأثيرها المباشر في البيئة، بل بإمكانية وقوع الحوادث التي لا يمكن التعامل معها بفاعلية مثلما حدث في الاتحاد السوفييتي سابقًا بشأن انفجار مفاعل “تشيرنوبيل”. إضافةً إلى أن بناء محطات الطاقة النووية يتكلف أكثر من 7.7 ملايين يورو لكل ميغاوات من الطاقة النووية، مع احتمالية إضافة تكاليف مالية أخرى على المدى الطويل، وقد تستغرق فترة بنائه مدة أطول من المتوقع. 

وزيادةً على ذلك، مدى إمكانية تخزين النفايات النووية بأمان تثير مخاوف متزايدة، فربما تتسرب إلى المياه الجوفية أو تلوث التربة في المستقبل لتصبح مشعّة وتدمر الأجيال المقبلة. وبالتالي سيصبح القبول بنشر الإشعاعات النووية في الهواء والماء والتربة بديلًا من تلويث الهواء من خلال مصادر الطاقة غير المتجددة التي تبث انبعاثات الكربون.

السباق نحو القاع

يبدو أن النقاش السياسي الحاد بين دول الاتحاد الأوروبي يتحول لصالح مؤيدي استخدام الطاقة النووية والغاز الطبيعي، حيث تتزايد المقترحات والحلول لتطبيق الطاقة النووية، مثل بناء جيل جديد من معامل الطاقة النووية صغيرة الحجم ورخيصة التكلفة، بمساعدة البنوك التي تؤمن بجدوى الاستثمار في الطاقة النووية، لكنها ستتاح فقط لبلدان الاتحاد الأوروبي، ولن تطبق في جميع أنحاء العالم. 

وتتذبذب الحكومة الألمانية في قرارها بشأن رفض استخدام الغاز الطبيعي لأنها تراه أحيانًا “طاقة انتقالية” يمكن التخلي عنها عند الاعتماد الكامل على الطاقة الهيدروجينية بحلول عام 2045، مع إصرارها على خطورة استخدام الطاقة النووية. 

وفي الوقت نفسه، لا تنوي الحكومة الألمانية تصعيد الخلافات مع بقية دول الاتحاد الأوروبي، ووافقت خلال محادثات ائتلافية خلف الأبواب المغلقة على الامتناع عن التصويت في الاجتماعات المقبلة بهدف عدم تعميق الخلافات بين العائلة الأوروبية.

يمكن فهم موقف الحكومة الألمانية في إطار تأكدها من تشبث الدول المؤيدة لاستخدام الطاقة النووية برأيها بسبب كفاءتها في تزويد الطاقة الكهربائية باستمرار على عكس الألواح الشمسية وتوربينات الرياح التي لا تنتج الكهرباء عند غياب الشمس أو سكون الرياح. 

وترغب الحكومة الألمانية الجديدة في التقارب مع فرنسا، فقد التقت زعيمة “حزب الخضر” الألمانية التي تشغل منصب وزيرة الخارجية “أنالينا بيربوك” مع نظيرها الفرنسي “جان إيف لودريان” في باريس، في أول رحلة لها خارج البلاد بعد توليها المنصب، مؤكدةً التزامها بشراكة فرنسية-ألمانية متينة.

وفي حال إصرار ألمانيا على عدم السماح لفرنسا باستخدام الطاقة النووية التي تعتمد عليها بشكل كبير في إنتاج الطاقة الكهربائية، فلن تسمح فرنسا باستخدام ألمانيا للغاز الطبيعي الذي يعتمد اقتصادها عليه بشكل متزايد لتعويض تخليها عن الطاقة النووية ومصادر الطاقة غير المتجددة. وبالتالي يمكن للعلاقة الثنائية أن تتحول إلى “لي الأذرع” إذا قررت إحداهما بدء معركة فرض وجهة نظره على الآخر.

ولا ننسى أن التفاصيل الفنية المصاحبة لبناء المفاعلات النووية تضمنت معايير مفصلة لإدارة النفايات النووية التي تمثل عقبة تعلل بها الحكومة الألمانية رفضها للمقترح، وتتطلب مسودة المعايير خطة تشغيل تفصيلية حتى عام 2050 بشأن التخلص من النفايات المشعة عالية المستوى تطبق على جميع المفاعلات النووية، مع وجوب استشارة اللجان الفنية لتطبيق أفضل الوسائل التقنية المتاحة مع مراجعات فنية دورية من لجان متخصصة.    

يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى كثير من المرونة خلال الفترة الانتقالية، فلا تتلخص المعضلة في التفاصيل التقنية فحسب، بل يتوجب على أعضائه التوافق بشأن إدارة التكاليف الاقتصادية والاجتماعية قصيرة الأجل، وبالتالي لا يصبح التضامن في كل مرحلة خيارًا لدول الاتحاد الأوروبي إذا أرادت تنفيذ أهدافها بشأن تغير المناخ. 

استمرار الاتحاد الأوروبي بهذه الآلية سيحول كل قرار إلى خطوة لتعميق الخلافات بين أعضائه، وهنا سيتعرض أمنه الاقتصادي للخطر. هذه الخلافات المتكررة والقرارات المتذبذبة بشأن مصادر الطاقة تحديدًا داخل الاتحاد الأوروبي قد ترسل إلى مصدّري الطاقة غير المتجددة، مثل روسيا وتركيا وبعض دول شمال إفريقيا ودول شرق أوروبا، إشارات لبناء قدراتهم في خلق أسواق جديدة كبديل للاتحاد الأوروبي. 

هذه الإشارات بدورها قد تؤثر سلبًا في أمن الطاقة، فما زال الاتحاد الأوروبي في حاجة إلى هذه المصادر خلال الفترة الانتقالية من ناحية، وسيفقد تأثيره في المجتمع الدولي بشأن إقناعه بالتحول إلى مصادر الطاقة المستدامة من ناحية أخرى، بسبب عدم وجود خطة واضحة ومنسقة، إضافةً إلى اختلال نفوذه في مفاوضات المناخ الدولية لافتقاره إلى حوار بصوت موحد.

لكن التنبؤات تشير إلى اقتراب فرنسا وألمانيا من عقد صفقة من شأنها تمرير هذا المقترح الذي سيدخل حيز التنفيذ عام 2023، إذا وافق عليه غالبية دول الاتحاد الأوروبي، ما دفع الناشطة البيئية السويدية الأكثر تأثيرًا في قضايا وقف الاحتباس الحراري وتغير المناخ “غريتا إيرنمان تونبرج”، إلى اتهام قادة الاتحاد الأوروبي باتخاذ قرارات “جبانة” بشأن وعودهم للحد من ارتفاع درجة حرارة الكوكب خلال قمة المناخ COP26 في “غلاسكو” بأسكتلندا.

وإذا تم تمرير الاقتراح بعد ما يمكن تسميته بزوبعة مفتعلة، فإن الاتحاد الأوروبي يكشف عن وجهه البراغماتي الذي لا يسمح إلا لأعضائه باستخدام مصادر طاقة غير متجددة يراها مناسبة للمرحلة الانتقالية، ربما لانعدام ثقته ببقية دول العالم في تطبيق المعايير اللازمة لجعل استخدامها آمنًا، أو ربما يريد الانفراد بدور ريادي في التصدي للتغير المناخي ومحاولة كسب تأييد مواطنيه إذا نجح في مهمته، أو ربما يرغب في الاحتفاظ بالتقدم الاقتصادي عندما يبزغ العالم الجديد الذي تسيطر عليه مصادر الطاقة المستدامة.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter