المدونة السيارات الكهربائية.. كيف تحافظ على البيئة وتقضي عليها في آن واحد؟ Nuqta Doc منذ 3 سنوات عام 1914 اشترى هنري فورد، مؤسس شركة فورد الأمريكية لصناعة السيارات، سيارة كهربائية من شركة ديترويت إلكتريك، وذلك بهدف إهدائها إلى زوجته بدلًا من أن يهدي إليها واحدة من السيارات التي تنتجها شركته. ربما أحبَّ فورد أن يمنح زوجته بعض الاستقلال في نطاق القيود التي كان يفرضها المجتمع على قيادة السيدات للسيارات. ولقد اشتهرت السيارات الكهربائية ذات التصميم البسيط بأنها مخصصة لبعض السيدات اللواتي يفضّلن الرحلات القصيرة، ولا يحتجن إلى تغيير التروس في أثناء القيادة، إضافةً إلى عدم الاضطرار إلى تعلّم صيانة السيارات التي تعمل بالوقود. ففي العام نفسه انتشرت شائعات أكدها هنري فورد بأنه يخطط لتطوير سيارة كهربائية منخفضة التكلفة، وذلك بالشراكة مع المخترع الأمريكي توماس إديسون. في البداية لم تنجح فكرة تصنيع بطارية خفيفة الوزن قادرة على تخزين الكهرباء لتقطع مسافات بعيدة دون الحاجة إلى إعادة شحنها بشكل متكرر. حاول إديسون مرارًا، وفكّر في استخدام البطارية بدلًا من تلك المصنوعة من الرصاص، لكنها كانت ثقيلة وضخمة وغير مناسبة. في النهاية تخلّى عن المشروع بأكمله. الدرس المستفاد من التجربة التي مر بها إديسون أن النقطة الأضعف الأساسية في تصنيع السيارات الكهربائية هي بطارياتها. في يومنا هذا، وبعد مرور قرن من الزمن على أولى المحاولات، وجدت السيارات الكهربائية ضالتها في عنصر الليثيوم لصناعة البطاريات التي أصبحت تمتلك القدرة على تخزين كمية طاقة أعلى من المواد الأخرى، وذلك بمعدل تفريغ ذاتي منخفض، ولا تحتاج إلى صيانة دورية، وعمرها الافتراضي طويل. عام 2017 تخطت مبيعات السيارات الكهربائية حاجز المليون سيارة. وسجل العام 2019 بيع أكثر من مليوني سيارة كهربائية، ما يمثل 2.5% من حصة سوق السيارات. مع حلول عام 2020 احتلت السيارات الكهربائية 11% من إجمالي السيارات في المملكة المتحدة وحدها، وأضحت محطات الشحن الكهربائية أمرًا معتادًا في الشوارع، حيث تخطط شركات السيارات الكهربائية لاحتلال ما يقرب من نصف حصة إجمالي السيارات المباعة بحلول عام 2040. يُقبل كثيرٌ من الناس على شراء السيارات الكهربائية بسبب اعتقادهم أن السيارات الكهربائية حل مثالي للتخلص من تلوث السيارات التي تعمل بالوقود، ما يقلل من غازات الاحتباس الحراري للحد من تفاقم أزمة تغير المناخ، وتجنب آثارها التي لا رجعة فيها، حيث تشكل انبعاثات السيارات من الغازات الدفيئة 12% من إجمالي الانبعاثات العالمية، ومن ثم، فإن تقليلها سيُحدث فارقًا إيجابيًّا. فقد أثبتت الدراسات أن السيارات الكهربائية تُطلق انبعاثات أقل بما يعادل النصف من السيارة التقليدية، وذلك وفقًا لكثافة الكربون المنبعث منها. للغاية نفسها تُشجع بعض الحكومات، مثل فرنسا والمملكة المتحدة، مواطنيها على شراء السيارات الكهربائية، وتخطط لحظر بيع السيارات التي تعمل بالوقود الأحفوري خلال العقدين المقبلين، وتدرس الصين خطوة مماثلة. يبدو المستقبل مشرقًا أمام السيارات الكهربائية، لكن وجهًا آخر مظلمًا يخيم على حياة الإنسان بسببها. هناك ما يقرب من 75% من احتياطات الليثيوم العالمية تحت المسطحات الملحية في تشيلي والأرجنتين وبوليفيا، والتي تعرف باسم “مثلث الليثيوم”، ثم الصين والأرجنتين وأستراليا. والتنقيب عن الليثيوم يستهلك كميات هائلة من المياه، فالتنقيب عن طن واحد فقط من الليثيوم يحتاج إلى ما يقرب من 50 ألف غالون من المياه. ولتقريب الصورة أكثر: المسطح الملحي “سالار دي أتاكاما” في تشيلي يحتاج إلى 65% من المياه الموجودة في المنطقة، ما يؤدي إلى نقص حاد في المياه التي يحتاج إليها المزارعون لإنتاج المحاصيل وتربية الماشية. وفي شرق إقليم التبت في آسيا الوسطى أفرزت عمليات التنقيب عن الليثيوم مواد كيميائية سامة وصلت إلى نهر ليتشو، فسممت الأسماك والحيوانات والتربة المحيطة. وبسبب الطلب المتزايد على الليثيوم تتزايد المخاوف من الآثار البيئية السلبية التي قد تخلّفها عمليات التنقيب، خصوصًا أن الدول التي يتركز وجوده فيها لا تلتزم بأي معايير بيئية، ويصعب مراقبتها. ويتسبب التنقيب عن الليثيوم في إشعال الصراعات في بعض الدول مثل الأرجنتين. انتهاك صناعة السيارات الكهربائية لحقوق الإنسان وفقًا لتقرير أجرته صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، تربح شركات التنقيب عن الليثيوم في الأرجنتين ما يقرب من 250 مليون دولار سنويًّا، لكنها تدفع لعمال المناجم المحليين ما بين 9 آلاف و60 ألف دولار سنويًّا. الليثيوم ليس العنصر الوحيد لتصنيع البطاريات الكهربائية، فمادة الكوبالت تدخل أيضًا في عملية تصنيعها. وأكثر من نصف الاحتياطي العالمي من مادة الكوبالت يتم استخراجه من جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد أثبتت منظمة العفو الدولية، وهي منظمة غير حكومية تهتم بقضايا حقوق الإنسان، في تقريرها عام 2016، أن 20% من الكوبالت يستخرجه عمال المناجم بأيديهم أو بأدوات بدائية مقابل دولارين في اليوم. وتقدّر منظمة اليونيسيف، وهي منظمة دولية تهتم بحماية حقوق الأطفال، أن عدد الأطفال العاملين في مناجم الكوبالت حوالي 40 ألف طفل، وبعضهم لا يتجاوز السابعة من عمره. إلى جانب الحوادث المميتة التي يسببها حفر الأنفاق بطريقة غير سليمة ولا آمنة، فإن التنقيب عن الكوبالت والتعرض بشكل مستمر إلى الغبار الناجم عنه يتسبب في أمراض خطيرة بالرئة قد تصل إلى حد الإصابة بمرض “الالتهاب الرئوي المعدني الصلب” الذي يفتك بأنسجة الرئة. ويستخدم كذلك معدن الغرافيت في تصنيع البطاريات الكهربائية، وهو عنصر نادر موجود في الصين، حيث تجري عمليات التنقيب عنه بكثافة دون أدنى معايير السلامة، سواء لحماية البيئة أو الحفاظ على صحة السكان المحليين الذين يعيشون بجانب المناجم. في أثناء التنقيب عن الغرافيت يتم استخدام الأحماض شديدة السمية، فتتسرب إلى مياه الشرب، وتتناثر الأتربة مسببةً تلوث الهواء بشكل مباشر ليرفع نسبة الإصابة بنوبات قلبية وأمراض في الجهاز التنفسي. ويدخل كذلك في عملية تصنيع البطاريات الكهربائية عنصر النيكل، حيث تحتاج البطارية الواحدة إلى ما يقرب من 32 كيلوغرامًا. عمليات التنقيب عن هذا المعدن، ثم صهره، تتسبب في مشكلات بيئية وارتفاع معدلات تشوهات حديثي الولادة، ويسبب مشكلات في الجهاز التنفسي. ونتيجةً لذلك أغلقت الفلبين، أو أوقفت مؤقتًا، 17 منجمًا للنيكل عام 2017. واشتكى السكان الذين يعيشون بجانب تلك المناجم في كولومبيا من إصابتهم بتلك الأمراض عام 2015. حل مستدام.. وبطارية غير مستدامة عندما ينتهي العمر الافتراضي لبطاريات الليثيوم، أي ما يُقدّر بحوالي 15 أو 20 عامًا، لا يمكن إعادة تدويرها، ما يتسبب في أزمة نفايات خطيرة. بناءً على عدد السيارات الكهربائية التي بيعت عام 2017، فإنها ستخلّف ما يقرب من نصف مليون متر مكعب من النفايات، وهو ما أكده باحثون بريطانيون. وبدايةً من العام نفسه حتى عام 2030 تُقدّر نفايات بطاريات الليثيوم بحوالي 11 مليون طن. لا يمكن التعامل مع البطاريات الكهربائية كبقية النفايات لأنها تطلق مواد كيميائية سامّة، وإذا تم دفنها في مكب النفايات، فمن المحتمل تعرضها لما يسمى “الانفلات الحراري”، وذلك عندما ترتفع درجة الحرارة، فتنتج طاقة أكبر، فترتفع درجة الحرارة مرة أخرى، ما يتسبب في حدوث انفجار في نهاية الأمر. هناك محاولات حثيثة لتخفيض تكلفة إعادة تدوير البطاريات الكهربائية، لكنها بطيئة في ظل الوتيرة السريعة لتصنيع السيارات الكهربائية والطلب المتزايد على المواد الخام. وقد يرجع السبب إلى النقص الحاد في المعرفة بتكنولوجيا السيارات الكهربائية، حيث تبلغ نسبة الفنيين القادرين على التعامل مع السيارات الكهربائية 2% فقط من إجمالي فنيين السيارات في المملكة المتحدة على سبيل المثال. والبطاريات الكهربائية التي تنتجها مصانع مختلفة غير متشابهة، سواء على مستوى التركيب الكيميائي أو الأشكال والتصميمات، ما يجعل إعادة تدويرها كلها جملة واحدة أمرًا صعبًا، ولا يمكن تفكيكها، سواء بالأيدي أو بمساعدة أدوات. ولذلك، فإن بطاريات الليثيوم ليست جيدة مقارنةً ببطاريات الرصاص التي تُستعمل في بعض السيارات الكهربائية، حيث يمكن استخلاص 95% من المواد بهدف إعادة تدويرها بفضل توفر المعرفة التكنولوجية، لكن في الوقت نفسه لا يمكن الاعتماد على بطاريات الرصاص لقصر عمرها الافتراضي وسوء أدائها في درجات الحرارة المنخفضة. بديل يبحث عن بدائل يمكن استنتاج أن المجهود المبذول من شركات تصنيع السيارات الكهربائية من أجل تخفيض أسعار بيعها يتم تنفيذه من خلال استغلال الأيدي العاملة الرخيصة وتطبيق معايير منخفضة في أثناء التنقيب عن المعادن التي تدخل في عمليات التصنيع. انتهاك حقوق الإنسان والضرر البيئي الناتج عن عملية تصنيع السيارات الكهربائية لا ينسجم مع ما تدّعيه هذه الشركات من مستقبل أفضل. وإذا تزاحمت الاقتراحات بشأن ضرورة التزام الشركات بالسياسات التي تنسجم مع حماية البيئة والحفاظ على حقوق الإنسان، فهذا لا يعني بالضرورة تنفيذها، فإن توفرت الرقابة في بعض الدول لن تتوفر في الدول الأخرى. وحتى إذا حاولت بعض الدول المتقدمة تقديم حلول، فقد تبدو ساذجة باهتة. في محاولات للحد من ضررها البيئي بعد انتهاء عمرها الافتراضي، نشرت مجلة “نيتشر” الرائدة في مجال العلوم، بحثًا يدعو إلى تصنيع البطاريات الكهربائية بطريقة يمكن استخدامها في أغراض أخرى مثل تخزين الكهرباء في محطات توربينات الهواء أو محطات الطاقة الشمسية، لكنه يظل حبرًاعلى ورق. وفي عام 2018، اقترحت بورصة لندن للمعادن، وهي أكبر بورصة على مستوى العالم في مجال المعادن، حظر بيع الكوبالت الذي يثبت تلويثه للبيئة أو تورطه في انتهاك حقوق الإنسان، لكن أكثر من 14 منظمة غير حكومية عارضت هذا الاقتراح لأن ذلك سينعش السوق السوداء في المقابل. إذن يبقى السؤال: ماذا نفعل إذا أردنا التقليل من انبعاث الغازات التي تطلقها السيارات التقليدية، أو الحد من التلوث الناتج عن بطاريات الليثيوم؟ تقترح بعض الدراسات الاستثمار في البحث عن مواد أخرى متوفرة لدى كل الدول وصديقة للبيئة في الوقت نفسه، أو تصميم بطاريات يمكن إعادة تدويرها بسهولة تجعل من السهل استخلاص الليثيوم والكوبالت منها، وذلك لإعادة استخدامها في عملية تصنيع بطاريات جديدة. لكن إعادة تدوير البطاريات الكهربائية تبدو مجرد طموح لا يمكن تنفيذه، فلقد صدّرت المملكة المتحدة البطاريات المنتهية الصلاحية في محاولة لاستخراج المكونات القابلة لإعادة الاستخدام عن طريق صهرها في درجات حرارة عالية، لكنها في النهاية أنتجت بعض المواد غير الفعالة، ما يجعل عملية إعادة تدويرها أمرًا مستحيلًا في الوقت الحالي. وإذا افترضنا أن بعض محاولات إعادة التدوير ستنجح، فإن البطاريات المستهلكة قد تُنتِج 8 كيلوغرامات من الليثيوم، ما يمثل ثلثي كمية الليثيوم اللازمة لصناعة بطارية كهربائية جديدة، إضافةً إلى ارتفاع سعر عمليات إعادة التدوير مقارنةً باستخراج مواد خام. الحقيقة الدامغة هي أن السيارات الكهربائية لا تطلق عوادم مباشرة كالناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري في السيارات التقليدية، لكن التلوث البيئي الناتج عن عمليات التنقيب عن المواد التي تدخل في صناعة البطاريات الكهربائية، والانبعاث الناتج عن عملية تصنيع هذه البطاريات، ربما يكون أعلى من انبعاث سيارات الوقود الأحفوري في بعض الحالات، كما أثبتت إحدى الدراسات في النرويج. إضافةً إلى أن رحلات توريد الليثيوم عبر القارات، وعمليات تصنيع الإطارات المطاطية، ولوحات القيادة البلاستيكية، تستهلك طاقة هائلة ينتج عنها غازات الاحتباس الحراري، والكهرباء اللازمة لتزويد السيارات الكهربائية حتى الوقت الحالي في أنحاء كثيرة من العالم مستمدة من الوقود الأحفوري. الحل إذن ليس إحلال السيارات التقليدية بالكهربائية، على الأقل في ظل هذا النموذج من عمليات التصنيع. قد يكون تقليل إنتاج عدد السيارات عن طريق الاعتماد على وسائل النقل العام، أو شراء سيارة واحدة للعائلة بدلًا من سيارات متعددة، أو ممارسة المشي، أو ركوب الدراجات الهوائية، مع إعادة تصميم المناطق الحضرية بحيث تكون أكثر ملاءمةً لتلك النماذج المستدامة. وفي الوقت الحالي، إلى أن تتطور صناعة السيارات الكهربائية، فالأفضل أن تشتري سيارة تقليدية مستعملة وخفيفة الوزن وموفرة للطاقة بدلًا من شراء سيارة كهربائية جديدة. شارك هذا المقال أضف تعليقك إلغاءلن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *التعليقاسمك * E-mail * Web Site احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.