أنت تقرأ الآن:

ملحة عبد الله: سيدة المسرح السعودي

ملحة عبد الله: سيدة المسرح السعودي

آية حسن

ملحة عبد الله أو سيدة المسرح السعودي واحدة من الكاتبات المتميزات في الأدب العربي المعاصر، ليس فقط لبراعتها في الكتابة واستخدام الرمز وتطويع اللغة، بل لتفوقها في نوع فني غير منتشر بين النساء، وهو أدب المسرح. 

وعلى أهمية المسرح كنوع أدبي تبرز ضرورة الحوار، فارتباطه بالتمثيل على خشبة المسرح يؤثر في شعبية قراءاته، وبمجرد ذكر كلمة “مسرح” تقفز إلى أذهاننا بعض الأسماء مثل “توفيق الحكيم” و”باكثير” أو حتى “شكسبير”، وهذه المرة قد حان الوقت لنتحدث عن منجزات إحدى النساء العربيات في هذا الفن.

ظروف حياتية ثرية

هناك نوع من الكتّاب ينغمسون في الكتابة عن واقعهم، يكتبون عن مدينتهم أو بلدهم أو مهنتهم أو لغتهم، كطريقة للتشبث بما يعرفون وبما يجيدون، فلم يذهب أحدهم ليكتب رواية تدور أحداثها في بلد آخر؟ إنها مغامرة. وتتميز ملحة عبد الله بتغلبها على هذه الفكرة وفقًا لظروف حياتها التي أعطتها صلاحية الكتابة عن أمكنة عدة، ومناقشة قضايا خاصة وعامة.

أما الأكثر تميزًا، فهو قدرتها على استخدام اللهجات المختلفة للتعريف بالنص، فاللغة كاشفة في أحيان كثيرة. وفي الوطن العربي تتيح اللهجات المختلفة هذا الخيار، باستخدام الأسماء أو بعض الجمل خلال سرد النص للتلميح بمكان هذه الحكاية؟ هل هي السعودية أم مصر؟ هل نحن في قرية أو في مدينة؟ لكن من أين أتت ملحة عبد الله بهذا التنوع؟

عاشت ملحة بداية حياتها في السعودية قبل أن تنتقل إلى مصر وتبدأ الدراسة في المعهد العالي للمسرح، وعلى مدار حياتها ألّفت ما يقرب من 50 عملًا مسرحيًّا عُرضت على المسرح في دول عربية وغربية. فملحة ليست وحدها من تنقلت من دولة إلى أخرى، بل أيضًا أعمالها كانت حرة ليفهمها العالم العربي بمختلف طرق تمثيلها وكتابتها.

المسخ: العامية المصرية ووصف الإنسانية

“المسخ” مسرحية قصيرة مكثفة، بطلها حارس قفص القرود الذي يحاول الجميع تجريده من إنسانيته وإعطاءه لقب “الشيء”. أولًا تأتي الزوجة المتعلمة، فتتباهى بالعلم وتتهمه بفقدان إنسانيته لأنه لا يفهمها. ثم يأتي صاحب العصا الذي يظن أن ماله يشتري الاحترام ورقصة القرد والإنسانية، وبهذا يصبح الحارس فاقدًا للإنسانية لأنه، هذه المرة، لا يستطيع شراء الاحترام مثل صاحب المال، وتستمر المسرحية ومعها الاتهامات التي تلاحق الحارس المسكين.

ورغم قصر المسرحية تحمل الحوارات كثيرًا من الاحتمالات عن الشيء أو المسخ، من يملك أن يحدده؟ وما أفضلية الإنسان على إنسان آخر أو حتى على الحيوان؟ في المسرحية يتفاخر الجميع بكونهم متعلمين أو ذوي مال أو جاه، ما يمنحهم أفضلية للخيانة أو الظلم أو القسوة على كل ما هو أدنى منهم، متناسين أن الإنسانية هي أن تحمل العقل المميز للإيذاء.

تدور الكثير من النقاشات حتى اليوم عن العامية المصرية واستخدامها في الكتابة، لكن ملحة عبد الله استطاعت تمييز الموقف من خلال هذه العامية، وأعطتنا لمحات عن المستوى الاجتماعي لكل شخصية دون أن تقول حرفًا عن خلفيات الشخصيات أو الإشارة إلى مكان الأحداث، وكذلك عند التفكير في العرض الحقيقي على خشبة المسرح، فمن الذكاء التفكير في أن المشاهِد سيندهش من حديث حارس قفص القرود باللغة العربية الفصيحة عن رقصات القرود.

“- رافض يرقص يا سعادة البيه..
– حلو رافض دي.. خليه يرقص.. أنت متعرفش أنا مين!
– مش بالعافية.. أصل الرقص ده لما يكون مزاجه عال.
– خد الفلوس إديها له خلي مزاجه عال.
– مش كل حاجة بالفلوس يا بيه.. أصل القرد مش بني آدم.”

شبة النار: أن نحمي المجتمع بالتراث

في مسرحية “شبة النار” تدور القصة في مجتمع القبائل وصراعهم المستمر. هناك شيخ القبيلة الذي يحاول حماية الأفراد من الحروب والتصارع في ما بينهم، فيخبئ خاتم الباب العالي مع ابنته، ويعهد بها إلى قبيلة أخرى، وهنا تبدأ المشاورات والمجالس عن الابنة وانتمائها: هل هو للمكان الذي ولدت به أم لمكان نشأتها؟

“- أنت تعلم أن هذه ثروة.
– وشرف القبائل كلها أغلى من الثروة.”

هذه المرة المسرحية ليست بالفصحى أيضًا، بل بلهجة قبلية مميزة تخبرنا أننا ننتظر قصة تقع أحداثها في البادية وبين الخيام، حتى قبل أن تضع الكاتبة أيًّا من العادات الثقافية لإكمال لوحة المسرحية، مثل رقصة شبة النار أو طقوس الزواج والاحتكام في الخصومة. وهي ليست قصة صراع وانتصار طرف على آخر، بل حكاية للدفاع عن الوحدة والانسجام. وداخل الحبكة يحاول الأبطال توحيد القبائل وعدم الرضوخ لمحاولات بث الشقاق بينهم. 

ورغم أن الحل في النهاية يبدو كحيلة، فرمزيته واضحة بسبب اختيار طقس مثل “شبة النار”، وهو إشعال النار والتجمع حولها، ولهذه الحركة دلالات عدة، مثل: الكرم والترحيب بالضيوف، أو حتى خلال المناسبات لتدل على تجمع الأحباء لاستمداد الدف من النار. مشهد الختام كان معبرًا عن فكر الكاتبة، وأن هذا الجمع لن يبقيه غير التراث، ولن يجمعه إلا الحميمية المستمدة من العادات.

“- الحصار من كل جانب والمسألة لا تحتمل.
– على إيش الحصار؟ حنا والحمد الله ناكل التمر من النخل.. ونزرع الحب وناكله.” 

مواطن رغم أنفه: مسرحية تلائم كل ما نعرف

خارج اللكنات استطاعت ملحة عبد الله كتابة عدد من المسرحيات خارج الزمان والمكان، فلا لكنة لنميز منها مصر، ولا علامات تميز القبائل، ولا شخصيات مثل الباب العالي تدلنا على التاريخ. هناك كثير من مسرحياتها بهذا الشكل، مثل “حالة اختبار”، لكن أعتقد أن “مواطن رغم أنفه” أكثر شمولًا في أفكارها.

نحن لا نعرف التاريخ أو المكان، لكن هناك قرية يحاول الغرباء فيها شراء أراضي المزارعين وتحويلها إلى منتجع سياحي، وحده “السيد تاج” صاحب مصنع الخمور يقاوم مرضه ويتصدى للبيع، لم يرتح “السيد تاج” لفكرة أن يأتي الأغراب ويحاولوا أن يصبحوا مواطنين بالمال والخداع رغم أنف الجميع.

قد تناقش المسرحية الانتماء، وقد تناقش من جهة أخرى التطور التاريخي والتقني وتقلباته السريعة، وقد تناقش التمسك بالذكريات.. هناك عدد من القيم التي نراها بين السطور لقصة لا تفرض مضمونها على القارئ، بل تترك له هذا التحديد.

“- تسمع ما لا نسمعه وترى ما لا نراه.. أتريد النبوءة أم الألوهية؟
– بل الإنسان.. الإنسان فقط.. من يسكر حين يشاء.. ومن يصبح منتشيًا حين يشاء.. من يملك قراره.. من يستطيع أن يرى ما بعد نقطة التقاء السماء والأرض في امتداد الأفق.. من يستمع لحفيف الأشجار، فيعرف أنها عطشى.. من يزرع الأرض كي يأكل الغير.. من لا يفرط في انتمائه.”

تجديد واستحقاق

بعد هذا العرض السريع لثلاثة أعمال فقط يمكننا أن نرى الصبغة الثقافية التي أضافتها ملحة عبد الله إلى مسرحياتها، فهي ليست مجرد كاتبة عادية، أو متلاعب قوي بالحوارات والشخصيات لتحميلها شتى المعاني، بل هي قادرة على إدراج الثقافة وتوظيفها في الأدب كي تواجه المتلقي وتفتح له آفاقًا لم يكن يعرفها عن هذه الثقافات.

لهذا السبب استحقت ملحة عبد الله عددًا من الجوائز في مهرجانات عربية وعالمية، لكن الأهم من هذا أنها استحقت لقبها: “سيدة المسرح السعودي”.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter