أنت تقرأ الآن:

ظاهرة الغسل الأخضر: كيف تخدع الشركات عملاءها بمنتجات تبدو صديقةً للبيئة؟

ظاهرة الغسل الأخضر: كيف تخدع الشركات عملاءها بمنتجات تبدو صديقةً للبيئة؟

خلال إحدى رحلاته في الثمانينيات من القرن الماضي، كان عالم البيئة الأمريكي جاي ويسترفيلد يقيم في فندق طلب من ضيوفه إعادة استخدام “المناشف” بهدف “الحفاظ على البيئة”. لكن ويسترفيلد لاحظ أن كمية هدر الفندق في النواحي الأخرى هائلة، ولا يبذل أي جهود واضحة تحقق ما يدعو إليه. 

وبعد بحث عميق اكتشف أن الفندق كان يخفّض تكاليف إعادة غسل المناشف مستخدمًا خدعة ترويج سلوكيات صديقة للبيئة. 

بعد تلك الحادثة كتب ويسترفيلد أفكاره حول تلك الظاهرة وأسماها “الغسل الأخضر” للإشارة إلى عدم الجدية في الحفاظ على البيئة بهدف خداع المتلقي. 

تخفيض التكاليف ليس السبب الوحيد لترديد شعارات خادعة تدعو إلى الحفاظ على البيئة، فقد تحاول الشركات إخفاء جرائمها ضد البيئة أو التستر عليها بحملة دعائية بيئية مزيفة. إذ تجد على معظم المنتجات المتداولة في هذه الأيام كلمات مثل “خضراء” أو “صديقة للبيئة” أو “مستدامة” أو “نباتي”، وقد تكون خدعة تسويقية بهدف زيادة البيع. 

فلقد أثبتت بعض الأبحاث أن الأشخاص الذين ولدوا في الفترة ما بين 1995 و2010 يميلون إلى شراء منتجات تحمل بين ثناياها قضايا عالمية من بينها قضية الحفاظ على البيئة. 

يتعرض عدد كبير من المستهلكين للخداع بهذه الشعارات، ولا يدققون في ما تعنيه الشركات بهذه الكلمات الملصقة على منتجاتها التي لن تعرّضها لأي محاسبة أمام جهات قانونية، فلم يتم الاتفاق على معنى عالمي موحد وواضح لهذه المصطلحات. 

وقد أجرى الاتحاد الأوروبي مؤخرًا بحثًا علميًّا أثبت فيه أن حوالي 42% من المتاجر الإلكترونية تضلل المستهلكين بمدى التزامها بمعايير الحفاظ على البيئة، في ما يطلق عليه مصطلح “ظاهرة الغسل الأخضر”.

تترك الشركات الرائدة انطباعًا لدى المستهلك بأنها انتبهت مؤخرًا إلى الجرائم المرتكبة ضد البيئة. لذا، فإنها ستتخذ من الآن فصاعدًا خطوات فعالة بشأن التحول إلى الاستدامة عن طريق تقديم نسخة صديقة للبيئة لمنتجاتها بدايةً من السيارات الكهربائية حتى الأكياس القابلة لإعادة الاستخدام أو تلك التي تتحلل طبيعيًّا، لكن معظم الشركات تكتفي بابتكار مصطلحات جديدة ومختلفة لتظهر منتجاتها باعتبارها صديقة للبيئة، وهذا السلاح هو الأمثل في إرباك المستهلكين. 

من بين المصطلحات المستخدمة مصطلح “أخضر” الذي يوحي بالحفاظ على البيئة، حيث ينتشر في الخطاب العام في شتى المجالات بدايةً من فن العمارة إلى الموضة. 

ومصطلح “صديق البيئة” الذي يتم استخدامه للإشارة إلى الحرص على عدم تلوثها. ومصطلح “مستدام” الذي يؤكد سلامة السلوكيات التي تمارسها الأجيال الحالية بحيث لا تؤثر سلبًا في الأجيال القادمة ومستقبل الأرض. ومن ثم، فإن الاستدامة تتطلب معايير أكثر من مجرد كونها صديقة للبيئة، حيث يمكن تصنيع منتجات من مواد صديقة للبيئة، لكنها تتطلب كثيرًا من الطاقة في أثناء التصنيع والشحن، ولا توجد طريقة مناسبة لإعادة تدويرها. ومصطلح “خالٍ من المكونات الضارة” الذي يعني أن المنتج لا يسبب أضرارًا في صحة الإنسان أو البيئة. 

ومصطلح “عضوي” الذي يشير إلى منتجات خالية من المواد الكيميائية الاصطناعية الضارة بالبيئة. ومصطلح “تجارة عادلة” الذي يشجع على احترام البيئة من حيث استخدام المواد الخام من البلدان النامية. ومصطلح “تجارة أخلاقية” الذي يصف المنتجات المصنوعة في ظروف بيئية وعملية صحية. ومصطلح “يدوي” الذي يدل على عدم استخدام آلة في إنتاجه. 

كل تلك المصطلحات البيئية تتشابك وتتقاطع، وأحيانًا تترادف، إلا أن استخدام الشركات لها خلال حملاتها الإعلانية لمنتجاتها لا تعني بالضرورة الالتزام الحرفي بها، حيث يمكنها الالتفاف حول مصطلح ما بتطبيقه فقط في إحدى مراحل تصنيعه دون المراحل الأخرى.    

المصطلحات كالأسلحة في أيدي الشركات

تعتمد الشركات على بعض الأساليب التي تظهر منتجاتها أكثر محافظةً على البيئة، من بينها إبراز مواصفات صديقة للبيئة في منتجاتها، مثل تصنيعها من مواد قابلة للتدوير، وفي المقابل إخفاء مواصفات قد يكون لها التأثير السلبي الأكبر في البيئة، مثل ممارساتها في استخدام الطاقة في أثناء عملية التصنيع التي تنتج انبعاث الغازات الدفينة التي تفاقم الاحتباس الحراري. أو تتعمد كتابة عبارات للحفاظ على البيئة على منتجاتها دون دليل. 

على سبيل المثال: مصباح كهربائي يوصف بالحفاظ على الطاقة دون بيانات واضحة، أو استخدام مصطلحات فضفاضة لا يمكن فهمها بدقة مثل مصطلح “مكونات طبيعية”، على الرغم من أن هذه المكونات الطبيعية تحتاج إلى مواد مضافة كي تكون لها فاعلية، كمنتجات التجميل التي توصف بأنها طبيعية في حين أن نسبة هذه المكونات ضئيلة. أو ذكر معلومة صحيحة من الناحية التقنية، لكنها ليست ميزة في هذا المنتج دون غيره، على سبيل المثال خلوّ المنتج من “الفريون” المحظور قانونيًّا، يترك انطباعًا لدى المستهلك بأن الشركة تطوعت بعدم استخدامه. أو الادعاء بأنها أكثر حفاظًا عن البيئة مقارنةً بمثيلتها في السوق، على سبيل المثال إنتاج سيجارة عضوية، لكن السيجارة في حد ذاتها تضر بالبيئة. أو خلق شهادات بيئية من مؤسسات غير موجودة من الأساس. أو تعمّد إضافة كلمة “مستدام” أو “صديق للبيئة” أو “الاتجاه نحو مجتمع أخضر” بشكلٍ فضفاض وغير ملموس.

لم ينحصر استخدام تلك الكلمات الرنانة على صناعة بعينها أو مجال محدد. فالقميص المصنوع من القطن لم يتعرض لمواد كيميائية، والسيارة التي لا تنبعث منها عوادم تسبب تلوثًا للهواء، والمدن الكاملة المبنية بطريقة لا تضر البيئة، والوجبة الغذائية التي لن تؤذي التنوع البيولوجي، والرئيس السابق الولايات المتحدة دونالد ترامب الذي يلقب نفسه بـ”الرئيس الأول” في الحفاظ على البيئة، على الرغم من انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، كلها أمثلة تبدو أخبارًا سعيدة، فالهدف المعلن هو التعهد بتقليل انبعاث الكربون الذي يؤجج أزمة المناخ التي أصبحت أكبر تهديد لوجود الإنسان على وجه الأرض. لكن قبل أن نحتفل بهذه الكثافة الرحيمة بالبيئة، علينا أن نتساءل: كيف نعرف إذا كانت تلك الشركات جادة في مسعاها أم مجرد محاولة لإضفاء صبغة للحفاظ على استمرارها؟

الغث والسمين

بعد تطوير استمر ثلاث سنوات، أعلنت شركة الوجبات السريعة الأمريكية ماكدونالدز العام الماضي انطلاق “ماك بلانت” التي تقدم منتجات نباتية، وقبلها بعام كانت شركة الوجبات السريعة الأمريكية “برغر كينغ” أطلقت النسخة النباتية. 

أكدت شركة ماكدونالدز أن عملية طهي منتجاتها النباتية منفصلة عن اللحوم ومنتجات الألبان لضمان عدم اختلاطهما، أما “برغر كينغ“، فلم تفصل عملية طهي المنتجين، ولذلك من المحتمل انتقال بعض مكونات منتجات اللحوم إلى المنتجات النباتية، على الرغم من ادّعائها أن لديها نسخة نباتية 100%، ومن ثم، فإن هذا الادعاء مضلل للنباتيين. مع العلم أن النسخة النباتية موجهة إلى شريحة كبيرة من العملاء الذين قرروا التحول إلى النباتية بهدف الحفاظ على البيئة، إيمانًا منهم بأن النظم الغذائية التي تعتمد على المنتجات النباتية حل رئيس للتخفيف من أزمة المناخ. لكن المشكلة المتعلقة بانتقال بعض المكونات الحيوانية إلى النسخة النباتية أو عدمها ليست محورية في النقاش حول الحفاظ على البيئة، إذا ما قورنت بعملية تضليل شركات الوجبات السريعة المنظم لعملائها بشأن إضفاء صفة الاستدامة أو النباتية. 

تنتهج هذه الشركات سياسات لتدمير الغابات بهدف تطوير مزارع زيت النخيل والقمح والذرة وفول الصويا وغيرها من المحاصيل التي تستخدمها في مكونات منتجاتها، واستخدام أراضٍ شاسعة لتربية الحيوانات التي تُفاقم بدورها ظاهرة الاحتباس الحراري، فاستهلاك شركة ماكدونالدز من الحيوانات فقط يشارك بنسبة 29% من انبعاث ثاني أكسيد الكربون من إجمالي الانبعاث الذي يخلفه منتجاتها، وفقًا لإحصائيات عام 2018. 

في العام نفسه أعلنت الشركة نفسها أنها باتت الشركة الأولى التي تضع أهدافًا لتقليل انبعاث الغازات التي تسبب الاحتباس الحراري استنادًا إلى أبحاث علمية، سواء من خلال إعادة تقييم المواد المستخدمة في التغليف، وإعادة النظر في المكونات عالية الكربون مثل لحوم البقر. الأهداف تصب في تقليل الانبعاثات التي تصدر من منتجاتها بنسبة 36% بحلول عام 2030، أي ما يعادل تعطيل 32 مليون سيارة عن العمل لمدة عام كامل، أو زراعة 3.8 مليارات شجرة وتركها تنمو لمدة عشر سنوات. 

وبحلول عام 2050 تتطلع الشركة إلى إنهاء انبعاثات غازات الاحتباس الحراري تمامًا من منتجاتها، وذلك تماشيًا مع رؤية 2050 العالمية للتنمية المستدامة، والتي تتبنّاها الأمم المتحدة.

قد تبدو الأهداف التي أعلنتها الشركة عظيمة، لكن بعملية حسابية بسيطة نتبين أنها مجرد خدعة،  فما زالت منتجات لحوم البقر فقط تطلق انبعاثات الكربون بما يعادل أكثر من 22 مليون طن سنويًّا من غازات الاحتباس الحراري، ولذلك لن تستطيع تحقيق هذه الأهداف في خلال المدة الزمنية المتبقية، إن استمرت بهذه الوتيرة. فإنتاج لحوم البقر وحده مسؤول عن 25% من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

من يدفع الثمن؟

عندما ترسم شركة ما صورة المحافظ على البيئة في أعين عملائها، يشعر المستهلك بأن لها تأثيرًا إيجابيًّا فيه، ويصبح لها ميزة تنافسية على الشركات الأخرى.  

ورغم حصول الشركات على أرباح وفيرة وسريعة من خلال تضليل المستهلكين، فإن آثارًا سلبية مدمرة هي النتيجة المؤكدة التي ستلحق بالبيئة والمجتمع والشركات على حد سواء، لأن تلك الادعاءات تجعلنا نتوهم أن خطوات فعالة يتم اتخاذها في سبيل البيئة، ما يمنع الاستثمارات والابتكارات الحقيقية في هذا المجال اعتقادًا منا بأننا حققنا إنجازات ملموسة، وليس دعاية فقط. 

وهذه الممارسات تقلل من القدرة التنافسية للشركات الأخرى التي تسعى إلى حلول مستدامة حقيقية لأن الشركات المضللة الرائدة تسبقها في الاستحواذ على حصة سوقية كبيرة بتكلفة لا تتعدى ثمن الدعاية مقابل تكاليف أكثر تتكبدها الشركات التي تسعى بجِدٍّ للتغيير. 

لكنّ جهودًا حكومية بُذلت من أجل تفادي حملات التسويق البيئية المضللة. فقد أصدرت لجنة التجارة الفيدرالية، وهي وكالة مستقلة تابعة لحكومة الولايات المتحدة، في عام 2010، دليلًا يحتوي على المعايير الواجب توفرها في التسويق البيئية، وإيضاح المصطلحات المرتبطة بها انطلاقا من مهمتها في تعزيز حماية المستهلك. 

ولم تفلت الشركات من جريمتها في خداع المستهلكين، إذ تتعقبها الهيئات التي تختص بالحفاظ على حقوق المستهلكين. فقد خضعت شركة الموضة السريعة “إتش آند إم” للتحقيق عام 2019 أمام مجلس المستهلك النرويجي بشأن ما ادعته حول الحفاظ على البيئة لأنها لم تكن واضحة ومحددة في مدى استدامتها مقارنةً بمنتجاتها الأخرى، ولذلك  تضلل المستهلكين بإضفاء انطباع أن هذه المنتجات “أكثر استدامة” مما هي عليها في الواقع، حيث تستغل غموض المصطلحات لتبدو أكثر وعيًا بقضية البيئة بهدف زيادة الأرباح. 

وأعلنت وكالة البيئة في المملكة المتحدة عن مشروع يهدف إلى توحيد معايير قياس الأداء البيئي لشركات الأغذية. وأصدرت هيئة المنافسة والأسواق في المملكة المتحدة توجيهات لضمان صدق ما تروّج له الشركات من حملات بيئية سميت “الكود الأخضر” للحملات الدعائية.

الاتجاه إلى محاسبة الشركات أو التدقيق في حملاتهم التجارية لم يظهر إلا في الآونة الأخيرة. فقد أصدرت الحكومة البريطانية “الكود الأخضر للحملات الدعائية” بعد مشاورات مكثفة مع الشركات، حيث طالبت بمزيد من التوضيحات حول هذه المطالبات البيئية، فلقد اختلط عليها الأمر.  

قد يكون قلق الشركات حقيقيًّا حتى لا تتعرض للنقد دون قصد منها، أو يكون مناورة أخرى هدفها تعقيد عملية المحاسبة.    

من المنطقي والطبيعي أن تحاسب الجهات الحكومية الشركات الخادعة، لكن الكارثة هنا أن بعض الحكومات تضلل مواطنيها مستخدمةً خدعة الحفاظ على البيئة. فقد وافقت الحكومة الدانماركية للاتحاد الأوروبي على مشروع بناء الجزيرة الاصطناعية “لينيتهولمن” في ميناء عاصمتها كوبنهاغن على الرغم من عدم التحقق من النتائج البيئية لبنائها، بل إنها أعلنت أن المشروع “أخضر” لأنه سيوفر للمواطنين حماية فعالة من الطقس القارس خلال العقود القادمة. لكن عمليات البناء الحالية التي يشارك فيها شاحنات تخلف العوادم أدخلت الشكوك في قلوب المواطنين الذين لم يستبشروا خيرًا ببناء الجزيرة لأن هذه العوادم على الأقل تكفي لتلوث البيئة في الأعوام المستقبلية القريبة.  

سرد بعض الأساليب التي ساهمت في خداع بعض المستهلكين قد يقلل من استخدامها، إلا أنه من المحتمل أن الشركات تستخدم طرقًا لم تكتشف بعد، وقد تطور أساليب أخرى. وعملية فحص كل العمليات التسويقية التي يتعرض لها المستهلك أو سيتعرض لها في المستقبل قد تبدو مرهِقة، لكن الوعي الذي المكتسب قد يبدو الحل الأمثل في التقليل من هذه الظاهرة. لكن السيناريو الآخر المحتمل هو أن انتشار ظاهرة الغسل الأخضر سيزيد تشكيك المستهلكين في الشركات الصادقة في دعواها للحفاظ على البيئة، ومن ثم ينخفض الإقبال على المنتجات الخضراء، وتتعرض البيئة ومن عليها للتدمير. 

لذا، فإن التمعن في قراءة مكونات المنتجات التي نشتريها أو البحث عبر الإنترنت عن إحدى الشركات ومطابقة أقوالها مع الحقائق والكف عن دعم شركات ثبت تورطها في ظاهرة الغسل البيئي من أهم الخطوات التي تبعث الأمل في مستقبل أفضل ولو قليلًا.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter