أنت تقرأ الآن:

وصفة بوتين في كازاخستان.. كيف تحقق انتصارًا جيوسياسيًّا في أسبوع واحد فقط؟

وصفة بوتين في كازاخستان.. كيف تحقق انتصارًا جيوسياسيًّا في أسبوع واحد فقط؟

في الثاني من يناير من العام الحالي بدأت مظاهرات خجولة غير منظمة في مدينة “جاناوزن” التابعة لمقاطعة “أوبليس مانكيستاو” جنوب غرب كازاخستان اعتراضًا على ارتفاع أسعار الوقود، حيث تشتهر المدينة بغناها بالغاز الطبيعي المسال، ولم يكن منطقيًّا لمواطنيها هذا الارتفاع المفاجئ. 

لم يظهر قائد لهذه المظاهرات، ولم تكن هناك أجندة سياسية مطروحة، لكن الطلبات الغاضبة كانت تتلخص في رفع الأجور، وحل حكومة رئيس البلاد الحالي “قاسم جومارت توكاييف” الذي نُصّب مباشرة وفقًا للدستور بعدما كان يشغل منصب رئيس مجلس الشيوخ بعد استقالة الرئيس السابق “نور سلطان نزارباييف” الذي تخلّى بشكل مفاجئ عن منصبه عام 2019 بعد حكمه للبلاد لمدة 30 عامًا. 

التخلي عن حكم كازاخستان لم يمنعه من الاحتفاظ بسلطة قوية، إذ استحوذ على منصب رئيس مجلس الأمن الكازاخستاني، وهو المجلس المسؤول عن الحفاظ على الأمن العام داخل البلاد، ولقب نفسه بـ”قائد الأمة”، وعين أفراد عائلته في وكالات الأمن وشركات الأعمال التي تسيطر على اقتصاد البلاد.  

انتشرت احتجاجات كبيرة في جميع أنحاء البلاد، ووصلت إلى أكبر المدن الكازاخستانية والعاصمة القديمة للبلاد “ألماتي”، ولم تعترض فقط على الارتفاع المفاجئ في أسعار الوقود، ولكنها عكست الاستياء من أوضاع أخرى مثل الركود الاقتصادي والفساد والتضخم وانعدام فرص العمل، وتحولت الشعارات إلى مطالب سياسية ضد نفوذ الرئيس السابق “نور سلطان نزارباييف”. صنف الرئيس الكازاخستاني الاحتجاجات باعتبارها أعمالًا عدوانية على البلاد يجب مواجهتها لاستعادة النظام الدستوري وسيادة القانون. 

بعد ثلاثة أيام من الاحتجاجات المتواصلة قيل إن جماعات إجرامية اختطفتها بالهجوم على قوات الأمن وإشعال النار في المباني الحكومية، بينما أكد آخرون، معظمهم من الصحفيين المستقلين ونشطاء حقوق الإنسان، أن الفوضى بدأت مع وصول آلاف من المرتزقة والإرهابيين المسلحين إلى “ألماتي” من البلاد المجاورة مثل قيرغيزستان وأوزبكستان. يشتبه أن ابن شقيق الرئيس السابق “نور سلطان نزارباييف”من استأجرهم، وهو “كيرات ساتيبالدي”، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس لجنة الأمن القومي لجمهورية كازاخستان، الجهاز الأمني المسيطر في البلاد، بهدف إحكام السيطرة على مراكز الشرطة والمباني الإدارية والمطار، وتبرير استخدام القوة ضد المتظاهرين. 

لم ينتظر الرئيس الكازاخستاني كثيرًا حتى طلب المساعدة من منظمة “معاهدة الأمن الجماعي”، وهي تحالف عسكري حكومي دولي في “أوراسيا” يضم دول ما بعد الاتحاد السوفييتي، التي استجابت بإرسال 2500 من القوات الأمنية قدموا من روسيا وبيلاروسيا وأرمينيا وقرغيزستان وطاجيكستان، بهدف إنهاء أعمال العنف، معلنًا حالة الطوارئ، وأمر قوات الشرطة بقتل “الإرهابيين” الذين يشاركون بعنف خلال الاحتجاجات، رافضًا إعلان المفوضية الأوروبية إمكانية تقديمها المساعدة إلى الشعب الكازاخستاني من أجل حل الأزمة، أو مبادرات التعاون مع الأمم المتحدة وبعض الدول الغربية مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا.   

استدعاء الرئيس الكازاخستاني لمنظمة إقليمية تقودها روسيا بهدف قمع احتجاجات شعبية محلية قوّض مصداقيته. فلقد اعتبرها بعضهم خيانة، لكنها في المقابل سهلت تدخل “بوتين” في شؤون دول الاتحاد السوفييتي السابق. 

يبدو أن هذا التطور الإقليمي جاء في موعده، إذ يحشد “بوتين” قواته على الحدود الأوكرانية منذ خمسة أشهر مهددًا النظام العالمي، ويرسل قوات حفظ السلام إلى منطقة “ناغورنو كاراباخ” المتنازع عليها بين أذربيجان وأرمينيا منذ 15 شهرًا في محاولة لإيجاد حل في الصراع الذي يقتل فيه الآلاف. 

كل تلك التحركات تفضي إلى اقتراب “بوتين” من تحقيق حلمه بإعادة بناء إمبراطورية تفككت منذ قرابة 30 عامًا. السؤال هنا: ما هو وزن كازاخستان الجيوسياسي الذي يجعل منها هدفًا لبوتين؟

وزن كازاخستان الجيوسياسي

جغرافيًّا، تقع كازاخستان على الحدود بين الصين وروسيا، وتشترك حدودها أيضًا مع ثلاث دول كانت ضمن الاتحاد السوفييتي السابق، هي: قيرغيزستان، وتركمانستان، وأوزبكستان. وبالتالي، تربط كازاخستان بين أسواق الصين وجنوب آسيا من ناحية، وأسواق روسيا وأوروبا من ناحية أخرى، وذلك من خلال الطرق البرية والسكك الحديدية ومينائها على بحر “قزوين”، ولذلك تعد حلقة الوصل الرئيسة في مبادرة “الحزام والطريق”، وهي المبادرة الصينية التي تستهدف ربط الصين بالعالم، كأكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية.

اقتصاديًّا، كازاخستان أكبر اقتصاد في آسيا الوسطى، حيث تقدر الاستثمارات الأجنبية التي تجذبها بمليارات الدولارات منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991. فهي تمتلك مخزونًا هائلًا من النفط الخام، حيث تمثل المركز التاسع في تصدير النفط في العالم. في عام 2021 أنتجت حوالي 85.7 مليون طن، وتحتل المركز العاشر في إنتاج الفحم. وتمتلك عددًا من المعادن الأرضية النادرة مثل عنصر اليورانيوم الذي يستخدم وقودًا للطاقة النووية، ويدخل في تصنيع الأسلحة النووية. وهي ثاني أكبر دولة بعد الولايات المتحدة في تعدين عملة بيتكوين، أول عملة رقمية مشفرة لا تعتمد على بنك مركزي. أدى اندلاع الاحتجاجات الشعبية في كازاخستان إلى ارتفاع أسعار عنصر اليورانيوم الذي يغذي محطات الطاقة النووية بنسبة 8%، وانخفاض معدل تجزئة عملة بيتكوين بنسبة 10%، وهي عبارة عن مجموع الأجهزة التي تشارك في عملية تعدين العملة المشفرة بسبب انقطاع خدمة الإنترنت في البلاد.

الثقل الجيوسياسي لكازاخستان جعلها فريسة منتظرة لأحلام “بوتين”، خصوصًا بعد أن وطد علاقاته مع دول الاتحاد السوفييتي، مثل قيرغيزستان التي أقنع رئيسها السابق خلال الفترة من 2005 إلى 2010، “قرمان بيك باقايف”، بإغلاق قاعدة عسكرية أمريكية عام 2009، واستخدامها كورقة مساومة ضد منظومة الدفاع الصاروخي التي تبنيها منظمة “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) داخل أوروبا، وفي مواجهة العضوية المحتملة لجورجيا وأوكرانيا في الاتحاد الأوروبي التي ستؤثر سلبًا في مصالح روسيا في الدولتين، وبالتالي في منطقة نفوذها المباشر. 

كذلك حسّن “بوتين” علاقاته برئيس أوزباكستان “شوكت ميرزيوييف” بعد علاقته الفاترة مع سلفه الرئيس “إسلام كريموف” بهدف توطيد الحضور الروسي داخل البلاد، إضافةً إلى نشر القواعد العسكرية في طاجيكستان وقيرغيزستان، وتطوير ميناء “بايكونور” الفضائي الواقع في وسط كازاخستان، وهو ميناء فضائي دولي تشارك فيه كل من روسيا وأوكرانيا وكازاخستان، ويستعمل حاليًّا في إطلاق الرحلات الروسية. 

وسمحت فرصة انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان لروسيا بلعب دور أساسي في عملية السلام. وتلاعب روسيا في معاهدة الوضع القانوني لبحر قزوين مع بقية الدول المطلة عليه: كازاخستان وأذربيجان وإيران وتركمنستان، لم يسهل استغلال ثرواتها الهائلة التي تقدر بمليارات الدولارات فحسب، بل فتح لها مجالًا لاتخاذها ورقة سياسية للضغط على هذه الدول أيضًا.

إمبراطورية بوتين

التدخل الروسي في دول ما بعد الاتحاد السوفييتي السابق يطبق وفق خطة محددة وواضحة، بدأ “بوتين” تنفيذها في التسعينيات من القرن الماضي توطيدًا لهيمنته العسكرية والسياسية. 

خلال رحلته بحثًا عن استعادة إمبراطوريته المفككة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، حقق “بوتين” انتصارات جيواستراتيجية مبهرة. فلقد وقّع معاهدة الاتحاد مع بيلاروسيا بهدف زيادة التكامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ثم ضم “شبه جزيرة القرم” ومنطقة “دونباس”، وصولًا إلى “البحر الأسود”، ثم أرسل قوات حفظ سلام روسية إلى المناطق المتنازع عليها داخل دول الاتحاد السوفييتي السابق ليحكم بين أطرافها. 

السيناريو المتبع واحد: حشود غاضبة، ثم نشر قوات عسكرية روسية، فالتوسع في نفوذها داخل هذه الدول، ثم الاندماج مع روسيا بناء على طلب السكان الناطقين باللغة الروسية الذين وجدوا في روسيا الأمن والسلام. 

تصريحات بعض نواب مجلس “الدوما” الروسي،‏ وهو مجلس النواب التابع للجمعية الاتحادية، والهيئة التشريعية في روسيا، تعكس رغبة روسيا في ضم المنطقة الناطقة بالروسية من كازاخستان، حيث يشكل الروس ما يقرب من 26% من إجمالي سكان البلاد البالغ تعدادهم مليوني نسمة. 

لذا، فعندما أعلن الرئيس الكازاخستاني السابق “نور سلطان نزارباييف”، عام 2017، تبديل حروف اللغة الكازاخستانية إلى حروف لاتينية بحلول عام 2025 بهدف “العودة إلى جذورها”، ظهرت مخاوف روسيا من اختفاء اللغة الروسية داخل كازاخستان، وفي نوفمبر عام 2021 أعلن وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” عن قلقه من انتهاك حقوق السكان الناطقين بالروسية، وقمع اللغة الروسية في كازاخستان. وبالتالي ليس مصادفةً أن انتقلت الاحتجاجات إلى مدينة “ألماتي” التي يتمركز فيها غالبية الناطقين باللغة الروسية، وتشترك حدودها مع الصين وقيرغيزستان التي تهيمن عليها روسيا سياسيًّا بشكل كامل.

بإرسال قوات أمنية تابعة لمنظمة “معاهدة الأمن الجماعي” بقيادة روسيا إلى كازاخستان، يؤكد “بوتين” أن الحكومة الكازاخستانية غير قادرة على ضمان الاستقرار السياسي في البلاد، وأن روسيا هي الوحيدة القادرة على حل “الأزمات” وإحلال الاستقرار في المنطقة. فبتوغله داخل كازاخستان، يرسل “بوتين” رسالة اطمئنان إلى الصين بأن لديه الحماية الكافية واللازمة لإنقاذ مشروعها الاقتصادي الضخم “مبادرة الحزام والطريق”. وبسيطرته على صناع القرار في دول الاتحاد السوفييتي السابق يرسل “بوتين” رسالة واضحة إلى الغرب بأن العقوبات الاقتصادية على روسيا لن تؤتي ثمارها في السيطرة على بلاده، إذ تمكن من توسيع علاقاته الاقتصادية والتجارية بترسيخ هيمنته على أسواق أوراسيا بأكملها.

ولا يخلو التدخل الروسي في كازاخستان من نبرة انتقامية ضد تركيا التي تسيطر على منظمة الدول التركية، وهي منظمة دولية تضم الدول الناطقة باللغة التركية: أذربيجان وتركيا وكازاخستان وقيرغيزستان، بهدف التقارب الاستراتيجي والتعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية بينها. 

هذا التقارب بين هذه الدول يقلق روسيا، إذ يشعرها بتنامي نفوذ المنظمة وسلطتها في المنطقة. فلم يكن مريحًا لـ”بوتين” اندماج دول آسيا الوسطى مع تركيا تمهيدًا لتطبيق التجارة الحرة والقوانين الجمركية الموحدة، ليس فقط خوفًا من توطيد المنظمة لتوسعها الاقتصادي والاستثماري في المنطقة، بل أيضًا من تطور تعاونها العسكري والسياسي.   وبالتالي، طلب الحكومة الكازاخستانية من روسيا إرسال قوات لحفظ أمنها الداخلي ألغى أي دور لتركيا في المرحلة القادمة، وأعلن فوز روسيا جيوسياسيًّا، ومهد للقضاء على انتشار مشروع “توران العظيم” الذي تقوده تركيا، وهو حلم يراود الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بضم جميع الدول المنحدرة من أصول تركية، ولديها صلات تاريخية بالدولة العثمانية، لبناء إمبراطورية تركية تمتد من القسطنطينية حتى حدود روسيا والصين، وبلاد فارس والوطن العربي.عادت قوات الأمن التي أرسلتها روسيا بعد أسبوع واحد فقط من إحلال الاستقرار والقضاء على الفوضى في كازاخستان التي لم تكن سوى فرصة  أتيحت لـ”بوتين”، أو خلقها بنفسه، كي يثبت أن ثقل بلاده الجيوسياسي يستحق أكثر مما هي عليه الآن في موازين القوى الدولية، وأن روسيا تعرضت للظلم في تسوية ما بعد الحرب الباردة، مع الأخذ في الاعتبار أن طموح “بوتين” في بناء إمبراطوريته يكلف الشعب الروسي الكثير، حيث يتزايد الإنفاق العسكري في مقابل تقليص ميزانية البرامج الاجتماعية التي كان من المفترض أن تستهدف تحسين مستوى معيشة شعبه، والتقدم الاقتصادي لبلاده، لكن “بوتين” على استعداد لتوطيد مكانة روسيا، مهما كلفه الأمر.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter