أنت تقرأ الآن:

أزمة أشباه الموصّلات.. العالم يعاني من نقص الرقائق

أزمة أشباه الموصّلات.. العالم يعاني من نقص الرقائق

هل لاحظت الصعوبة العالمية غير المفهومة في شراء جهاز “سوني بلايستيشن 5” أو آخر إصدارات ميكروسوفت إكس بوكس؟ 

هل يحيرك ارتفاع الأسعار غير المفهوم مؤخرًا للهواتف والحواسب المحمولة والأجهزة الإلكترونية عمومًا، وتأخر إصدار الأجهزة الجديدة خصوصًا مع عدم توفرها؟ 

قد يعزو الواحد منا أسباب ذلك إلى أزمة اقتصادية محلية ما في بلده، لكن لو بحثت قليلًا ستجد هذه المشكلات عالمية الطابع. فهناك نقص حاد في الإلكترونيات على مستوى العالم، والتأثير يتجاوز مجرد تأخر انتشار أجهزة البلايستيشن. التأثير هو خسارة مئات مليارات الدولارات في مختلف القطاعات الصناعية، والسبب… أزمة نقص أشباه الموصلات.

ما هي أشباه الموصلات؟

يُطلق لقب أشباه الموصلات على العناصر الكيميائية في منتصف الجدول الدوري، والتي لا هي موصلات كهربية ولا عوازل للكهرباء، وذات خصائص كيميائية مميزة تجعلها مادة مثالية لصنع عناصر إلكترونية عدة هي أساس الصناعات الإلكترونية في يومنا هذا.

أشهر تلك المواد السيليكون الذي جاء منه اسم “وادي السيليكون” (Silicon Valley)، حيث التجمع الأمريكي الأشهر لشركات التكنولوجيا في العالم.

تعود أهمية هذه المادة إلى عام 1947، حين كان عالم الإلكترونيات يعتمد على استخدام الصمامات المفرغة، وهي عناصر إلكترونية ضخمة الحجم، وبطيئة، وتنتج حرارة عالية قد تفسد ما يحيط بها من مكونات. لكن في 1947 اخترع فريق من العلماء الأمريكيين (والتر براين وجون باردين ووليام شوكلي) لأول مرة، الترانزستور باستخدام المواد شبه الموصلة، وهي نبيطة إلكترونية صغيرة الحجم، وتقوم بعمل الصمامات بكفاءة أفضل ودون حرارة ولا مشكلات جانبية، فحصلوا على جائزة نوبل لهذا الاختراع. 

اختراع الترانزستور كان بداية كل التطور الهائل في التكنولوجيا الإلكترونية التي وصلت إلى الهاتف أو الحاسب الذي تستخدمه الآن في قراءة مقالتنا… 

مع الوقت استطاع العلماء تطوير أشباه الموصلات بهدف إنتاج رقائق أصغر مئات المرات من عقلة الإصبع، لكنها تضم داخلها ملايين وربما مليارات الترانزستورات. تلك هي “الدوائر المدمجة” (Integrated Circuits ICs)، ومنها يصنعون شرائح المعالجات وكل ما هو إلكتروني تقريبًا.

قد يبدو الحديث عن أزمة نقص أشباه الموصلات للوهلة الأولى وكأن المواد شبه الموصلة الأولية المستخدمة في الصناعة قد شحت من الطبيعة، مثل الوقود الأحفوري مثلًا، لكن في الواقع يُستخرج السيلكون من الرمال، أي إن المواد الطبيعية الأولية متوفرة بلا حصر تقريبًا، بل إن السيليكون سابع أكثر مادة متوفرة في الكون كله. إذن أزمة نقص أشباه الموصلات ليست طبيعية بأي حال من الأحوال، بل في أساسها صناعية.

كيف حدثت الأزمة؟

عوامل عدة اجتمعت على حين غرة لتشكل واحدة من أسوأ الأزمات الصناعية الحديثة، أهمها على الإطلاق، وربما السبب الرئيس، أن تلك الصناعة شديدة التعقيد والدقة، وتحتاج إلى تكنولوجيا عالية حديثة مرتفعة التكلفة، إضافةً إلى أنها تتطور بسرعة شديدة، وتحتاج إلى مواكبة تقنيات الصناعة وتحديثها طوال الوقت تقريبًا. 

وبينما يسهل عمل الباحثين المستقلين والشركات الناشئة الجديدة على “تصميم” المعالجات وتطويرها، يصعب جدًّا صناعتها وبيعها بشكل تجاري، ما يجعل شركات عالمية قليلة تعمل على صناعة شرائح المعالجات بنفسها، وتعتمد عليها الصناعات المختلفة الأخرى، مثل Intel الأمريكية وSamsung الكورية وTSMC التايوانية وSMIC الصينية. 

كل من يصنع منتجًا إلكترونيًّا يحتاج إلى معالج أو ذاكرة أو أي نوع من شرائح أشباه الموصّلات، أن يلجأ إلى واحدة من الشركات العالمية القليلة لشراء ما يحتاج إليه. هكذا باتت لدينا أرض خصبة لبداية أزمة، وعناصر الأزمة تشكلت تباعًا كالتالي:

– في الأعوام الأخيرة بات كل شيء تقريبًا “ذكيًّا”، لم تعد المعالجات مقتصرة على الحواسيب والهواتف والمعدات الصناعية والأكاديمية، بل صارت الثلاجة ذكية والفرن كذلك، صارت كهرباء البيوت تعمل عن بعد ويديرها نظام تحكم ذكي. انتشرت تكنولوجيا إنترنت الأشياء التي تجعل تفاصيل الحياة العادية كلها متصلة بالشبكة، وخصوصًا مع تكنولوجيا اتصالات الجيل الخامس، فصار الطلب على شرائح المعالجات والذاكرة أكثر وأكثر لتنظيم كل هذه الاتصالات. وربما كان الأكثر تأثيرًا هو ثورة صناعة السيارات الأخيرة. فبعدما كانت السيارات، حتى وقت قريب في القرن السابق، كتلة حديد ومحركات، أصبحت الآن مجموعة حواسيب تمشي على عجل، في كل ركن في السيارات الحديثة “حساس” (sensor) يعمل على ضبط شيء ما ومعالجته، باتت السيارة العادية الآن تتطلب بضع مئات من الرقاقات لصنعها، وأحيانًا بضعة آلاف. كل هذا أدى إلى ارتفاع هائل في الطلب على صناعة أشباه الموصلات لم يواكبها تحديث للبنية التحتية للصناعة، فالمصانع التي كانت بالأمس تنتج معالجات للحواسيب والهواتف فقط، صارت مطالبةً الآن بإنتاج شرائح حتى للثلاجات.

– ثم، بالطبع، كورونا.

لن يحدث أن تجد عنوانًا يتحدث عن “أزمة شيء ما”، ولا تكون جائحة فيروس كورونا المستجد من أسبابها، فقد كانت إعصارًا عصف بنظام الحياة المعاصرة الذي اعتدناه في كل المناحي تقريبًا. 

اندلعت من قبل أزمات محدودة في توفر شرائح أشباه الموصلات، لكن الأزمة التي أطلقت عنانها الجائحة كانت الأعنف. في البداية كان توقف الإنتاج في مصانع كثيرة بسبب العزلة والحظر وانتشار الفيروس في عدد من البلاد التي تحتضن مصانع المعالجات الكبرى، لكنْ صاحَب ذلك اتجاه نسبة كبيرة من سكان العالم إلى العمل والتعلم من البيت، فحدث تسارع غير مسبوق في التحول الرقمي للعالم كله، وأصبح الطلب على المنتجات الإلكترونية هائلًا في عام الجائحة. 

كم شخص تعرفه بشكل شخصي احتاج إلى حاسب جديد أو هاتف جديد ليستطيع متابعة عمله من البيت؟ مبيعات هذه المنتجات تضاعفت وبات الطلب عليها أضخم ما يكون. وشركات المعالجات القليلة المطلوب منها الوفاء بكل الطلبات المنهمرة عليها شبه متعطلة بسبب الجائحة.

      – حتى من قبل الجائحة، كانت الأزمة في طور التكوين نتيجة الحرب التجارية بين أمريكا والصين، والتعريفات الجمركية التي فرضها ترامب على البضائع الصينية. الصين من أهم الدول المستوردة للشرائح بطبيعة الحال، والمورّدة لها أيضًا، وشبكات الاستيراد والتصدير العالمية بالغة التعقيد لدرجة تجعل قرارًا مثل هذا ذا أثر ضخم في الصناعة والتوريد. هكذا كانت صناعة أشباه الموصلات في حال مرتبك أصلًا من قبل بدء الجائحة.

      – لصنع المعالجات تحتاج المصانع إلى كم هائل من المياه فائقة النقاء يوميًّا لتنظيف المصانع والتبريد ومراحل التصنيع المختلفة. مصانع شركة TSMC وحدها تستخدم أكثر من 63000 طن من المياه يوميًّا. وفي 2021 واجهت تايوان جفافًا هو الأسوأ منذ أكثر من 50 عامًا، ما تسبّب في تعطل ضخم في واحدة من أهم شركات المعالجات في العالم، وكانت هناك عاصفة أوقفت الإنتاج في مصنع بولاية تكساس الأمريكية في فبراير، وحريق كبير شب في مصنع آخر في اليابان في مارس. 

هكذا أسهمت الطبيعة بدورها في زيادة الأزمة.

العواقب والتأثير

لا تتوفر أرقام دقيقة عن تأثير الأزمة التي لم تستفحل إلا في العام الحالي، غير أن تأثيرها ملموس وبشدة.

قطاع الهواتف المحمولة ربما هو الأقل تضررًا رغم أنه من أكبر المستهلكين، وذلك لأن كبريات الشركات تشتري المعالجات وتراكمها بكميات هائلة على الدوام بما يكفي لاستمرارها لفترة، لكن هذا يضمن استقرارها لفترة طويلة، وبالفعل ستجد الإصدارات الجديدة في هذا العام أقل، وكذلك أكثر حذرًا من الأعوام السابقة، وكان “تيم كوكس”، مدير آبل التنفيذي، صرح بأنه يتوقع التأثر بالسلب في إنتاج أجهزة آيفون وآيباد الجديدة، وصرح أحد مديري سامسونغ، في اجتماع خلال شهر مارس السابق، أن الشركة قد تضطر إلى عدم إصدار هاتف “Galaxy note” جديد هذا العام.

واعترفت شركتا “سامسونغ” و”إل جي” أيضًا بأن قطع أجهزة التلفاز المنزلية قد يشهد نقصًا وتضررًا كبيرين.

أجهزة الألعاب الجديدة المتطورة، كما ذكرنا في البداية، شحيحة التوفر منذ صدورها، ومن المتوقع أن تظل كذلك ما دامت الأزمة قائمة.

لكن يظل القطاع الأكثر تضررًا هو قطاع السيارات رغم أنه يستهلك من 5% إلى 10% فقط من إنتاج الرقاقات العالمية.

كان الطلب على السيارات الجديدة منخفضًا في بداية جائحة كورونا، لكن بمرور الوقت، ومع عودة الحياة وعزوف الناس عن المواصلات العامة منعًا للاختلاط، عاد الطلب على السيارات أعلى مما كان قبلها، لكن سيارات كثيرة ترقد ميتة في مخازن المصانع بانتظار المعالجات. 

لم يعد من الممكن إنتاج سيارات كالقديمة من دون نظم ملاحة وحواسيب داخلية لجميع المهام، من الأساسية إلى شديدة الرفاهية. لن يتقبل المستخدمون بسهولة أن تكون سيارات عام 2020 و2021 أقل جودة من سيارات الأعوام السابقة.

شركات مثل فورد وفولكسفاغن وجاغوار ولاندروفر اضطرت إلى إغلاق بعض مصانعها وتسريح عمالها وقطع إنتاجها بسبب الأزمة. لكن شركات أخرى، مثل نيسان ورينو، بدأت في التخلي عن بعض مميزات الرفاهية بسبب الأزمة على أمل أن يتفهم عملاؤها السبب.

من المتوقع بلوغ مجمل خسائر قطاع السيارات 210 مليارات دولار بنهاية 2021.

إلى متى؟

إذن، متى تنتهي الأزمة؟

تتنوع الآراء لتعقّد الأسباب وعدم البت النهائي في إمكانية حلها. يقترح المدير التنفيذي لشركة الإلكترونيات الفرنسية “STMicro” أن الأزمة ستنتهي مع بدايات 2023، ويقترح المدير التنفيذي لشركة “Stellantis” المالكة لعدد كبير من أشهر ماركات السيارات العالمية، أن النقص قد يطول في 2022 كلها، ومدير شركة إنتل يحسب أنها قد تستمر عامين.

في مايو أعلنت كوريا الجنوبية ضخ 451 مليار دولار استثمارًا في صناعة أشباه الموصلات، وصوّت الكونغرس الأمريكي على دعم مصانع أشباه الموصلات بـ52 مليار دولار، وأعرب جو بايدن، الرئيس الأمريكي، عن اهتمامه باعتبار تلك الصناعة أولوية لأمريكا في الفترة القادمة لمنع أزمة مشابهة من التكرار، ويسعى الاتحاد الأوروبي إلى مضاعفة نصيبه في مجال تصنيع شرائح أشباه الموصلات بنسبة 20% قبل 2030.

لكن بناء مصانع جديدة وإدخالها في دورة الإنتاج العالمية ليس بالأمر الذي يتم في يوم وليلة، يحتاج ذلك إلى سنوات، وبخاصة في صناعة بالغة الدقة والتطور مثل تلك، حتى لو توفرت المليارات لحظيًّا.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter