المدونة التحدي البولندي.. كيف تصبح عضوًا متمردًا بحرب كلامية في الاتحاد الأوروبي؟ Nuqta Doc منذ 3 سنوات في اليوم السابع من الشهر الماضي لهذا العام، صدر حكم المحكمة الدستورية العليا البولندية بأن بنود دستور البلاد لها أفضلية التنفيذ عند تعارضها مع قوانين الاتحاد الأوروبي. ينبئ هذا الحُكم بانهيار قيم الاتحاد الأوروبي، حيث لا يضع كل الدول الأعضاء على مسافة متساوية من القانون الأوروبي، ويحرّض على تجاهل المعايير التي تأسس عليها، ويعمل على تآكل مبادئه، ويعوق قدرته على الظهور بمظهر القوي، ليس فقط أمام أعضائه، بل أيضًا أمام الدول المحتمل انضمامها إليه، وأمام المجتمع الدولي كذلك. داخل الاتحاد الأوروبي عبّرت ألمانيا وفرنسا عن غضبهما بسبب تحدي بولندا القوانين الأوروبية، ولم يتأخرا في تذكيرها بأن عضوية الاتحاد الأوروبي تعني الانصياع القانوني الكامل غير المشروط للقواعد والقيم المشتركة، وليس مجرد التزام أخلاقي صوري، وأن بولندا وافقت على شروط عضوية الاتحاد الأوروبي. داخل بولندا نرى “دونالد توسك”، رئيس حزب المنصة المدنية المُعارض، والذي شغل منصب رئيس وزراء بولندا منذ عام 2007 حتى عام 2014، ورئاسة المجلس الأوروبي بين 2014 و2019، وقد نظّم مظاهرات في العاصمة وارسو وُصفت بـ”الحاشدة”. فقد تجمّع أكثر من 100 ألف مواطن في أكثر من 100 بلدة ومدينة في العاشر من أكتوبر الماضي، وذلك للاحتجاج على حكم المحكمة، واصفين إياه بـ”المزيف”، والقضاة بـ”المتنكرين المتآمرين” مع زعيم حزب القانون والعدالة “ياروسلاف كاتشينسكي”، الحزب الحاكم في البلاد، وذلك بهدف انتهاك الدستور لإخراج بولندا من الاتحاد الأوروبي. في المقابل دافع رئيس الوزراء البولندي “ماتيوس مورافسكي” الذي ينتمي للحزب الحاكم عن قرار المحكمة، نافيًا ما وصفه بـ”الخرافات التي ابتدعتها الأحزاب المعارضة حول انسحاب بلاده من الاتحاد الأوروبي”، متهمًا إياها بالجهل بالمسؤولية التي تضعها بلاده تجاه العائلة الأوروبية. وأكد زعيم حزب القانون والعدالة ياروسلاف كاتشينسكي أن ما يتردد على لسان الأحزاب المعارضة حول رغبة الحزب في انسحاب البلاد من الاتحاد الأوروبي محض أخبار كاذبة الهدف منها تخويف الناخبين الذين يؤيد أغلبيتهم عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي، وإن كانوا يعبّرون عن قلقهم من تقييد سيادتهم على أراضيهم، ومنحها للاتحاد الأوروبي. ولم يكن المعارضون وحدهم الذين يسيطرون على المشهد في شوارع العاصمة. فقد عبّر أنصار الحكومة عن تأييدهم لقرارات المحكمة العليا التي تضع حدًّا للتدخل المتزايد للاتحاد الأوروبي في بلادهم. لكن السؤال هنا: إذا كان قادة بولندا لا يريدون الخروج من الاتحاد الأوروبي، فلماذا يتحيزون ضد الاتحاد الأوروبي؟ جذور الأزمة اشتعلت الأزمة عندما أجريت التغييرات الأخيرة في المحكمة الدستورية العليا في بولندا، والتي شكك بعض القضاة في شرعيتها لأن زملاء جددًا تم تعيينهم بمعرفة الحزب الحاكم وبمباركة رئيس الوزراء ماتيوس مورافسكي. حاول القضاة استخدام القانون الأوروبي لإثبات عدم شرعية هذا التعيين، لكن رئيس الوزراء البولندي تصدّى لهم من خلال تحويل القضية إلى المحكمة الدستورية العليا التي حكمت بأولوية تنفيذ الدستور البولندي، مبررًا أن التغييرات تتعلق باستكمال الأعمال لعام 1989، والتي دارت بين الحزب الشيوعي الحاكم حينذاك وحركة التضامن المعارضة في أثناء مفاوضات المائدة المستديرة للاتفاق على الانتقال السلمي إلى الديمقراطية. وخلال الفترة الانتقالية لم يصدر قانون يمنع تولّي الشيوعيين من المناصب الرسمية، ولم يُطرد الشيوعيون من المؤسسات الحكومية. فقد تركز الاتفاق على الانتقال إلى انتخابات حرة ومستقلة دون اللجوء إلى عمليات انتقامية تطهيرية. منذ فوز حزب القانون والعدالة في الانتخابات البرلمانية عام 2005، يسعى ياروسلاف كاتشينسكي، نائب رئيس الوزراء الحالي الذي يشغل منصب رئيس الحزب منذ ذلك الحين، إلى صياغة قانون تطهير، حيث يزعم أن القضاء مليء بالشيوعيين، متحديًا بذلك اتفاق عام 1989. وهكذا قرر كاتشينسكي أن القضاء هو العائق أمام التحول الديمقراطي في بولندا، ويجب مراقبة القضاء وإصلاحه. منذ صعود حزب القانون والعدالة اليميني المحافظ إلى السلطة في بولندا عام 2015، دأب بشكل ممنهج على تقويض استقلالية القضاء، خصوصًا في المحكمة الدستورية العليا التي تعتبر أعلى محكمة في البلاد، وذلك من خلال استبدال القضاة، أو إجبارهم على التقاعد مبكرًا. ويعتمد الحزب اليميني على دعم وزير العدل الذي مُنِح صلاحيات واسعة في تعيين القضاة والمدّعين العموم على مستوى البلاد. وقبل هذا الخلاف امتنعت الحكومة عن تنفيذ حكمين أصدرتهما محكمة العدل الأوروبية بحل المجلس التأديبي للقضاة، حيث قيل أنهما صدرا بهدف ترهيبهم، وبررت تصرفها بأن القضاء المحلي يقع خارج سلطة الاتحاد الأوروبي، ولذلك، فإن الحكمين الصادرين من محكمة العدل الأوروبية غير قانونيين. قد تشير كل تلك الخلافات إلى أن الحزب الحاكم يخطط لانسحاب البلاد من الاتحاد الأوروبي، لكن زعيم حزب القانون والعدالة ياروسلاف كاتشينسكي، يؤكد رغبته في استمرار عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي، لكنه يميل إلى البحث عن “حلول جذرية” إذا لم يُحل الخلاف. هذه الحلول الجذرية تنضح بالعداء ضد الاتحاد الأوروبي. ففي تصريح لحزب العدالة والقانون الشهر الماضي اعتُبر أنه يحارب “المحتل القادم من بروكسل”، وأن انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي دليل عملي لإمكانية “هزيمة ديكتاتورية وبيروقراطية بروكسيل”. قد يكون أحد الاحتمالات بأن الحزب يمهد الطريق أمام خروج بولندا إذا اضطرت إلى دفع أموال تصب في ميزانية الاتحاد الأوروبي أكثر مما تأخذ منها، أو ربما تراوغ للحصول على أفضل تسوية ممكنة مع بروكسل لطلب مزيد من الأموال، أو ربما كانت المعارضة على حق حين اتهمت الحكومة بتنفيذ أجندة روسية. لكن المؤكد أن الحكومة البولندية ما زالت تتفاوض مع المفوضية الأوروبية للحصول على تمويل صندوق مواجهة وباء كورونا الذي يبلغ 66 مليار دولار، تلك الأموال التي قررت الحكومة البولندية استخدامها في تمويل برنامج “الصفقة البولندية“، وهو قانون ضريبي جديد يشمل تخفيض ضريبة الدخل على الشركات، وقد أعلن عنه حزب القانون والعدالة في مايو الماضي، ويروّج له بهدف توطيد شعبيته بين المواطنين، بحيث توافق عليه الحكومة في غضون أربعة أشهر فقط، ومن المتوقع أن يدخل حيز التنفيذ في بداية عام 2022. التحدي البولندي استندت بولندا في صدامها مع الاتحاد الأوروبي إلى قرار صدر من المحكمة الألمانية عام 2020، ويقضي بأن محكمة العدل الأوروبية تعدت سلطاتها بشأن قضية تتعلق بشراء البنك المركزي الأوروبي عددًا من السندات. لكن الحكاية لم تنته هنا، بل لها فصول أخرى. فلقد اتخذت المفوضية الأوروبية إجراءات قانونية ضد المحكمة الألمانية التي لم تعترض عليها، بل تساءلت عن طريقة تطبيق محكمة العدل الأوروبية القوانين التي تحكم تلك المسألة. وحتى لو افترضنا أن المحكمة الدستورية العليا في بولندا توصلت إلى هذا القرار، فإن عدم نزاهة المحكمة أفسدت الحكم، حيث أثبتت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن واحدًا على الأقل من القضاة تم تعيينه بشكل مباشر من الحكومة البولندية، ومن ثم، فإن القرار الصادر بأفضلية المحكمة البولندية غير قانوني وغير دستوري. التحدي البولندي ضد الكتلة الأوروبية، ما يعني رغبة المسؤولين في هجرها، فرضية مبالغ فيها لأن 80% من المواطنين البولنديين يؤيدون عضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي، وبولندا تستفيد في تجارتها من حرية حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال والعمالة في السوق الأوروبية المشتركة، وتعتمد على الدعم المالي الأوروبي في مواجهة تداعيات كورونا الاقتصادية. ورغم تأكيد رئيس الوزراء البولندي مورافسكي أن بلاده لا تنوي الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فإن ذلك لم يبدد قلق الاتحاد الأوروبي من احتمالية التعرّض لمأزق انسحاب بولندا إذا مارست الضغوط الطبيعية كي تنصاع بولندا للقوانين الحاكمة لكل الدول الأعضاء. اتّباع بولندا نهج بريطانيا في الانسحاب من الاتحاد الأوروبي يبدو أيضًا غير واقعي لأنها أضعف بكثير مما قد تطمح إليه، لكن الحزب الحاكم لا يرى أي ضرر في الحصول على بعض السيادة الوطنية التي يتخذها دعاية لإشعال حماسة بعض البولنديين الذين يشاركونه الإحساس بأن بلادهم لا ينبغي معاملتها كبلد أوروبي من الدرجة الثانية، وإيقاف التدخل الأوروبي الذي يبتكر أدوات جديدة لتقييد الإصلاحات التي ترغب الحكومة في تنفيذها، ليحولها إلى “مستعمرة قانونية“. في حالة استمرار تجاهل بولندا للقوانين الأوروبية، سيتعمق الخلاف بين المحاكم الأوروبية والمحاكم البولندية، وبخاصة من ناحية الاعتراف المتبادل للأحكام، وذلك في إطار أولوية الاتحاد الأوروبي لضمان حقوق المواطنين البولنديين، واستفادتهم من مزايا عضوية بلادهم فيه. ويعتمد حزب القانون والعدالة اليميني على دعم وزير العدل في البلاد، ومن ثم، فإن المواجهات القانونية والدستورية مع الاتحاد الأوروبي لن تنتهي عند تلك المسألة. حان وقت الانتقام الأوروبي لم يكن تجاهل بولندا القوانين الأوروبية الصدام الأول الذي يحدث بينها وبين الاتحاد الأوروبي. فكثيرًا ما كان الاتحاد الأوروبي يعلّق على مسائل تخص سيادة القانون وحرية الإعلام وحقوق الأقليات الجنسية. بعد امتناع بولندا عن الانصياع لقرارات محكمة العدل الأوروبية بحل المجلس التأديبي للقضاة، طبّقت المفوضية الأوروبية غرامات ضدها تصل إلى 1.2 مليون دولار يوميًّا، وكذلك قررت قطع الدعم المالي للمناطق البولندية التي أعلنت خلوّها من المثليين، وحجبت الأموال التي كانت خصصتها لها في إطار تمويل صندوق مواجهة فيروس كورونا، وبدأ في ربط بنود استلام أموال الميزانية الأوروبية مقابل احترام سيادة القوانين الأوروبية. منذ انضمام بولندا للاتحاد الأوروبي عام 2004، تلقّت دعمًا ماليًّا بحوالي 225 مليار دولار، ومن المفترض أن تحصل على مِنح وقروض خلال الميزانية التي ستنتهي عام 2027 تساوي هذا المبلغ، إضافةً إلى تمويل مواجهة تداعيات فيروس كورونا. المفوضية الأوروبية، وهي المؤسسة المسؤولة عن وضع مقترحات القوانين الجديدة للاتحاد الأوروبي، لا تشك في رغبة بولندا في الاستمرار في عضويتها في الاتحاد الأوروبي. فبولندا ببساطة مستفيدة، ولكنها متأكدة أن التغييرات التي أقرّتها المحكمة العليا البولندية ستنسف مبدأ استقلال القضاء، وستسمح للمحاكم بالتدخل السياسي، لكنها لن تقرر الإجراء الذي ستتخذه قبل تحليل قرار المحكمة الدستورية العليا إذا لم تتراجع عن الحكم، وستستخدم كل صلاحيتها القانونية والمالية لإعادة بولندا إلى المسار الصحيح تحت مظلة القوانين الأوروبية، لأن محكمة العدل الأوروبية لها أفضلية تنفيذ قراراتها على كل المحاكم المحلية والدستورية في كل الدول الأعضاء، ولأن التزامها بالقوانين والقيم والمعاهدات الأوروبية هي الكفالة الوحيدة لبقاء تماسك الاتحاد، لكن صلاحياتها لا تشمل طرد عضو من أعضاء الاتحاد الأوروبي. يرى رئيس الوزراء البولندي أن بروكسل تبدأ “حربًا عالمية ثالثة“، وذلك عندما قررت حجب الأموال المخصصة لدعم بلاده، ويرى أيضًا أنه مدافع شرس عن حقوق بلاده بكل الأسلحة التي يمتلكها، مهددًا بإشعال النار في أوروبا. يبدو من الكلمات التي يستخدمها المسؤولون في بولندا أن حربًا حقيقية بدأت، لكنها مجرد حرب كلامية عابرة يُراد بها غاية أخرى غير الخروج من الاتحاد الأوروبي بكل تأكيد، أو التمسك بقرارات المحكمة الدستورية العليا البولندية، وذلك لأن بولندا لن تستطيع تحمل مزيد من الغرامات، ولا يمكنها المجازفة بتقليص أو حجب الدعم المالي من الميزانية الأوروبية، فلن يقف الاتحاد الأوروبي مكتوف الأيدي أمام انتهاك قوانينه. الإجراءات التي يتخذها الاتحاد الأوروبي في مواجهته التمرد القانوني البولندي لا يعتبرها أساس الصراع الحقيقي، بل يطمح إلى التأثير في السياسات الداخلية من أجل تغيير ديمقراطي في الحكومة، إذ يؤمن أن أغلبية الشعب البولندي يريد البقاء داخل الاتحاد الأوروبي الذي يستفيد من تلك الصراعات، ليزيد من غضب المواطنين ضد الحكومة اليمينية بهدف تغييرها. ومن ثم، فإن الأهداف المعلنة للصراع بين الجبهتين تخفي بين طياتها كثيرًا من المشادات والنوايا المبيتة والحرب الكلامية الدائرة بينهما، والتي لن تفضي إلى أي نتائج ملموسة، حيث تستر كثيرًا من الصراعات التي تدور خلف الكواليس. شارك هذا المقال أضف تعليقك إلغاءلن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *التعليقاسمك * E-mail * Web Site احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.