أنت تقرأ الآن:

قانونُ التقاعدِ الفرنسيُّ.. الأزمةُ أكبرُ من فرنسا وحدَهَا

قانونُ التقاعدِ الفرنسيُّ.. الأزمةُ أكبرُ من فرنسا وحدَهَا

منذُ ينايرَ ألفينِ وثلاثةٍ وعشرينَ، والمظاهراتُ والإضراباتُ الشعبيةُ متأججةٌ في الشوارعِ الفرنسيةِ، وها قد بلغَتْ ذُرْوَتَهَا في مارسَ وأبريلَ، بعد أنْ وصَلَ عددُ المتظاهرينَ إلى ملايينَ، وتحوَّلَتِ المظاهراتُ إلى أعمالِ عنفٍ وشغبٍ، والتي رَدَّت عليها الشرطةُ الفرنسيةُ بعنفٍ مماثلٍ، حتى تكادَ تتحولَ شوارعُ باريسَ إلى ساحةِ حربٍ.

سببُ المظاهراتِ هو محاولةُ تعديلِ الرئيسِ إيمانويل ماكرون قانونَ التقاعدِ الفرنسيَّ، ليجعلَ الحدَّ الأدنى لسنِّ التقاعدِ أربعةً وسِتِّينَ بدلًا مِنَ اثنينِ وسِتِّينَ عامًا، أيْ أنَّه على العمَّالِ والموظفينَ الفرنسيينَ العملُ سنتينِ إضافيتينِ قبلَ بَدْءِ تلقِّي معاشِهم. قوبِلَ هذا التعديلُ بغضبٍ شعبيٍّ واسعٍ، حتى أنَّ نسبةَ رفضِ “ماكرون” بينَ الشعبِ بلغَتْ سبعينَ بالمئةِ، أقلُّ مُعَدَّلٍ لها على الإطلاقِ.

لكنَّ ما زادَ الطِّينَ بَلَّةً، إدراكُ “ماكرون” أنَّ التعديلَ لنْ يَمُرَّ بسهولةٍ مِنَ البرلمانِ، فحاوَلَ أن يتجاوزَ النِّقَاشَ البرلمانيَّ وتمريرَ قانونِهِ باستخدامِ ثغرةٍ دُستوريةٍ تسمَحُ بذلكَ. هذا الالتفافُ على الديمقراطيةِ أدى إلى اشتعالِ الاحتجاجاتِ أكثرَ لتشمَلَ أطيافًا واسعةً مِنَ الشعبِ الفرنسيِّ، بما فيهِمْ أحزابُ المعارضةِ والنقاباتُ والطلابُ والعمَّالُ والأشخاصُ العاديُّونَ، وحتى بعضُ مؤيِّدِي “ماكرون” السابقينَ، الذينَ انتخبوه فترةً رئاسيةً ثانيةً في انتخاباتِ ألفينِ واثنينِ وعشرينَ، ليصبحَ أوَّلَ رئيسٍ فرنسيٍّ تتمُّ إعادةُ انتخابِهِ بعدَ “جاك شيراك” قبلَ عشرينَ عامًا.

وفي المقابلِ، يتمسَّكُ “ماكرون” بقانونِه الجديدِ دونَ اعتبارٍ لانهيارِ شعبيَّتِه، حيثُ أعلنَ أكثرَ مِنْ مرةٍ أنه لَنْ يرضَخَ للشَّغَبِ والضَّغْطِ الشعبيِّ، فالقانونُ الذي وصَفَهُ بأنَّهُ لا يحبُّهُ لكنَّهُ ضروريٌّ، مهمٌّ، وفرنسا التي تَمُرُّ بظروفٍ اقتصاديةٍ سيئةٍ تحتاجُ إليه، وسيدخُلُ حّيِّزَ التطبيقِ أواخرَ عامِ ألفينِ وثلاثةٍ وعشرينَ.

ربما يتقَوَّى قلبُ “ماكرون” بحقيقةِ أنه لَنْ يترشَّحَ للانتخاباتِ القادمةِ بعدَ أربعِ سنواتٍ، فالدستورُ الفرنسيُّ لا يسمحُ للرئيسِ بالترَشُّحِ فترةً ثالثةً، وبالتالي لا يحتاجُ إلى أصواتِ الناخبينَ، لكنَّ انخفاضَ شعبيَّتِه الحاليَّ قد يتكفَّلُ بتحويلِ سنواتِه المتبقِّيَةِ إلى جحيمٍ، وربما يؤدِّي الصراعُ على القانونِ إلى أحكامٍ دُستوريةٍ بحلِّ البرلمانِ والحكومةِ وخَسَارَتِه كلَّ شيءٍ. فلماذا يخاطرُ “ماكرون” كلَّ هذه المخاطرةِ، ويعبَثُ بنظامِ تقاعدٍ شبهِ مقدَّسٍ لدى الشعبِ الفرنسيِّ؟

في الواقعِ، لم تبدأِ المشكلةُ الآنَ، بل لها جذورٌ قديمةٌ في فرنسا، وأبعادٌ أوسعُ تشملُ عواقِبُهَا النظامَ الاقتصاديَّ العالميَّ بأسرِهِ.

البدايةُ في فرنسا كانَت مَعَ الرئيسِ الاشتراكيِّ الهوى “فرانسوا ميتران” في أوائلِ الثمانينياتِ، والذي كانَ مِنْ بينِ إصلاحاتِهِ المتعددةِ تقليلُ سنِّ التقاعدِ مِنْ خمسةٍ وسِتِّينَ إلى سِتِّينَ عامًا، ما قوبِلَ بترحيبٍ كبيرٍ بينَ الفرنسيينَ.

يدفَعُ الفرنسيونَ ضرائبَ وتأميناتٍ تَصِلُ إلى رُبْعِ دَخْلِ الفردِ سنويًّا، في مقابِلِهَا يتمتعونَ بِخَدَمَاتٍ متعددةٍ، ونظامِ تقاعدٍ يضمَنُ لكبارِ السنِّ الفرنسيينَ دخلًا جيدًا وتأمينًا صحيًّا ممتازًا، إنه نظامٌ يَكْفُلُ لهم حياةً كريمةً في خريفِ عُمرِهِمْ.

لكنَّ الحكوماتِ اليمينيةَ المتعاقبةَ بعد “ميتران” لم تتقبَّلْ خَفْضَ سنِّ المعاشِ خمسَ سنواتٍ، فهذا يعني خَمْسَ سنواتٍ أكثرَ مِنْ حياةِ كلِّ مواطنٍ على الحكومةِ أنْ تتكفَّلَ فيها بالإنفاقِ عليه، بينما كانَ قبلَ ذلكَ هو مَنْ يدفع.

حاولَتْ إدارةُ “جاك شيراك” إلغاءَ تعديلِ “ميتران” سنَّ المعاشِ، لكنْ كلَّ المحاولاتِ قوبِلَتْ باحتجاجاتٍ ومظاهراتٍ وأعمالِ شَغَبٍ عارمةٍ جعلتِ الحكومةَ تتراجعُ عن قرارِهَا، ثمَّ جاءَ “نيكولا ساركوزي”، ونجَحَ عامَ ألفينِ وعَشَرَةَ في رَفعِ سنِّ التقاعدِ مِنْ سِتِّينَ إلى اثنينِ وسِتِّينَ عامًا، لكنْ بعدَ شهورٍ طويلةٍ مِنَ الاضطراباتِ والاحتجاجاتِ، والتي كانتْ أطولَ موجةِ احتجاجاتٍ ضِدَّ إجراءاتِ التَّقَشُّفِ الاقتصاديةِ التي شَهِدَتْهَا أوروبا في وقتِهَا.

ولمَّا حانَ دورُ “ماكرون”، حاولَ الإدلاءَ بدلوِه لرفعِ سنِّ التقاعدِ عامينِ آخرينِ في فترتِهِ الرئاسيةِ الأولى، لكنه تراجَعَ أمامَ الاحتجاجاتِ بسرعةٍ في أولى محاولاته. أما الآنَ، مَعَ الضغطِ الاقتصاديِّ الذي تواجهه فرنسا وأوروبا كلُّها، وبما أنه لا ينتظرُ أيَّ انتخاباتٍ مقبِلَةٍ، فها هو قد شَمَّرَ عن ساعدَيْهِ وقرَّرَ خَوْضَ المعركةِ كاملةً. وفي المقابلِ، يعتقدُ غالبيةُ الفرنسيينَ أنه تتمُّ سرقةُ حصيلةِ تَعَبِهِم، وأنهم لو استسلموا هذه المرةَ أيضًا، فلا أحدَ يعلمُ ما يكونُ الإصلاحُ القادمُ.

هل سيفوزُ “ماكرون” ويفرِضُ التعديلَ؟ هل سينجحُ المتظاهرونَ في منعِه مِنْ سَرِقَةِ مستقبلِهِم؟

لا أحدَ يعلمُ، لكنْ في الواقعِ، سواءٌ مرَّ القانونُ أو لمْ يَمُرّْ تظلُّ المشكلةُ قائمةً وعواقبُهَا قادمة.

نظامُ التقاعدِ الفرنسيُّ لا يعتمِدُ على حِفْظِ المبالغِ التي يدفَعُها المواطنُ في أثناءِ عمله حتى يتقاعدَ فتعيدَهَا إليه بعدَ استثمارِها وزيادتِها، بل يعتمدُ على دَفْعِ معاشِ التقاعدِ مِنَ التأميناتِ التي يدفعُهَا العاملونَ الآنَ، أيْ أنه بحاجةٍ إلى وجودِ قوةٍ عاملةٍ حاليَّةٍ ومنتجةٍ أكبَرَ مِنْ عددِ المتقاعدينَ طُوالَ الوقتِ لتنفِقَ عليهم.

لكنَّ عُمْرَ نظامِ التقاعدِ الفرنسيِّ يقتربُ مِنْ مئةِ عامٍ، ولم يُسَبِّبْ مشكلاتٍ مِنْ قبلُ، فلماذا صارَ الآنَ أزمةً؟

الأزمةُ هي أنَّ عددَ المستفيدينَ مِنْ أنظمةِ المعاشاتِ الآنَ نحو سَبْعَةَ عَشَرَ مليونًا، مقابلَ تِسْعَةٍ وعشرينَ مليونَ عاملٍ تقريبًا يدفعونَ التأميناتِ. ومَعَ تطوُّرِ الخَدَمَاتِ الصِّحيةِ وأنظمةِ التأمينِ والرعايةِ، فمتوسطُ الأعمارِ في فرنسا يصلُ إلى اثنينِ وثمانينَ عامًا، في المقابلِ معدَّلُ خصوبةِ النساءِ بفرنسا في انخفاضٍ مستمرٍ مِنْ خمسينياتِ القرنِ الماضي حتى الآنَ، حيثُ انخفضَ مِنْ نحوِ اثنين وثمانٍ مِنْ عَشَرَةٍ إلى واحدٍ وثمانٍ مِنْ عَشَرَةٍ في عددِ الأطفالِ، مَعَ تطوُّرِ وسائلِ مَنعِ الحملِ وتفضيلِ نسبةٍ كبيرةٍ مِنَ النساءِ التفرغَ للعملِ.

تتهدِّدُ فرنسا بقنبلةٍ ديموغرافيةٍ مؤقتةٍ، تتمثَّلُ في زيادةِ عددِ كبارِ السنِّ غيرِ العاملينَ في المجتمعِ مقابلَ نقصِ عددِ العاملينَ الشبابِ.

وفي الواقعِ، فرنسا ذاتَ أعلى معدَّلِ خصوبةٍ في الاتحادِ الأوروبيِّ، حيث تعاني دُوَلُ الاتحادِ الأوروبيِّ كلُّهَا تقريبًا مِنْ نفسِ أزمةِ السَّعَةِ السكانيةِ التي تنخفِضُ مَعَ الوقتِ، ما يهدِّدُ اقتصادَ كلِّ دُوَلِ العالمِ المتقدمِ تقريبًا حتى خارجَ الاتحادِ الأوروبيِّ، حتى الصينَ نفسَهَا بدأت تعاني مِنْ فجوةٍ مشابهةٍ بعدَ سنواتٍ طويلةٍ مِنْ تحديدِ النَّسْلِ الإجباريِّ.

الأمرُ إذنْ يتجاوزُ فرنسا ليشملَ مستقبلَ الاقتصادِ العالميِّ كلِّه، وهي واحدةٌ مِنْ سلسلةِ أَزَماتٍ اقتصاديةٍ كبرى لا تنفكُّ تتالى على العالمِ في السنواتِ الأخيرةِ، وسياساتُ الدُّوَلِ لمواجهتِهَا بشكلٍ فرديٍّ، والتي ترمي البَنزينِ على النارِ.

يبدو أنَّ ما مضى، صَدِّقْ أو لا تُصَدِّقْ، كانَ أكثرَ عصورِ البشرِ منذُ بَدْءِ التاريخِ رفاهةً، حتى مَعَ كلِّ أَزَمَاتِه، وسيكونُ على شبابِ الجيلِ الحاليِّ والقادمِ سدادُ الفواتيرِ.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter