أنت تقرأ الآن:

تيد كازينسكي: عبقري الرياضيات والإرهابي عدو التكنولوجيا

تيد كازينسكي: عبقري الرياضيات والإرهابي عدو التكنولوجيا

من طفل لعائلة بولندية مهاجرة تعيش في شيكاغو إلى طالب بجامعة هارفارد في سن 16، وأخيرًا صانع قنابل بدائية يعيش في كوخ خشبي في غابات مونتانا.

هكذا تحوّل المراهق العبقري “تيد كازينسكي” إلى عالم رياضيات بارع وأصغر أستاذ مساعد بجامعة كاليفورنيا بيركلي، ثم إلى ناقد صارم للتكنولوجيا والمجتمع الصناعي، قبل أن يصبح المطلوب الأول لمكتب التحقيقات الفيدرالية طيلة عقدين من الزمان.

تخصص “كازينسكي” في “التحليل العقدي” (Complex analysis)، وكتب أطروحته للدكتوراه عما يُدعى بـ”الدوال الحدّية” (Boundary Functions)، والتي نالت جائزة “سومنر مايرز” كأفضل أطروحة في الرياضيات لعام 1967، ليعيّن أستاذًا مساعدًا في جامعة كاليفورنيا بيركلي التي سيتركها فجأة بعد عامين.

كان “تيد” حريصًا على استقلاليته لأبعد حد، حيث ارتحل إلى غابات مونتانا ليحيا دون كهرباء، داخل كوخ يحتوي سريرًا وكرسيين وصناديق تخزين وموقد غاز، وكثيرًا من الكتب، متنقلًا على دراجة هوائية، ومطورًا فلسفةً ترفض المجتمع الصناعي/التكنولوجي الحديث بشكل نهائي وقاطع.  

لم يتوقف “كازينسكي” عند حدود التنظير، بل قرر اتخاذ خطوة ضد ما اعتقد أنه السبب الأول في معاناة البشر النفسية والاجتماعية، أي التكنولوجيا التي حوّلتهم من وجهة نظره إلى “منتجات معدلة هندسيًّا وتروس في آلة”، فاتخذ الإرهاب وسيلة ضد من اعتبرهم مسؤولين عن تلك المعاناة من أساتذة ومطورين في مجالات الحوسبة، مثل “ديفيد جيليرنتر” الأستاذ بجامعة ييل،  وعالم الوراثة “تشارلز إبستين”، وقد نجا كلاهما من الموت، وصولًا إلى أصحاب متاجر الكمبيوتر مثل “هيو سكرتون” الذي قُتل خارج متجره عام 1985، وهو أحد ثلاثة قتلتهم قنابل “كازينسكي” على مدار عقدين. أما الآخران، فهما “توماس موسر”، مدير تنفيذي بمجال الإعلانات، و”غيلبرت موراي” رئيس جمعية غابات كاليفورنيا وعضو لوبي صناعة الأخشاب. 

ولم يندر أن وجَّه “كازينسكي” ضرباته بشكل عشوائي ضد المجتمع ككل، حيث استهدف الخطوط الأمريكية الجوية بقنبلتين: أولهما استهدفت طائرة مدنية عام 1979، لكنها لم تنفجر، والأخرى استهدفت رئيس شركة يونايتد إيرلاينز مسببةً له إصابات طفيفة.   

عبودية التكنولوجيا؟ 

يتبنّى “كازينسكي” الحتمية التكنولوجية بصورتها السلبية، والتي ترى في التكنولوجيا بحد ذاتها سببًا في قمع الإنسان واستعباده، وذلك بغض النظر عمن يملكها، وبعيدًا عن المصالح التي يخدمها. 

ذلك التطرف هو النقيض لتطرف آخر تمثله الحتمية التكنولوجية الإيجابية، والتي ترى في التكنولوجيا بحد ذاتها دافعًا لتحرر الإنسان، بمعزل أيضًا عمن يملكها وفي ما يستخدمها.

يقسّم “كازينسكي” الرغبات البشرية إلى 3 مجموعات:

1.      رغبات يمكن إشباعها بأقل قدر من الجهد.

2.    رغبات يمكن إشباعها، لكن بقدر كبير من الجهد، وتضم: الحاجات الأساسية للبشر، سواء المادية من طعام وكساء… إلخ، أو المعنوية/الاجتماعية، مثل الحب والتعاطف… إلخ، وهي التي تشبع ما يدعوه كازينسكي “نزعة القدرة” (Power Process) لدى البشر، والتي تتكون من 4 عناصر أساسية:  

·        امتلاك غاية

·        بذل الجهد في سبيلها

·        تحقيقها 

·        الشعور بالاستقلالية 

3.       رغبات من المستحيل إشباعها مهما تبذل من جهد في ذلك.

  وهكذا، كلما طغى النوع الثالث على دوافع الفرد، أورثه ذلك الإحباط والغضب والانهزامية.

بحسب كازينسكي: في المجتمعات التي سبقت الثورة الصناعية، تطلّب تحقيق الرغبات من النوع الثاني بذل قدر أكبر من الجهد، ونتج عن تحقيقها بالضرورة قدر أكبر من الإشباع، أمّا في المجتمعات الصناعية/التكنولوجية الحديثة، حيث صارت تلبية الحاجات الأساسية من طعام وكساء أكثر سهولة بالنسبة إلى شريحة متزايدة من البشر من الطبقات الوسطى والعليا خصوصًا (بحيث يمكن الآن تصنيفها تحت النوع الأول)، تتحول دوافع النوع الثاني إلى دوافع مصطنعة، أي أهداف افتراضية يضعها البشر لأنفسهم، ثم يسعون لتحقيقها، كأن يسعى أحدهم على سبيل المثال إلى تحطيم رقم قياسي في إحدى الرياضات، أو امتلاك سلعة رفاهية ما.

وهكذا، تطغى على الأفراد في المجتمعات الصناعية/التكنولوجية الحديثة الدوافع من النوعين: الأول والثالث. وتتحول أهداف النوع الثاني من أهداف ملموسة تحقق إشباعًا إلى أهداف مفبركة أو مصطنعة، تخلقها الإعلانات الحديثة، فتدفع الأفراد إلى مطاردة أشياء لم تكن ليخطر على بال أسلافهم أن ينتبهوا لها، وتَنتج المعاناة النفسية في المجتمع المعاصر من انحراف نزعة القدرة تلك عن مسارها الطبيعي (أهدافها الطبيعية) إلى الغايات المصطنعة.

فماذا عن تحقيق تلك الأهداف المفبركة؟ هل يحقق إشباعًا؟

يظل إشباعًا ناقصًا، لأنه لا يمكن برأي كازينسكي إشباع نزعة القدرة إلا عبر أنشطة ذات ضرورة ظاهرة، من قبيل الأنشطة الهادفة إلى تأمين الضروريات البيولوجية كالطعام والشراب والجنس، أو المعنوية مثل الحب.

ونظام التوظيف الحديث يستبعد المبدعين والمبتكرين، مُفضِّلًا الخضوع والتكرار على الجدل والابتكار. فالشركة الحديثة تشترط موظفين مطيعين يؤدون أدوارًا صغيرة محددة بدقة، ما يقمع العنصر الرابع من عناصر القدرة لدى البشر، وهو شعور الاستقلالية، والذي يحده سيطرة نماذج المجتمع الاستهلاكي الجاهزة (الصحة والجمال والنجاح والسعادة) على روح الفرد. فبرأيه يعني مفهوم الصحة العقلية في مجتمعنا “مدى قدرة المرء على التصرف وفقًا لاحتياجات النظام (الضرورة التكنولوجية) دون أن يصاب بالتوتر”، ودون أن تتاح له فرصة الاختلاء بنفسه، أو التماس الطبيعة المقصية عن المدن المزدحمة، وحتى عن أجزاء واسعة من الريف بعد أن اقتحمته آليات الإنتاج المكثفة والملوِّثة.   

..

بعد تحقيقات استمرت طيلة عقدين، اعتقل “كازينسكي” في إبريل عام 1993 داخل كوخه بمونتانا، وذلك بعد أن ساهم في كشف هويته بيان سبق أن أرسله بصفة “مجهول” إلى صحيفتي “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” قبلها بعام، عنوانه “المجتمع الصناعي ومستقبله”، تعرَّف فيه ديفيد كازينسكي على بعض أفكار أخيه وأسلوب كتابته، فأبلغ المحققين، وقد رفض “تيد” ادعاء المرض العقلي لتخفيف العقوبة، ويقضي الآن عقوبة السجن لمدى الحياة في سجن “إيه دي إكس فلورنس” بولاية كولورادو الأمريكية.

شارك هذا المقال

أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة محددة ب *

أدخل كلمات البحث الرئيسية واضغط على Enter